02 يونيو 2012

بشار (البنغـــــــور)

عادل الكلباني

(1)
    قبل اثنتي عشرة سنة حين كان بعض القنوات يبث القسم الذي كان يؤديه نيرون دمشق في مجلس الشعب في عام 2000م، حين تولى سدة الرئاسة خلفا لأبيه، آنذاك تم ترقيته من رتبة عقيد إلى رتبة فريق بقرار من عبدالحليم خدام نائب رئيس الجمهورية الذي كان أحد المفسدين في الأرض وانسلخ عن النظام الوحشي الذي عايش مجازره ووافق عليها ولم يحتج في ذلك الوقت على  انتهاكات القتل والفتن التي كان يحيكها النظام السوري على الساحة الفلسطينية أو اللبنانية أو العربية على حد سواء، ولو كان هذا الخدام جادا في الانفصال عن نظام بربري كهذا لفعلها حين أقدم رئيسه حافظ الأسد على إبادة حماة ورجمها بالصواريخ ودكها بالدبابات والمدافع في عام 1981م، ليدخل التاريخ بمجزرة راح ضحيتها أكثر من عشرين ألف سوري ولكنه احتج وارتج وزلزل حين أحاله نيرون دمشق إلى التقاعد، كما يحدث عادة بشكل مريب ومخجل ومهين لكل الأعراف والقيم  في دويلات الخليج التي يتم الترقية فيها دون أدنى مستوى للكفاءة أو الثقافة أو الشهادة العلمية أو الخبرة، عدا مزاج الزعيم ليصبح بين ليلة وضحاها من اختاره يوم السعد حسب النعمان بن المنذر قديما مرفوعا في عليِّين بمرتبة جنرال، وسيتم إذاعة النبأ عليك وعلى والديك صباحا ومساء حتى منتصف الليل وقبل شروق الشمس بقليل، وستحفظ اسمه واسم عائلته غصبا على أجدادك الذين خلفوك في بلد كهذا. ألم يجد هؤلاء الأسلاف المتخلفون تربة غير هذه ليلقوا بذرتهم فيها؟ كي أرث كل هذا السواد والخوف والجهل، وحين تدور الدائرة عليه ولا ترضى عنه الآلهة يسقط ويحذف  فجأة بقدرة قادر فلا تسمع  له حساً ولا خبراً، وسيغور ذكره وذكر عائلته إلى الأبد كأنه لم يكن.

(2)
    هل خرجت عن السياق قليلا؟ في رأسي خواطر الهلوسة والغيظ. كنت أقول إن نيرون دمشق، حين كان يقسم على المصحف هذا القسم الذي سيحنث به لاحقا في مجلس الشعب الصوري -بالصاد فالشعب السوري المغلوب على أمره آنذاك العظيم الآن لم يشارك ولم يوافق على مهزلة كهذه-، كنا أنا وأخي وأمي نشاهد ذلك على قناة الجزيرة. ما جعلني أضحك حتى انبجس الدمع من عيني هو تعليق أمي الذي جاء هكذا على سجيتها المتواضعة كأنها تكلم نفسها لكنه كان حاداً وجارحاً يحمل كثبان من الهزء والسخرية على هذا الرجل طويل الرقبة –ليس العقل طبعا– "تو هذا البنغور باغي يغدِي رئيس؟".

(3)
    "هذا البنغور اللي باغي يغدي رئيس" -حسب قول أمي منذ اثنتي عشرة سنة أصبح رئيسا لشعب عظيم، لم يوقره ويحترمه، سوريا الحضارة وسوريا الأدب والثقافة والعلم والدين، سوريا خالد بن الوليد وصلاح الدين، سوريا العمارة والبهجة والنعيم، يأتي بنغور كهذا ليحنث في قسمه أولا، ويلغ في دماء السوريين تعذيبا واعتقالا وقتلا، هذا البنغور المجنون الذي تكفيه رصاصة في رأسه أو صدره تخليصا لهذا الشعب من كل هذا العذاب، يحاول تدمير أمة ربى فيها جيشاً عقائدياً عاث في الشام فسادا، هذا الجيش العار الذي سيظل من كان فيه يأتمر بالقتل والخراب وسفك دماء شعبه وتدمير وطنه يقرض أصابع الندم بمشاركته في هذه المجازر التي قلما كان لها مثيل في التاريخ، ولات حين ندم، ليحمي عائلة صغيرة تسلطت بالقهر والظلم والجبروت على ثروة هذا الشعب المناضل الذي سطر بدمائه ملحمة ختم عليها التاريخ بالخلود والأبدية، وعلى هذه الأسرة (البنغورية) بالهوان والخزي والعذاب دينا ودنيا.

(3)
    في آخر خطاب له بدا حسن نصر الله هادئا ولم يرفع يدا أو يتهجم على أحد، وبدا مرتبكا كأن هنالك من وراء الكواليس كلاماً يريد أن ينطق به غير هذا الذي تشدق به زمنا ولم يعد يصغي إليه أحد، فهذا الرجل الأشيب الذي لم يكن محنكاً سياسيا أبدا بل على العكس اتضح أنه رجل متسرع ومتهور ونظره قصير ولا يرى إلا ما تحت قدميه، مشارك عن سبق وإصرار وترصد في  ذبح أطفال ونساء ورجال سوريا العظماء، والذي لن يسامحه الشعب السوري أبدا على ما بدا منه من تصرف متطرف بالقول والفعل ومساند لنظام وحشي وقمعي خارج على الأخلاق والقيم والأعراف والأديان السماوية يدينه العالم في كل أنحاء المعمورة ضد شعب أعزل، وهذه الثورة السورية المباركة قزَّمت حسن نصر الله وأعادته إلى حجمه الطبيعي بمذهبه الطائفي الذي خرج منه وإليه يعود، ولكنه مازال يراوغ ويماطل ويدور حول نفسه حتى إذا أعياه الدوران  انخبط وسقط على وجهه... قريبا.

(4)
    في معرض الكتاب الأخير بمسقط التقيت الناشر من دمشق الذي نشرت لي داره كتابين "الحصن الأسود" و"بيت السيح"، وسألته عن الأوضاع في سوريا، لكن الرجل كان مبرمجا على ما يبثه التلفزيون السوري وقناة الدنيا: "لا تصدق كل هذا إعلام مضلل وأكاذيب". لم أعلق، فالرجل مهما كان ضيف حل علينا من وطن جريح، ولكني لعنت الشيطان في نفسي –وحين ألعنه ابن الحرام هذا أصمت ولا أتكلم ولكني أكاد أتميَّز غيظاً في الداخل-، وأتذكر أني انسحبت من المكان المخصص لبيع كتبه في المعرض، ولم أجبه بشيء، وفي مرات كثيرة حاولت التهرب منه حتى لا يراني، وأدخل معه في نقاش لا تُحمد عقباه. قل أي شيء لكن لا تحاول أن تمتهن عاطفتي وتهزأ بها وتكلمني عن المقاومة والممانعة وحزب العبث هذا، ولكني تفاجأت به وأنا  أمر على دور النشر باحثا عن كتب، فأنا أصاب بنوع من الدوخة حين أرى كل هذه الكميات من الكتب ولم أقرأ أكثرها بعد. ألقى السلام وأخذني إلى ركنه، جلسنا نتحدث عن آخر إصداراته وقيمتها، وسألني عن الشاعر سماء عيسى. أخرجت النقال وتلفنت للشاعر وأبلغني بأنه في ورشة عمل للإخراج السينمائي ولا يستطيع الحضور، بعد دقائق انسحبت من ركنه مستئذنا بظرف طارئ، ولم أره بعدها إذ غادر إلى دمشق الحرائق حسب زكريا تامر.

البنغور: طائر طويل الرقبة مشهور في سلطنة عمان.

ليست هناك تعليقات: