23 يونيو 2012

سلاماً على سماء عيسى

عادل الكلباني
 (1)
    الوطن باق، وليس للوطن يد فيما يحدث، فليس لعمان العظيمة والحضارة التي كتبها التاريخ قبل ألف عام  يد فيما يمارسه البعض الذين يحسبون أن وطناً كهذا سيحكمونه زمنا طويلا بالحديد والنار. سيظل هؤلاء هم الهامش، مهما حسبوا أن الزمن جامد في الصورة لهم، هؤلاء وهم كثر لا يعتبرون من الأيام وأن الزمن لن يبقي على أحد،  الحاكم والمحكوم والظالم والمظلوم والذي يمشي في الأرض مرحا والذي يمشي هونا بالكاد يجد قوت يومه. سيبقي الزمن فقط على ذاكرة الوطن والعظماء.

(2)
    فلا قوة كالقلم... يا سماء عيسى.

(3)
   كل العصور التي مرت على البشرية حين يتحكم بها الفرد كإله كان القلم يقض مضجعه، إنه يقوض بنيانه المتهالك أصلا القائم على الظلم والفساد والقهر والجبروت والاستخفاف بعقول الناس الذين وللأسف تعودوا الاستعباد والنأي بالنفس بعيدا خشية الإرهاق وما يتبعه من صنوف أخرى لا تليق بجلال الحرية وعظمتها. قول الحق لطاغية أو مستبد يورد الهلاك أو السجن أو المنفى، إذ القول بأن هنالك ظلماً وفساداً يحيق بالناس يجب تغييره بالالتفات إليهم لأنهم –أي الناس- هم مصدر هذه القوة التي يتمتع بها كل جبار في الأرض بعد كل هذا التبجيل للذات التي تورمت مع الأيام وأصبحت مرضا، الشفاء منه بعد كل هذا إما بالانفجار الذي  سيرهق الناس وإما بالخفوت والانزواء بعد أن جف ضرع الزيف والأكاذيب، وتاريخ العرب الدموي شاهد على كل هذا العطاء الباذخ في صور الجبروت والمقاصل والتصفيات التي تكرر مشاهدها منذ الجاهلية إلى الآن. يقال إن التاريخ يعيد نفسه، خصوصاً في هذه الجزيرة العربية، المباحة  بكل أنواع القهر والظلم والتخلف والفساد، بل إن من المضحك المبكي أن يكون التفنن والابتكار في اختراع حيل أخرى للفساد والسلطة والنفوذ هو ربما السباق الوحيد الذي فازت في مضماره هذه الشعوب وجلادوها على مختلف الأمم قاطبة، وإذا ارتأت الأزمنة والبشر الذين يجيئون بعدنا نقلها إلى العصر التنويري الذي يحتاج إليه، سعيرا من التحول على مستوى الفرد والمجتمع كي يكون الناس فيه سواسية كأسنان المشط.

(4)
    وحيث إن المواطن لم يغذ في جذوره أصلا بالثقافة والأدب كحياة ليحترم فيه قيمة المثقف كشاعر وقاص وكاتب وفنان فليس له صوت وليس لصوته ثمن حسب الصادق النيهوم، بل تم ترويضه على السطحي والقشور عن سبق إصرار وترصد في كل مناحيه... انظروا إلى عملية التعليم وفشلها الذريع، إلى أين ستقود البلد في قادم الأيام؟. أتذكر في هذه العجالة أن أحد المعلمين حكى لي أنه كان في زيارة للعلاج بألمانيا، وعندما حضر البروفيسور جلس أمام المريض للتشخيص، وما أن أبلغه المرافق والمترجم بأن هذا الرجل يعمل في سلطنة عمان بمهنة معلم، حتى  نهض البروفيسور الذي بلغ السبعين من العمر إجلالا واحتراما له كمعلم، وحاول معه المترجم كي يجلس، وقال البروفيسور إن هذه الفئة من الناس في ألمانيا تقدس وتحترم وما وصلت إلى هذا المنصب الطبي الكبير الذي تراه إلا بفضل هؤلاء، لولا أن المعلم أقسم بأنه سيقف إذا لم يجلس البروفيسور على الكرسي لتشخيصه، بينما يضرب المعلم  بالعصي والهراوات في هذا البلد.
***
   وحيث إنه لم يكن بنيته قائمة على احترام الرأي والرأي الآخر لغسيل في المخ دام سنوات طويلة على قيم الاستهلاك والاستعباد التي نادرا ما تندثر على مر الدهر إلا بمعجزة  يصفى فيها التراب لشجر جديد.

   وحيث إن الوطن ابتعد بعيدا في صحرائه الكبرى ضمن منظومة العالم الثالث المتخلف شكلا ومعنى، عن النضوج الحضاري الذي يتمنى فيه كل فرد أن يقارع العالم كمحصلة لعلم وثقافة وحضارة، وأصبح المواطن لا يعرف شعراءه في وطن اختزل في وجوه  بعدد أصابع اليد...
 
(6)
    يأتي من يعتقل شاعر كسماء عيسى، لأنه يجهل رجلاً كهذا طالب بالإفراج عن المعتقلين الذين أدخلوا السجن دون تهمة... شاعر كبير في قلوبنا قبل أن يأخذ هذا الإكبار في شعره كسماء عيسى الذي يغربل كل كلمة ينطقها أو قول يكتبه، كما يزن شعره ويرجله ويجمله وينحته لتبزغ منه صورة مكللة بقوة اللفظ والمعنى، وما أغنية حب إلى ليلى فخرو عنك ببعيد. لم يصطدم بسلطة ولم يعادها –على ما فيها من مثالب وأخطاء- ربما لا يُنظِّر في كتاباته كالكثيرين ولكنه يخرج إلى الواقع ويندمج مع الشباب، يتلمس معاناتهم ويهتم بهم ويشاركهم كل فرح أو حزن جلل أصاب الوطن. في الاعتصامات والاحتجاجات التي اجتاحت البلاد العام الماضي كان سماء عيسى ينصح كل الشباب بالتعقل والتظاهر السلمي... كان سماء عيسى صوت العقل والحكمة ما علمنا أنه أساء إلى أحد، أو تفاخر بنفسه بماضيه الأدبي العتيد، ولم ينافق أو يجاري السلطة في كتاباته كما يفعل كثير من الشعراء المنافقين ولم يحرض أو يقذف أحدا بشيء.
***
    وبلد بمثل هذه الظلامية في المشهد، كيف يمكن أن يعرف المواطن الجليل من السخيف، خصوصاً أنه ابتعد –أي الشاعر- عن الأضواء والأعلام، كي ينحت أدبه بما يليق به من سمت سبك الدرر في الظل كفنان، لا تكفيه المظاهر والقشور بل يوغل بعيدا في الأعماق للبحث عن الجوهر. إنه بعيد هناك نادرا ما يراه الآخرون، إنسان بسيط جدا، لكن في  بساطته يكمن سر قوته وتفوقه.
***
   في كل عمل أدبي له لا نسمع  منه  تصريحاً أو ضجيجاً، إنما يكتمل عمله كلؤلؤة البحر تشرق بالسطوة والبريق، وكمثال لا الحصر، اشتغل على كتابة قصيدة واحدة لمدة سنتين ونصف، وجاءت  في مقاطع نشرت في كتاب العام الماضي 2011م ما يقارب من ثمانين صفحة "أغنية حب إلى ليلى فخرو".
 ***
   هذا ليس إشادة بالمجان أو مجاملة تأتي هكذا في هذا السياق لرجل طيب القلب كالشاعر سماء عيسى، ولكن ما رأيته من هذا الشاعر، من تجربتي الشخصية معه، منذ سنوات، وإسداء النصائح لي في مشواري الأدبي كوني بعيدا عن العاصمة بمئات الكيلو مترات...
***
    إذ من من هؤلاء الذين يتبجحون اليوم على الصعيد الثقافي كبيرهم وصغيرهم وبالمؤسسة التي تقف وراءهم بكل درعها المادية يستطيع أن يرعى بكلمة صدق وحق وتوجيه إلى مبتدأ في الأدب يجر خطواته الأولى في هذا العالم الغامض والمجهول، وأن  يكون له صدر كبير ورحب، وواسع كسماء؟.. أعتقد جازما أن لا أحد بوسعه أبدا في عمان كلها أن يرعى إلا نفسه... ولكن سماء عيسى فعلها معي أنا شخصيا، إنه يوجهك إلى الصحيح، في الابتكار اللغوي والشعري، لقد  أصبغ علي هذا الرجل جميلاً لن أنساه ما حييت، إذ ما نشرت شيئا كقصة أو قصيدة شعر إلا وكان سماء عيسى العظيم له التوجيه والنصح فيها... بل وصل به نصحه الكريم لي قبل ست سنوات وقبل نشر كتابي الشعري "بيت السيح" أن أعيد الكتابة والقراءة دائما وأبدا في القصيدة الحديثة إذا كنت فعلا أريد أن أحمل لقب شاعر، مع أني أرسلت هذه النصوص لشعراء معروفين في الساحة العمانية وأشادوا بها وبالنشر، إلا أن سماء عيسى كان أبا طيبا ومعلما صادقا يحمل كفاءته في عمره وتجربته التي أنضجتها السنين والخبرة، ووجهني بتمزيق هذه النصوص التي كانت ركيكة وإنشاءات كتابيه، ولولاه و وتوجيهاته لأصبحت من الخاسرين.

(7)
    يقول في إحدى ملاحظاته المخطوطة في عام 2005م كنصيحة لي على ما كنت أود نشره كعمل شعري في كتاب " فلنقل إذا.. إن العزلة في مقنيات أفادتك وأضرتك في نفس الوقت... أفادتك: إذ أعطت لك الشعر الجميل هذا، خاصة فيما هو قادم من الأيام، إذ تملك روحا شعرية متميزة، وأضرتك: لأنها حرمتك الاحتكاك الذي كان سيذهب بك منذ وقت باكر إلى كيفية التعامل لغويا مع الشعر.. ولكن لا شيء ضاع حتى الآن حتى هذه الكتابات ستفيد بالطبع قفزك إلى الأمام لأنك ستنطلق من أرض لا من فراغ، ومن تجربة لا من الصفر وهذا هو الأمل القادم يا عادل.. تواصل على الأقل مع أبناء جيلك من الشعراء العمانيين، فهم جميعا عانوا مثلك في بداية الأمر مثلما مررنا نحن بالتجربة إياها، الكتابة دون وعي بأخطائها ومنزلقاتها فنحن نتعامل مع اللغة كأداة، وهي أداة صعبة والتعامل الشعري معها مختلف ومتشكل ومتحول... هكذا يختبئ الشعر لديك وسط سيل الدفق اللغوي الجارف من الأعماق الذي يجرف معه الغث والسمين في آن، وعليك بعد ذاك تنقيته وإبقاء زبدة الكلام وحذف شوائبه...
    هذه الجمل الطويلة المسترخية الفاقدة للتوتر والانجراف وصفية لا تضيف شيئا لأن تفاعلها النفسي مع الإنسان محدود جدا، أي أنها بلاغة جوفاء تصنع زينة للغيمة: أهدابها، وزينة للمطر: الدموع، هذه القصيدة أشبه بتدريبات المدرسين للطلاب فيما يسمى بحصة الإنشاء أو التعبير، ولكن لا بأس يا عادل كل شيء في الحياة يبدأ تدريبا حتى يتجاوز ذلك إلى مجهول الكتابة الشعرية...، لا نمو في التجربة، التجربة لا تقترح آفاقاً للشاعر، كي يخلق عوالم في تكرارها، تنغلق التجربة على نفسها ثم تنضغط متجهة إلى الصفر... افتح أبواب القصيدة للصور مع اعتقادك بعدم ترابطها إلا أنها في النهاية ستكون كنجوم في مجرة واحدة تسبح في فضاء واحد. ابتعد عن الجمل الطويلة الممطوطة المحشوة بزائد الكلام، اعتمد على الجمل القصيرة الأكثر إيحاء، لا تخبر، لا تؤكد، لا تقل، دعك موحيا رامزا، خافتا هادئ الصوت قليل الكلام، شعر يمتلء بالصمت والإيحاء والهمس... التجارب تختزن طويلا وعميقا في ذاكرة الشاعر وتؤتي عطاءها بعد سنين من النضج الفني".

(8)
   الشاعر( سماء) هــــــــو: عيسى بن حمد بن عيسى الطائي، ولد في عُمان – مسقط عام 1954م، أكمل تعليمه في دولة البحرين ثم واصل دراسته الجامعية وتخرج من جامعة القاهرة – كلية التجارة عام 1974م، عمل مدرسا بوزارة التعليم لمدة عشرين عاما... يعتبرالأب الروحي ورائد قصيدة النثر في سلطنة عمان إذ كان يكتب منذ السبعينيات. أصدر الدواوين الشعرية والسردية  التالية: نذير بفجيعة ما عام 1987م، مناحة على أرواح عابدات الفرفارة، منفى سلالات الليل، دم العاشق، درب التبانة، غيوم، الجلاد، ولقد نظرتك هالة من نور، أبواب أغلقتها الريح، أغنية حب إلى ليلى فخرو.

ليست هناك تعليقات: