بدون إعادة رؤية جذرية للماضي لا أمل في الانطلاق صوب مستقبل جديد. هذا ما يؤكده القسم الأول من كتاب القاص والروائي العماني المرموق، والذي يطرح فيه رؤية جديدة لتاريخ المنطقة، تختلف جذريا عن التلفيقات التي كرستها الرؤية الاستعمارية، يضعها أمام كل من يروم تاريخا جديدا لهذا المنطقة المهمة من عالمنا العربي. ...إقرأ المزيد |
-1-
كان
المجتمع العُماني مجتمعا قبليا، ولم يزل حتى هذه الساعة كذلك. ولقد أدى
قيام دولة اليعاربة التي شهدت ازدهارا اقتصاديا، ونشوء المدن، والتوسع
الخارجي، وتمدد الاتحادات القبلية، وظهور التخصص في وظائف الدولة، إلى
إمكانية تفكيك مؤسسة القبيلة باتجاه انحلالها على مدى بعيد. إن التدخل الواسع في شؤون عُمان من قبل الاستعمار البريطاني، منذ القرن السادس عشر، أعاق حدوث هذا الاحتمال (التفكيك) باتجاه نشوء مجتمع. بل إن الاستعمار البريطاني الذي شوه التطور المستقل أعاد إنتاج تخلف هذا المجتمع القبلي الذي
كان عصيّاً عليه، فلم تعد القبائل العُمانية – بوصفها الضامن الأساسي
للاستقلال الوطني والمقاومة- حاملة أوجه حضارية وثقافية شكلت الوجه المتألق
لعُمان والعُمانيين، على مدى طويل من العطاء والتقدم.
بصدد القبيلة دعونا نقرر مسبقا أن
القبيلة – بوصفها كيانا اجتماعيا ماديا ومعنويا- تحيا وتموت، وتتناسل، أو
لا تفعل ذلك حتى تذوي وتموت وهي تتحول ككيانات وأسماء إلى كيانات وأسماء
أخرى. كما أنها تندمج في قبائل، معلنة بذلك موتا معنويا قد يكون إراديا وقد
لا يكون. علميا لا وجود لقبيلة النسب، أي ابن أو أبناء لأب وجد في
سلسلة خرافية لا تنتهي – كما يدَّعي النَّسابة العرب، وإنما تنشأ القبيلة
من أفراد من عروق مختلفة تجمعهم ظروف مختلفة ومتعددة للاتحاد والتجمع. إن
هذا التطور البدائي للقبيلة قد يستدعي إلحاق قبائل وتجمعات أخرى بقبيلة
أكبر. يتم هذا الإلحاق بالقوة، أو بالضرورة، وحتى بالرغبة في تشكيل كيان قابل للحياة وصراع الآخر.
وهكذا فإن ثقافة القبيلة –ككيان مادي ومعنوي- هي ثقافة نافية للآخر،
وبالذات في أطوارها البدائية. إن هذا النفي للآخر يتخذ أوجها وأشكالا
متعددة، فمن العزلة ومنع التزاوج إلى الغزو والحرب التي قد تُخفي أسبابا
فعلية كالصراع على الماء والكلأ، أو من أجل احتياز المشاعات الخصبة، كما
حدث في الصراعات على جبال وسهول ظفار الغنية بالماء والكلأ، فتاريخ هذا
البلد ينحصر في صراع محموم على احتياز مشاعات ظفار الخصبة، فكل قبيلة تحاول إجلاء القبائل الأخرى باتجاه الأراضي القفر، وهي
–من أجل ذلك- تسعى جاهدة لتشكيل اتحاد يعينها على تحقيق غاياتها. فاتحاد
قبائل الشحرة البطاحرة، الذي كان مسيطرا على جبال ظفار وسهولها، تم إجلاؤه
عنها عبر صراع طويل ومتنوع من قبل اتحاد قبائل القرى الذي التحقت به أفرع
عديدة من قبائل الشحرة. إن جماعات غفيرة من قبائل الشحرة انضمت إلى
قبائل إخوتها القرى "المنتصرون"، وأصبحوا بمرور الزمن "قرى" يمارسون
الإقصاء والظلم على أشقائهم في الاتحاد السابق "اتحاد الشحرة"، فلا أحد
يريد الهزيمة، لا أحد يرغب في تجرع مرارتها، ولا أحد يطيق الإقصاء، وخصوصا
إذا أخذ الصراع أبعادا اقتصادية، حيث احتل اتحاد القرى المرتفعات والأراضي
الخصبة، وسكن الشحرة الوديان.
لقد
أطلق الرعيل الأول، من أزد شنؤة الذين جاؤوا مع مالك بن فهم، وفقا
للأسطورة المعروفة، أسماء قبائلهم على أغلب وديان عُمان. إن أحدا لا يذكر
اليوم هذه القبائل التي أنحلت وماتت وتناسلت قبائل أزدية أخرى، بأسماء أخرى
وكيانات أخرى، حسب التطور المتاح والضرورة في أحيان أخرى. إن مسألة
القبيلة الجديرة بالاهتمام والمثيرة للجدل تستقطب اليوم أوسع اهتمام في
الشرق، باعتبارها تشكيلة اجتماعية غابرة، وهي نموذج معقد للتطور المشوه
وغير السوي، في ظل الاستعمار القديم والإمبريالية الراهنة والرأسمالية
المتوحشة. إن القبلي في هذا التطور المشوه مغرم بمظاهر القوة أو ادعاءاتها
المبتذلة، فهو باسل ومقدام عندما يتوهم في الآخر مظاهر ضعف، وهو جبان رعديد
وماسح "جوخ" –كما يقولون- عندما يرى في الآخر مظاهر القوة وجبروتها. إن
معايير تقييم قوة الآخر وضعفه، في العرف القبلي، إنما هي معايير ذاتية،
نفسية، وأحيانا ظواهر صوتية سحرية، فالمدفعية التي أدخلها لورنس على جيش
البدو المناصر للثورة العربية، وفق الادعاءات، ودويها الذي يشبه عواء
الذئاب في الصحراء الخالية، والألغام التي تتطاير كما قوى سحرية خفية، جعلت
المقاتلين البدو يتفجرون حماسا، تحت التأثير النفسي العارم لرجل بائس
وتافه ومُخَنَّثٍ، كما لورنس.
وفي الوقت الراهن، حيث طرحت أمم وشعوب متعددة نفسها في
إطار المجتمع المدني الدولي، وفي خضم السياسات والنضال الراهن للشعوب،
فإننا نجد قطاعات واسعة من هذه الأمم والشعوب تضيف رصيدا نوعيا إلى المجتمع
المدني الدولي، لا بحكم ثراء حضارتها الفريدة فقط، ولكن بحكم ما يثيره
حضورها الفَتِيُّ من نضال مشروع وقضايا عادلة لعبت في بعضها التشكيلة
الاجتماعية للقبيلة، في أطوارها المختلفة، دورا سياسيا بارزا، وأثارت
صعوبات جمة، وعراقيل شتى. إن التغلغل الإمبريالي في شعوب الشرق، وبالذات في
الشعوب العربية والإسلامية، والهيمنة الاستعمارية، والدور الذي لعبته
القوى الخارجية الإمبريالية، على صعيد حسم التناقضات لصالح قوى اجتماعية
محددة، لم يولد قوى اجتماعية تابعة للإمبريالية فحسب، في هذه الشعوب، وإنما
شوَّه التطور اللاحق، وأعاق التطور الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي
المستقل. وفي أحيان كثيرة دمَّر المؤسسات التاريخية لهذه الشعوب، دون أن
يمنحها سوى مؤسسات تابعة ومغتربة ومشوهة، وفي الحدود التي اقتضتها عملية
النهب الإمبريالي ذاتها. إن هذه المسألة، ومسائل أخرى تطرحها المداخلات حول
مسألة القبيلة لدى شعوب الشرق، توضح بجلاء كيف أنه من المستحيل إعادة بناء
تجربة الرأسمالية الأوروبية لدى شعوبنا، في الطور الراهن للإمبريالية، وأن
هناك دربا واحدا لا مناص منه، أمام هذه الشعوب، هذا الدرب الذي يمثل طريق
إنجاز المهمات الديمقراطية للبرجوازية كمرحلة أولى على طريق التحرر الوطني،
طريق التحرر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المستقل.
إنني أود أن أشير إلى خطأ وخرافية ذلك المفهوم الذي
حاولت بعض النخب القبلية في بلادنا ترسيخه في الأذهان، والذي ينطلق من نظرة
عرقية لمفهوم القبيلة ومن أساطير تتعلق بالأنساب التي تتفرَّع إلى غصون
وفروع، وأحيانا هيئة شجرة خرافية للقبيلة تمتد جذورها إلى ما قبل تأسيس
الاجتماع البشري، بل وإلى جد البشرية الأسطوري آدم. إن هذه المفاهيم
العرقية الصافية التي لا تجد لها أساسا علميا سوى في أساطير وحكايات خرافية
غامضة يمكن فهمها وتمحيصها على ضوء مصالح بعض النخب القبلية، وعلى أساس
الصراع على الأرض بما تتيحه من ماء وكلأ ونار، بل ومن خلال معرفتنا
بالتطورات الاجتماعية في بنية القبيلة في عُمان –على الأقل- هذه البنية
التي كانت عرضة لتطورات عدة على صعيد المفاهيم الثقافية والتقاليد والدور
السياسي والاقتصادي، في اطار التشكيلة الاجتماعية ذاتها.
يؤكد الأستاذ سلطان أحمد عمر، في كتابه القيِّم "نظرة في تطور المجتمع اليمني"
أنه: «يجب ألا يتبادر إلى أذهاننا أن لفظ "قبيلة" عبارة عن لفظ يدل على
جماعة تجمع بينها صلة القرابة والدم. ليست القبيلة هي فروع وأغصان من أسر
وأجناس. ليست هي جدول للنسب. فالحالة الاقتصادية السياسية هي التي تقرر
وظيفة الجماعة. وهذه أيضا تسمى قبيلة.» إن النتائج العامة هنا لا تبدو
صحيحة فقط، بل هي ثمينة أيضا، تبرز أهميتها أكثر فأكثر على ضوء سيادة
المفاهيم العرقية للقبيلة في الدراسات السائدة عن الجزيرة العربية، وعلى
ضوء ما نلحظه من انتشار هذه المفاهيم الغامضة في فكر العديد من الأوساط
الثقافية في البلاد العربية وثقافتها. بيد أن ما حفظ وحدة القبيلة وأعطى
دورها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، في التشكيلة الاجتماعية السائدة، كل
هذه الأهمية ليس فقط وظيفتها الاجتماعية "وحدة الجماعة"، والاقتصادية
والسياسية، وإنما أيضا وظيفتها الثقافية والروحية. إن المدافن الرائعة في
سمد الشأن، وتلك التفاصيل الدقيقة لهندسة قنوات الري "الأفلاج"، والمعمار
في مدينة المنصورة بظفار، وحتى جداريات الكهوف، وكل تلك الفنون الرائعة،
والإيقاعات والأغاني المتحدرة من ذاكرة موغلة في القدم، لم تنتجها وظائف
اقتصادية وسياسية فقط، وإنما لعب تطور اللغة ومعطيات البيئة وصراع القبيلة
من أجل الحفاظ على بقائها وخلق أسس وحدتها، وكذلك مجموعة من الأساطير
والرموز الثقافية والدينية دورا في تقرير وظيفة هذه الجماعة التي تُسمَّى قبيلة.
إن وجود جماعة، أية جماعة، في الحالة الاقتصادية
والسياسية الواحدة لا يمكن أن يفرز قبيلة، وهكذا فإن هذه الجماعة في حاجة
–عدا الحالة الاقتصادية والسياسية التي تقرر وظيفة الجماعة- إلى إنتاج
مجموعة من الشروط الثقافية والرموز والمفاهيم والأساطير والأوهام، وربما
الديانات، حتى تتمكن من الاصطفاف في هيئة قبيلة. إن ذلك قد يستغرق ردحا
من الزمن، غير أن الزمن هنا يبدو مرهونا بمجموعة الشروط التي أشرنا إليها.
تجدر الإشارة هنا إلى أننا نقصر نقاشنا على ملامح تطور القبيلة في عُمان،
،في إطار العموميات فإننا قد نشير لماما إلى تطور القبيلة في الجزيرة
العربية. إن القبيلة حتى تغدو مؤسسة، في إطار تشكيلة اجتماعية محددة، فإنها
تعيد شروط إنتاج نفسها. ومن هنا فإننا نفهم كيف أن وجود الجماعة البدائية
ليس شرطا لنشوء القبيلة، ليس لأن القبيلة ليست جدولا للنسب، وذلك يبدو
صائبا، بل لأن تطور القبيلة، شأنه شأن كل تطور اجتماعي، لا يمكن معرفته في
اصطفاف تبسيطي فج يأخذ هذا المنوال:
1- الجماعة البدائية (الأسرة).
2- القبيلة.
3- القبيلة المؤسسة.
4- اتحاد القبائل ("التمائم").
5- مرحلة انحلال القبيلة وفنائها.
وهكذا فإن هذا التبويب ليس مرفوضا لنزعته التبسيطية،
بل لما قد يحمله من نتائج، ففي الوقت الذي عرفت عُمان سمات مرحلة اتحاد
القبائل، بسيطرة اتحاد الأزد عليها، فإن هذا التطور الهائل، بكل ما رافقه
من معاناة، وحروب، وتأسيس للدولة، انتكس لتعود عُمان إلى مرحلة القبيلة شبة
البدائية غُبَّ الحرب الأهلية المذهبية الأولى سنة 279هـ/792م التي لعبت
مؤسسة القضاء دورا كبيرا في تأجيجها. وكان من أبرز نتائجها ليس فقط فقدان
عُمان مكاسب تطورها الاجتماعي الواعد، وإنما فقدانها لاستقلالها ورضوخها
لسلسلة من الغزاة أمعنوا فيها تخريبا وتدميرا.
لقد
عرفت القبيلة في طور الإنتاج البدائي ولعبت دورا مميزا في تشكيلات
اجتماعية مختلفة، ليس في عُمان فقط وإنما في الجزيرة العربية. وكانت مؤسسة
القبيلة في هذه المناطق أساس الدولة ومحور النشاطات الاجتماعية والثقافية
والسياسية البارزة، حتى بداية التغلغل الاستعماري والهيمنة الإمبريالية
الراهنة. ومن هنا فإننا لا نقبل الحديث عن نظام عبودي قديم في الدولة
اليمنية القديمة، هذه الدولة التي نقل اتحاد الأزد بعض ملامحها إلى عُمان،
فعدا أنه لا يمكن الحديث عن مجتمع رق وأسياد وعبيد في الدولة اليمنية
القديمة، ولا عن كون العبيد يشكلون الطبقة الأساسية في عملية الإنتاج، كما
يقول الأستاذ سلطان أحمد عمر في كتابه المشار إليه، فإنه لا يمكن الحديث أصلا عن وجود ملكية خاصة للأرض.
-2-
إذاً
فإن الحديث عن وجود دولة مركزية قوية أفرزتها التغيرات الجوهرية في قوى
الإنتاج وعلاقاتها داخل القبيلة اليمنية ذاتها لا يستلزم بالضرورة الحديث
عن نظام عبودي، فوجود سلطة مركزية قوية لإدارة أعمال الرَّيِّ وجدت في إطار
تشكيلات اجتماعية متعددة. كما أن الأرض التي كانت تحت إشراف الملك في
اليمن القديم كانت مرهونة لا بقدرة الملك على إخضاع القبائل القوية وإنما
أيضا بمدى سيطرة الدولة على مشاعات تمتلك الأرض فعليا. ولم يكن للدولة في
أوج نفوذها سوى سيطرة اسمية عليها. وسنرى أن مشكلات كهذه ستثار بصدد الدولة
التي أفرزها التطور الاجتماعي والسياسي للقبيلة العُمانية في طور اتحاد
القبائل، والتي اكتسبت ملامحها عبر تظافر وتطور ونمو أوسع مؤسسات هي كما
يلي:
1- مؤسسة الإمامة: النظام السياسي والأيديولوجي والثقافي.
2- مؤسسة الرَّيِ العُمانية: مؤسسة الفلج، أي النظام الاقتصادي.
3- مؤسسة اتحاد القبائل: التمائم، القاعدة الاجتماعية، مجلس أهل الحل والعقد.
4- مؤسسة القضاء: النظام القانوني والشرعي.
إن طبيعة عمل هذه المؤسسات لم تكن واضحة بما فيه
الكفاية، بل كانت متداخلة، وقد حكمها العديد من التناقضات الثانوية، بيد أن
أبرز هذه الصعوبات كان يكمن في خلق التوازنات الدقيقة بين المطالب
الأيديولوجية الأباضية لمؤسسة الإمامة وبين مصالح اتحاد القبائل. ما طبيعة
هذه الدولة؟ ما حقيقة المصالح التي أفرزتها التشكيلة الاجتماعية؟ وما نمط
إنتاجها السائد؟ ما طبيعة المؤسسات التي أفرزها تطور القبيلة؟ بل وما حقيقة
التناحرات في التشكيلة الاجتماعية التي شكلت مؤسسة القبيلة العُمانية أحد
ظواهرها الرئيسية؟ وأين موقع القبيلة من المشروع الاستعماري؟ وما طبيعة
التناقضات التي حكمت العلاقة بينهما؟ ثم ما آفاق ومعطيات مؤسسة القبيلة على
ضوء التطورات الراهنة والمنظورة في بلادنا؟ نود التنويه هنا بأننا لا
ندَّعي قدرتنا على إحاطة هذه القراءة العابرة بإجابات وافية عن تلك
الأسئلة، بيد أن هذه الأسئلة تظل مطروحة على جدول أعمال الباحثين في
بلادنا، ففي هذا السياق نود أن نشير إلى أن تطور مؤسسة الري العُمانية
("الأفلاج") القائمة على أساس مشاعات قريبة من النمط الآسيوي للإنتاج، وفي
إطار تشكيلة اجتماعية خاصة، والتطورات التي أفرزت الاتحاديين القبليين في
عُمان، أي اتحاد قحطان واتحاد نزار، وفيما بعد اتحاد الهناوية واتحاد
الغافرية ... قد أفرزت دولة الإمامة، هذه الدولة الدينية التي لم تفرض
سيطرتها على الأراضي العُمانية كافة إلا لماما. وأيا كانت طبيعة هذه
التشكيلة الاجتماعية القائمة على أساس مشاعات الفلج واتحاد القبائل ومؤسسات
الإمامة ببنائها الفوقي ("الأباضية")، فإن كل ذلك لا ينفي أنه كان لهذه
التشكيلة الاجتماعية تناحراتها الخاصة، وبالتالي الشكل الخاص بالاستغلال.
ومن الطبيعي أن ظهور الدولة كان مرافقا لاستفحال هذه التناحرات وضرورة
ضبطها والسيطرة عليها وتوجيهها. وكذلك ترتيب مسألة تراكم الفائض في إطار
مصالح التمائم، تلك الفئات المسيطرة في إطار التشكيلة التي أفرزت
الدولة-الإمامة.
إن أمن مشاعات الفلج والصراع من أجل الاستحواذ عليها شكَّلا أساس التاريخ العُماني حتى بداية الهيمنة الاستعمارية. بالضبط كما كان: «عدم وجود ملكية الأرض، مفتاح كل أوضاع الشرق، وفي هذا يكمن تاريخه السياسي والديني»
وفقا لتلك المقولة الشهيرة لإنجلز. وفي سياق هذه الملاحظات فإنه بالرغم من
تطور القبيلة في عُمان تطورا ملحوظا، وانتقال الجماعة إلى طور القبيلة،
ومن ثم القبيلة المؤسسة، فإن هذه القبيلة لم تشهد تقسيما متكاملا للعمل
عرفته بعض قبائل شعوب أخرى. وهكذا فإن القبيلة في عُمان لم تعرف فئات المحاربين المتفرغين للحرب،
وإن كنا نلمح ملامح هذا التطور في دولة اليعاربة، هذه الدولة التي لم
يُقيَّض لها أن تستمر طويلا بفعل التناقضات التي حكمت مصالح اتحادي
الهناوية والغافرية، وبفعل المؤامرات والمداخلات للمشروع الاستعماري
البريطاني الذي بدأ يطرح بواكيره آنذاك في بلادنا. إننا نضيف: إن عدم وجود
هذا التقسيم الكامل للعمل ليس مرده إلى ضعف مؤسسة القبيلة وبدائية الدولة
ومحدودية الرقعة الزراعية والرعوية فقط، وإنما أيضا إلى تلك الخصوصية التي
حكمت الصراعات الدموية بين القبائل السقوية والقبائل الرعوية، ففي الوقت
التي امتهنت القبائل الرعوية الحرب، أو تحديدا السلب والنهب والقرصنة،
وأقضَّت مضاجع المشاعة ودمرتها مرات عديدة عبر موجات بشرية تندفع من
الصحراء في صراع محموم على المشاعة، فإن القبائل السقوية هي التي شكلت
الملمح الحضاري للإنسان العُماني، وهي التي شكلت قنوات الرَّيِّ البديعة،
وأقامت الدولة، ووطَّدت المؤسسات، وانبرت للدفاع عن الوطن ضد الغزاة
الأجانب.
-3-
وبالرغم
من أننا نلحظ، من استقراء التاريخ العُماني الحديث للقبيلة العُمانية،
وجود قبائل رعوية بالكامل، وكذلك وجود قبائل سقوية بالكامل أيضا، إلا أن
الصراع الطويل على أرض المشاعة، في ظل محدودية الرقعة الزراعية والرعوية،
أوجد تداخلا، حيث استوطنت قبائل رعوية المشاعة وأصبحت سقوية. كما أن سقوية
أخرى قد أجليت عن المشاعة نحو الصحارى التي تحتلُّ رقعة واسعة من الأرض
العُمانية، متروكة لخيار الفناء أو امتهان حرفة الرعي. إن تلك الصراعات،
وهذا التداخل، والمصالح المادية للجماعة والبشر لم يُفضيا إلى القضاء على
معالم القبيلة البدائية التي تقوم على رابطة الدم والقرابة، وإنما أديا إلى
بروز القبيلة المؤسسة، هذه القبيلة القائمة على اتحاد المجموعات القبلية
وانصهارها في قبيلة مؤسسة على أساس المصالح الاقتصادية والسياسية، أي
المصالح المادية على الأرض. وبغض النظر، في أغلب الأحوال، عن أي روابط
ثقافية أو خرافية أو نفسية، فإن كل ذلك سيغدو واضحا جليا، في طور تطور
القبيلة المؤسسة إلى طور أعلى هو طور اتحاد القبائل.
إن
اتحاد القبائل حافظ على أهم سمات القبيلة، أي تلك التقاليد التي شكلت
البيئة المعنوية والقيمية للقبلي. وكانت ديانة القبلي الكبرى والحقيقة
المطلقة يعززها ذلك التكافل والتضامن والولاء العميق الجذور في تقاليد
المشاعية البدائية. إن كل هذه السمات الأولى للقبيلة تم رفدها في الطور
الأعلى لاتحاد القبائل بمعطيات أسطورية، وبحشد من الإيقاعات والأغاني
والحكايات والرقصات، وبرموز متألقة لمغامرة القبيلة الكبرى في مسيرتها
الدامية نحو النبع، وفي اتجاه الشواطئ القصية لبحر يمتد واسعا وبعيدا...
بحر يخفي خلف قناعه الأزرق الوديع تاريخ المغامرة الدموية للقبيلة
العُمانية. لقد كان من الطبيعي أن يجري تطويع كل هذه المعطيات وترحيلها إلى
الدولة التي كان يتم وضع هياكلها، كما كان يجري تقعيد المصالح
الأرستقراطية القبلية، التي كانت تولد، من أحشاء اتحاد القبائل
("التمائم"). ولأن المشاعة، التي أصبح الإمام (رئيس الدولة) رمزا لها
وللمدن التي تكونت على هامشها. وأصبحت الحاجة ملحة إلى وطن وأيديولوجيا.
ولقد كانت الأباضية الجمهورية الطهورية خيارا متاحا لدولة لم تتوطد ملامحها
بعد، ولمشاعة قلقة، وقبائل لم تزل ذاكرتها الديمقراطية متوقدة.
أدى
عدم استقرار المشاعات، والصراع الدموي عليها، إلى ميل واضح لدى القبائل
السقوية إلى الأيديولوجيا. لقد أظهرت الحروب والفتن، التي امتدت طويلاً،
والغزاة الفرس، وطغيان الإمبراطورية الإسلامية الأموية، مدى الحاجة إلى
بروز الدولة. ومن هنا فلقد كان قبول القبائل السقوية بالإباضية تعبيرا عن
نزوع هذه القبائل النسبي إلى الطاعة والنظام، وإلى مفهوم عدالة غامض، في
أعماق الذاكرة القبلية البدائية. إن ظهور الفائض كان سابقا على طور تطور
القبيلة في عُمان، حتى مرحلة اتحاد القبائل. بيد أن هذا الفائض الذي كان
محدودا وبطيء التطور بددته الحروب القبلية وغارات القبائل الرعوية (البدو)،
وتدمير الغزاة الفرس، والأمويين، والعباسيين، والحربان الأهليتان الأولى
792م. والثانية 1718- 1747م. وهكذا فإن فترات الاستقرار النسبي المحدود،
كما في مطلع الدولة اليعربية، لم تتح توطيد دعائم الدولة، ولا أتاحت توفير
الاستقرار اللازم لتطور مستقل، ذلك الاستقرار الضروري لخلق المقدمات
المادية لإبداعات الشعب على صعد شتى. لقد دفع العُمانيون ثمنا باهضا للحفاظ
على استقلالهم، ولعب اتحاد القبائل السقوية دورا بارزا في الذود عن هذا
الاستقلال عبر المؤسسة السياسية والأيديولوجية لهذا الاتحاد ("الإمام").
صحيح أن الحروب القبلية، وربما الحربين الأهليتين، وطبيعة تطور الاتحادين
القبليين (قحطان ونزار)، وفيما بعد الهناوية والغافرية، قد حملت في حقيقتها
المستترة صراعا على الفائض، لكن ذلك كله ليس سوى نتيجة عامة. وإن مزيدا من
إلقاء الضوء على طبيعة الصراع بين الاتحادات القبلية في عُمان ربما
سيمنحنا رؤية أوضح لفهم أعمق.
نستطيع أن نحدد طور مرحلة اتحاد القبائل ببعض السمات والخصائص التالية:
1- لم يعد طور اتحاد القبائل قائما على صلات القرابة والدم، وإنما أصبح يتحدد بالوظيفة السياسية والاقتصادية والثقافية.
2- ترافق ظهور اتحاد القبائل والحاجة إلى مزيد من حشد
الطاقات البشرية من أجل أمن المشاعة، وتوفير أوسع الطاقات البشرية لبناء
المدن والعمران وصيانة قنوات الري، وللحروب الداخلية والخارجية.
3- تلازم ظهور الدولة في عُمان وبروز اتحاد القبائل.
4- مع تأسيس الاتحاد أخذت ملامح الديمقراطية البدائية
تتلاشى شيئا فشيئا لصالح سيطرة التمائم. وتعقَّدت العلاقات الإنسانية في
إطار القبيلة. وبرز نوع من التراتب والهيكلية في بنية القبيلة –كما سنرى-
وأخذت ملامح مؤسسات بدائية، ضمن القبيلة، تبرز شيئا فشيئا.
5- الاتحاد نفسه تزامن واشتداد الصراع على الفائض والمشاعة، ورافق تأسيس المدن الساحلية وتطور بعض المشاعات إلى قرى/مدن.
6- بدأ الاتحاد على شكل تحالفات بين القبائل، وتطور إلى
هيكلية قسَّمت عُمان إلى اتحادين قبليين، بيد أن لهذه التحالفات أصلها
التاريخي في الصراع على الأرض عموما والمشاعة بصفة خاصة، فاتحاد الأزد تطور
إلى اتحاد قحطان، وهو الاتحاد الأسطوري الذي سيطر على الأرض والمشاعة
غُبَّ طرد الغزاة الفرس من عُمان. وذلك على حساب طرد السكان العرب الأصليين
("البياسرة")، وتحويلهم إلى ما يُشبه العبيد. كما أن اتحاد نزار وجد أصوله
في خط الهجرة الذي سلكته القبائل اليمنية الشمالية "العدنانيون" بعد توطد
سيطرة الأزد.
7- على صعيد التقاليد والأعراف فإنها بتوطد الاتحاد اكتسب
بعضها قوة القانون، وأصبحت لها صياغاتها. كما أن نوعا من تقسيم العمل لم
تعرفه القبيلة المؤسسة أضحت ملامحه تظهر على صعيد الاتحاد، فهناك قبائل
تخصصت، مثلا، في إصلاح قنوات الرَّيّ، وأخرى في حفر الآبار وهندسة الأفلاج.
وهناك قبائل وأسر احترفت القضاء والأمور الروحية والدينية، كالكنود
والخروصيين.
8- شكَّل الاتحاد أساس الدولة وقوَّتها المسلحة، بل ومصدر
قرارها السياسي. وسنرى أنه بقدر ما يتوصل اتحادا نزار وقحطان إلى ائتلاف
سياسي فإن الدولة تتوطَّد. والاستقرار يعم. وبقدر ما ينقسم الاتحادان،
وتثور المطامع الصغيرة للتمائم، وتتربَّع على سُدَّة نزار وقحطان، أو اتحاد
الهناوية والغافرية، فيما بعد، قياداتٌ ضيقة الأفق فإن صورة الحرب الأهلية
بكل أهوالها ترتسم في الأفق.
-4-
منذ
القرن الثالث قبل الميلاد عرفت عُمان نوعا من الزراعة التي نشأت على ضفاف
الأودية التي تغمرها السيول، بيد أن ردحا طويلا من الزمن اقتضته مجمل
التطورات في عُمان لكي يمكن الحديث عن مشاعة تعتمد على أنظمة ري متقدمة. إن
الاحتلال الفارسي لعُمان، والذي شهد نهايته في عهد الإمبراطور الفارسي
فولوكاسيل الثاني بقيادة اتحاد الأزد، نجم عنه تبادل خبرات متقدمة وحضارة
فارس، في مجالات عدة من أبرزها مجالات الرَّيّ. كما أن ثراء خبرة اتحاد
الأزد؛ هذه القبائل اليمنية العريقة في حضارتها وخبراتها، والتي نجمت
هجرتها عن تدهور الحالتين السياسية والاقتصادية في اليمن، والتي بلغت أوج
تدهورها عبر انهيار السد الأسطوري في مأرب؛ إن كل هذه التطورات قد أتاحت
لاتحاد الأزد البدء بالعمل على تطوير المشاعة القبلية حول الفلج، هذه
المشاعة التي اكسبت عُمان عبر تطورها وجهها الحديث. أود أن أشير هنا، إلى
أن تاريخ المستوطنات القديمة في عُمان يظل مجهولا وغامضا، أو على الأقل فإن
ما هو متاح معرفته لدينا محدود، بيد أنه يجدر التنويه بأنه لولا أقوام تلك
المستوطنات، سواء مستوطنات الصيد أو مستوطنات صهر النحاس، ولولا تراكم
خبراتهم عبر سنين طويلة، ولولا تلك المعاناة والتجارب لأمد يمتد طويلا في
غور التاريخ للجماعات الأولى، لما أمكن للمشاعات اللاحقة أن تتأسَّس وتزدهر
وتتطوَّر بكل هذا الثبات. لقد اندثرت المستوطنات الأولى للجماعات القديمة
("العرب البياسرة")، ولم نعد نعرف عن تاريخها سوى القليل، غير أن مأثورات
عميقة وغامضة لهذه الأقوام تظل مترسبة في أعماق الانسان العُماني الرَّاهن.
إن
القبيلة في طور تطورها إلى مؤسسة تكون لها سماتها التي تعتمد على الحالة
السياسية والاقتصادية لوضع أسس وحدتها. وبقدر ما يبدو تعبير الحالة
السياسية والاقتصادية عموميا فإن البيئة الثقافية للقبيلة تلعب دورا ربما
يفوق الشروط السياسية والاقتصادية. إن صلة القرابة ليست سوى أسطورة حاكها
خيال مُتوقِّد. وهكذا فإن السيد "حوقطان"، أي قحطان الجد الأسطوري لقبائل
جنوب الجزيرة العربية، يبدو متألقا كخرافة حقيقية في التوراة القديمة، بل
إن معظم الشعراء الكلاسيكيين في عُمان يرتوون من مَعِيْنِه. ويبرز زمنه
ككبير عائلة، حنون، تفرقوا عن جنازته غُبَّ لحظات ولمَّا تزل ذكراه كما ثرى
لحده طرية. تبرز مؤسسة القبيلة عبر بيئة ثقافية تُشكِّلها لُحْمة من
الرموز والطقوس والحكايات والأقاويل والأكاذيب والأوهام. إن ثراء كل ذلك
يعتمد على معطيات كثيرة من أبرزها المعطيات الاقتصادية والسياسية، وتطور
اللغة، والاحتكاك الناجم عن تبادل الخبرات، بيد أن حدّاً أدنى من كل ذلك
يبدو ضروريا لكي تغدو القبيلة مؤسسة. وفي الإطار نفسه فإن العادات والأعراف
تلعب دور القانون في المجتمع الحديث. إن قوة هذه العادات والأعراف
والتقاليد مرهونة بمؤثرات البيئة ومدى ربطها بتصوُّرات سماوية (دين).
إن
الرشيد، أو الشيخ، في الغالب منتخب، أو يتم اختياره ضمنا. هكذا هو الأمر
في القبيلة المؤسسة. وبقدر ما كان هذا تعبيرا عن ممارسة بدائية للديمقراطية
فإن هذا المكسب الهام للقبيلة بدأ يكتنفه الغموض وتحيط به المؤامرات
والدسائس، فمع توافر نوع من تقسيم العمل في القبيلة، ومع ظهور الفائض
والتراكم النسبي للثروة، عبر أمد طويل، وفي إطار الحاجة إلى زعيم قوي
للقبيلة، في ظروف خاصة، ومن خلال القسر والفتن والتصفيات، بدأ بعض رشداء
القبائل النافذين يعملون لكي تصبح الزعامة أو المشيخة حقا مكتسبا لأسرهم،
أو ليكون انتخابهم قضية شكلية واستكمالا للطقوس. إن زعماء الأسر النافذة للقبيلة في عُمان أصبحوا –بحكم الثروة ومن ثم النفوذ- رشداء بسلالات مصغرة لسلاطين صغار.
إن ذلك بدا واضحا في طور اتحاد القبائل. ولا شك أن كل ذلك أيضا قد استغرق
وقتا طويلا وتغييرات في إطار المشاعة واتجاه للمَرْكَزَة في القبيلة نبع من
الحاجة إلى الأمن والاستقرار، وبالذات لدى القبائل السَّقَوِيَّة.
وبقدر
ما توطد نفوذ زعماء وسلالات هذه الأسر النافذة في القبيلة فإن نزعة نحو
الهيمنة والسيطرة، وربما الاتحاد، قد بدأت تقود هذه الأسر نحو قبائل
وزعامات الأسر الأخرى. إن اتحادا واسعا للقبائل قد بدأ يتحقق، إما عبر
الحروب والدمج بالقسر، وإما عبر التحالفات والمصالح المشتركة. لقد كانت
الحاجة ملحة إلى أوسع الطاقات البشرية من أجل صد الغزاة الأجانب. ومن أجل
ردع غارات القبائل الرعوية القادمة من المحيط الصحراوي لعُمان. كما أن
التناحرات قد بدأت تتضح، والتمايز الاجتماعي، ضمن أفراد القبيلة، بدا
مقبولا. وباختصار فإن وجود القبيلة المؤسسة المستقلة تجاوزته التطورات، ولم
يعد يعني الأمر الكثير، ذلك أن تباشير دولة قد بدأت تطرح نفسها. في
عُمان يُطلق على زعيم القبيلة لقب رشيد أو شيخ. ومن مجموعة الرشداء يبرز
"التميمة"، وهؤلاء يشكلون زعماء الاتحادات. كما أن "التمائم" في عُمان لا
يتجاوزون العشرات. إن هذا التعقيد الشديد اللاحق في بنية القبيلة تم على
حساب جملة أمور من أبرزها تلك الديمقراطية البدائية التي امتازت بها
الجماعات الأولى والقبيلة في طورها البدائي وفي طورها المتوسط. إن سلب
أفراد القبيلة حقهم التاريخي في اختيار الرشيد وتقييده لم يتمَّا دون صراع.
سالت دونه دماء كثيرة، غير أن ميل القبائل السقوية إلى الاستقرار وإلى
وجود زعامة قوية، واضطراب أمر المشاعة أسهما في تجريد هذا الحق من صيغته
الصريحة المباشرة. يجدر التنويه بأن القبائل الرعوية حافظت على تقاليدها
الديمقراطية البدائية، وظل امتياز أفراد القبيلة بانتخاب الرشيد (الشيخ)
وعزله ساري المفعول حتى منتصف القرن العشرين، حيث عصفت تطورات جمة ببنية
القبيلة وتقاليدها على أكثر من صعيد.
أدى
بروز التمائم إلى التقليل من دور الرشيد وتحجيم صلاحياته، وأحيانا أخرى
إلى سلبه إياها. إن كل ذلك كان رهناً بأمور عدة أبرزها ما يلي:
أ- صيغة الاتحاد: ليس ثمة نصوص مكتوبة تحكم الاتحاد. إن
الاتحاد ذاته ليس سوى اعتراف بحالة واقعة، ففي اتحاد القبائل الرعوية، حيث
تكون علاقة الرشيد مباشرة وديمقراطية بأفراد القبيلة فإن تميمة الاتحاد
تغدو رمزا لتحالفات أوسع بين القبائل. أما في اتحاد القبائل السقوية، حيث
كان التمايز في الثروة أوسع بين أفراد القبيلة، وحيث تعقيدات تصريف مصالح
الرعية، وحيث ثمة مشاعة ثم قرية ثم مدينة، وبالنظر إلى العلاقة المعقدة
والمزدوجة التي حكمت دوائر عديدة، فإن هذه الدوائر كانت متداخلة، ولم يكن
ثمة قنوات محددة للاتصال. في ظل كل ذلك، وفي اطار اتجاه للمركزة نبعت من
ظروف المجتمعات السقوية ذاتها، وفي ظل العلاقات المتأرجحة بين الاتحاد
والإمامة، فإن الرشيد أصبح في هذه المجتمعات السقوية-أي مجتمعات مؤسسة
الفلج- خيلا لظل التميمة الكبير.
ب- الحالة السياسية والاقتصادية: على الأغلب أن اتحاد
نزار –مثلا- اتحاد للقبائل الرعوية التي ظلت بمنأى عن سلطة الدولة في أكثر
الأحيان، حتى في أوج ازدهار الدولة، وبالتالي فإن التعقيدات التي حكمت
علاقة الرشيد باتحاد قحطان "يمن" الذي كان اتحادا للقبائل السقوية على
الأرجح مرتبط بمؤسسات عدة.
إن
الاتجاهات التي سادت هذا الاتحاد (قحطان)، ومن بينها اتجاه المركزة، أدت
إلى التقليل من دور الرشيد لصالح التمائم. لقد اضطلع اتحاد قحطان بعبء
إنشاء الدولة، وخاض معارك متصلة للدفاع عن هذه التجربة الوليدة. وشكلت
البيئة الزراعية لهذا الاتحاد، وطبيعة المجتمع السقوي (مجتمع الفلج)
المهدَّد بسياج الصحراء البشري والموروثات اليمنية، ميلا مباشرا
للأسطورة والأيديولوجيا والتدين، وقبولا لمعطيات الانضباط والخضوع واتجاهات
المراتبية والمركزة في القبيلة. إن كل ذلك بمقدار ما شكل مكسبا حضاريا حمل
في طياته –أيضاً- البيئة التي مهدت للاستبداد والخنوع. كما أن الدولة
الوليدة ذاتها، وصلاحيات رئيسها الإمام الغامضة، ونفوذ مجلس أهل الحل
والعقد، عوامل أدت إلى سلب صلاحيات الرشيد (الشيخ) لصالح التمائم، الأمر
الذي كان يعني تحسين مستوى اتخاذ القرار من حيث مستوى القدرة على التعبئة
والزمن والإنجاز، وهي أمور تطلبتها طبيعة صد الغزاة الأجانب، وسلامة الدولة
الناشئة، والذود عن الوطن الوليد. ويجدر التنويه هنا بأنه في أشباه
الاتحادات القبلية، وهي الاتحادات التي لم ترق إلى مستوى الاتحاد التام،
كاتحاد بني عمر، واتحاد الحواسنة، أعاقت ظروف عدة هذا التطور، فقد اتجهت
إلى منح الرشيد و"العقيد" صلاحيات واسعة بلغت أحيانا كثيرة حد الاستبداد
المريع.
إن
كل ذلك نبع من البيئة الجغرافية لاتحادي الحواسنة وبني عمر. كما أن فقر
البيئة، ودورَ هذين الاتحادين السياسيَّ الكامن في الولاء لدولة السلطنة،
اعتُبِرا آنذاك في نظر غالبية العُمانيين خروجاً عن الإجماع السياسي
بالولاء للإمام، وعن الضمير الوطني، وبمرور الزمن أدَّيا إلى دور سياسي
وعسكري "ميليشياوي" للعقيد يفوق ما هو متعارف عليه في عرف وتقاليد القبائل
العُمانية. ومما زاد الطين بِلَّةً أن المشروع الاستعماري نفسه وظَّف مجمل
هذه التناقضات لصالح عزل هذين الاتحادين عن بقية قطاعات الشعب العُماني
وقُواه الفاعلة، وبالذات في عهد السلطان سعيد بن تيمور.
لسنا في وارد دراسة متخصصة لاتحادي الحواسنة وبني عمر
(المعامرة)، بيد أننا نلاحظ أن وقوع هذه القبائل في الشريط المحاذي لسهل
الباطنة، هذا السهل المفتوح على تيارات الحضارة والبوابة الرئيسة التي
اندفع منها الغزاة الواحد تلو الاخر إلى عُمان، والصعوبات التي طرحها
المشروع الاستعماري، وتعقيدات الحالة السياسية، في وقت لاحق عند نشوء
دولتين مصطرعتين في عُمان (الإمامة والسلطنة)، والنظرة الضيقة الأفق التي
تبناها اتحاد الهناوية وقبائل الداخل تجاه قبائل المناطق البحرية
(المستوطنات البحرية) وتجاه البحر عموما بوصفه رمزا لتلك التيارات الغامضة
التي طالما حملت رياحها العاصفة أوسع الاتجاهات الفكرية حتى إلى قلب قلعة
مشاعة الفلج المغلقة، بل وبوصف البحر أيضا الوسيلة التي حملت الغزاة وسهلت
وصولهم لكي يمعنوا في الأرض الوطنية تدميرا ونهبا، إن كل ذلك قد أدى إلى
نشوء نوع فريد من العلاقات والاتجاهات في بنية القبيلة على نمط شبه اتحادي
الحواسنة وبني عمر لم تألفه بنية القبيلة من قبل. إن هذه التطورات لم تؤد
إلى تغيرات في بنية العلاقات داخل القبيلة فقط، وإنما امتدت عميقا لتطال
سوسيولوجيا الفرد القبلي نفسه وسُلَّم قيمه.
إن
سلطة العقيد ("العكيد") في شبه اتحادي الحواسنة والمعامرة فاقت سلطة
الرشيد نفسه أحيانا، علما بأن الرشيد قد يكون رشيدا وعقيدا وقد لا يكون،
ولكن العقيد في كل الأحوال، في شبه اتحاد الحواسنة والمعامرة، رئيس التنظيم
الميليشياوي العسكري الواسع النفوذ في القبيلة.
ج-
التطورات في سلم القيم: إن ارتباط القبيلي بالقبيلة مسألة قيمة اجتماعية
واقتصادية وثقافية، وهي أيضا مسألة انتماء، حيث يغدو الوطن قبيلة. كل ذلك يبدو مفهوما ومعروفا، ولا طائل من إضاعة
الوقت بصدده. وهكذا يبدو للوهلة الأولى أن فردية القبلي النافرة التي لا
يحدها إلا تخوم الولاء للقبيلة قد ترسَّخت إلى الأبد، بيد أن الشروط
الاقتصادية والثقافية والتطورات في البيئة الثقافية لم تكن يوما ثابتة. كما
أن هذه الشروط والتطورات أعطت نتائجها البطيئة ولكن بثبات، فقد جاء
الإسلام ليُوسِّع دائرة الانتماء. وتحوَّلت الإباضية بمرور الزمن إلى عقيدة
وطنية وجزء من البيئة والتقاليد، أكثر من كونها مذهبا دينيا، أي أنها
–بعمق المعارك التي خاضها العُمانيون تحت رايتها، وبالنضال الأسطوري، من
أجل احتياز قيم أكثر ملاءمة للحالة السياسية والاقتصادية والثقافية
المتطورة- أصبحت في عُمان أسطورة أيديولوجية للنضال، ومرادفا لمفهوم وطن
أكثر من أن تكون تفرعا مذهبيا لعقيدة دينية. وبالطبع فإن انتشار الإباضية
والقبول بها لم يُشكِّلا تحديا سياسيا وفكريا يطرح نفسه بعمق على
العُمانيين، وإنما كان ذلك دليلا على أنه في خضم التطورات، ليس في عُمان
فقط وإنما في دائرة الجزيرة العربية، فإن مجموعة القيم التقليدية للقبيلة لم تعد تشبع الحاجات الروحية للفرد، أي أن بونا شاسعا قد أصبح يفصلها عن مجموعة الشروط الاقتصادية والسياسية المتطورة.
إن
قبول عُمان النسبي للإسلام، والذي كان تعبيرا عن تطور الظروف الداخلية
ومصالحة سياسية، عبَّر فيما عبَّر عن تهاوي القيم القبلية وتهافتها. إن هذا
القبول السلمي بالديانة الجديدة –هذه الديانة التي "لا تبلغ خيلها هنا"
على حد تعبير الملك جيفر بن الجلندى لعمرو بن العاص رسول النبي محمد- إنما
يُوضِّح لنا مدى الحاجة إلى سد تغرة القيم السائدة بقيم جديدة. ومدى
الحاجة إلى ديانة جديدة تعبر عن ميول قومية للاتحاد القبلي العُماني، ذلك
أن اتحاد الأزد تمكن في ذلك الطور من تحقيق استقرار سياسي. وكانت المشاعات
قد أضحت قرى، وبدا أن بعضها يتطور إلى مدن، كالرستاق ونزوى. كما أن مدن
الأسواق الساحلية، كصحار، لم تعد أسواقا، بل أضحت أحياؤها التي استوطنتها
القبائل أقرب إلى المدن. وكانت التجارب البحرية متطورة نسبيا في المستوطنات
البحرية التي تحولت إلى مدن، كصور. وتطورت الأجهزة البدائية للدولة
الوليدة إلى حد أن جيفر كان يسمي نفسه ملكا. إن كل تلك التطورات أفصحت
عن حاجة الدولة الجديدة إلى ديانة، وإلى أيديولوجيا، وإلى أفق قومي،
وعبَّرت عن مدى ضيق القيم الفردية الإقصائية للقبيلة، وخطر انقساماتها
السياسية في بلد يعج بالقبائل. لقد لعب خطر الإمبراطورية الفارسية،
الماثل في أذهان الدولة العُمانية كشبح مخيف، والذي كان مصدرا لتوتر داخلي
أيضا على الدوام، دورا في سرعة قبول عُمان بالإسلام، غير أن ذلك لم يكن إلا
عاملاً من عوامل عدة أشرنا إليها.
لم
يطرح الإسلام السياسي نفسه على عُمان بجدية وعمق إلا بظهور الإباضية كأول
حزب جمهوري في الإسلام. لقد جاءت الأيديولوجية الجديدة لتطرح نفسها بكل
الزخم والعنف والتألق، في كل ما من شأنه أن يعوق سلطتها. ولقد كان طبيعيا
أن تصطدم بسلطات الرشداء والتمائم، وأن تخوض نضالا عنيدا ودمويا ضد هذه
السلطات. صحيح أن هذا النضال لم يكن ظافرا في كل حين سوى على مستواه
الأيديولوجي أو السياسي. ومن الواضح أن الأيديولوجيا الجديدة قد تداخلت
أحيانا وتصالحت أحيانا أخرى والقيم القبلية، بيد أن مكسبا هائلا قد تحقق،
وتطورا عظيما قد أنجز حين قدمت الأباضية تجارب متألقة للتحالفات في هذا
الشأن، حيث أصبح من الممكن، ولو على صعيد نظري، انتخاب "الزنجي الأسود"
إماما وقائدا للأمة إذا ما توافرت فيه الشروط المجردة للإمامة. إن دماء
الإمام عبدالله بن وهب الراسبي لم تذهب هدرا. كما أن استشهاد أصحابه خوارج
صفّين الأبطال... ذلك الاستشهاد الأسطوري العظيم ظل ماثلا في ذاكرة الشعب
الدفينة، وأصبح مكسبا على الأرض، للعامة وسواد القبائل في وجه النخب
القبلية الضيقة الأفق والأنانية في مصالحها وتوجهاتها.
-5-
من أي المصادر تنبع سلطة الرشداء ومكانتهم؟ وما
الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للتراتب في اتحاد القبائل؟ لا
توجد بين أيدينا مصادر موثوقة ومعلومات دقيقة حول تطور وضع الرشداء
الاقتصادي تسمح بإصدار أحكام، ولذا فإننا سنظل في إطار تلك العمومية التي
تؤكد أن سلطة الرشيد أو الشيخ تنبع من رضا سواد القبيلة. إن ذلك صحيح إلى
حد ما. بيد أن ثمة رشداء رسخوا سلطتهم، بل حصلوا على الزعامة من خلال
نفوذهم المالي. كما أن ثمة رشداء فرضوا مرشديتهم بالإرهاب والدسائس
والمؤامرات. وفي الواقع لم يشترط الثراء أبدا للمرشدية، غير أن مثل هذا
الأمر قد يبدو في بعض الحالات مسألة نظرية. إن المسألة غالبا ما تأخذ في
الحياة اليومية الصيغة التالية: يبرز في إحدى العائلات التي تُكوِّن
القبيلة، أو من خارجها، شخص طموح يسعي إلى الوصول إلى سُدَّة الرئاسة. إن
الوسائل المتاحة لتحقيق هذا الطموح تبدو متعددة، بيد أنه لتحقيق هذه
الوسائل لا بد من توافر قدر مقبول من الثروة، إلى جانب توافر الشروط
الثقافية السائدة، ربما لحفظ مأثورات القبيلة وحكاياتها وأساطيرها. وأخيرا
فإننا سنفترض أن وصول مثل هذا الشخص الطموح قد تتبعه محاولة توريث هذه
الرئاسة في أسرته وتحويلها إلى حق بالنسب. وبالطبع فإنه من المناسب أن ننوه
بأن تلك الصيغة التبسيطية ليست سوى محاولة لرسم صورة من صور عدة ومداخلات
أعقد. لقد اندثرت أسر في القبيلة لحساب أسر أخرى. كما أن أسرا أسست قبائل
على حساب قبائلها الأصلية التي اندثرت ولم يبق لها سوى وجود أسطوري. يوضح
ذلك أن القبيلة قد احتاجت، دوما، لتجديد عناصرها البشرية بإلحاق جماعات
أخرى، أو بعزل جماعات، أو بالانضواء في إطار قبائل أخرى، لكي تقوى على
الاستمرار والحياة. كما أن تغير الشروط الاقتصادية والسياسية –كما أكدنا في
العديد من المرات- أدى إلى تسارع مثل هذه العمليات أو بطئها.
لعبت
الهجرات الموسمية، كهجرة الشواوية وهجرة الزطوط (الغجر)، في إطار بيئة
اقتصادية واحدة، كهجرة اتحاد بني ياس، والهجرات الكبرى، كهجرة اتحاد الأزد
من اليمن إلى عُمان، تطوراً نوعيّاً، في غالب الأحيان، في بنية القبيلة.
كما أن الهجرة في حد ذاتها لم تكن حلا لمأزق الفناء الذي يواجه القبيلة
بقدر ما شكلت امتحانا لإمكاناتها، وتطويرا لقدرات الجماعة البشرية، ورافدا
لها لإبداع الشروط المادية والروحية وتطويرها. إن هجرة اتحاد الأزد إلى
عُمان حققت تحولا في حياة عُمان الاقتصادية والسياسية، فقد نقلت معها ثراء
حضارة اليمن، وطوَّرت سبل الزراعة وقنوات الرَّيِّ، وكان تطويرها لإدارة
الحكم واضحا. وعدا رفدها الحياة العامة بعناصر بشرية طموحة ومتجددة فإن
نضالها السياسي البارز أدى إلى إجلاء المحتلين الفرس؛ هذا الاحتلال الذي
شهد بهزيمته الساحقة تكوين أول دولة قومية في عُمان.
تولدت
نخب القبيلة من تحدُّرات تلك الأسر النافذة فيها، وهي التي كونت نفوذها في
الظروف والأوضاع التي أشرنا إليها. في البداية فإننا نعني بالنخب تلك
الأسر والفئات التي توارثت نوعاً من النفوذ والزعامة في القبيلة، أو
تحدُّرات هذه الأسر والفئات التي شكلت لحمة التمائم ورشداء القبائل القوية.
إن هذا النفوذ كان مرهونا بقدر من الثراء، كما أنه كان مشفوعا لدى بعض
القبائل بمعرفة دينية وخبرة ثقافية بثقافات القبائل وتقاليدها. لم تعرف
القبيلة، في طورها الأول في عُمان، مثل هذه النخب. لقد نقل اتحاد الأزد في
هجرته الأسطورية من اليمن إلى عُمان تقاليد هذه النخب، وهيأت هذه التطورات
مناخا داخليا لها. ولقد أدى التطور في أساليب الزراعة، والاستقرار الذي
هيأته مشاعة مؤسسة الفلج، وبروز المدن، وظهور الفائض، إلى نمو هذه النخب.
وكان ميلاد الاتحادات القبلية إيذانا بتدشين نفوذها. إن مثل هذه النخب تبدو
ملحوظة وواضحة في اتحادات القبائل السقوية، في حين إن وجودها يندر في
اتحادات القبائل الرعوية. عبر قرون مديدة لعبت النخب القبلية دورا بارزا في
الحياة السياسية في عُمان. ومن هذه النخب برز العلماء والأئمة والقادة
الذين أسهموا إسهاما بارزا في الحياة العامة. لقد كان لهذه النخب، في أدوار
متعددة، دور وطني تقدمي ملحوظ، وذلك عبر إنجاز المهام الوطنية في الدفاع
عن الاستقلال الوطني والتصدي للغزاة الأجانب وتوظيف دورهم ونفوذهم من أجل
توطيد الاستقرار، وحشد الطاقات البشرية للقيام بالأشغال العامة الكبرى.
إن هذا الدور الوطني التقدمي لا ينفي ما مارسه هؤلاء من سلب ونهب، ولا
الطبيعة المتعالية والاستبدادية لنفوذهم، ولا توظيف دورهم الوطني لمزيد من
نهب فائض القيمة والتحكم الاقتصادي والسياسي.
لقد كانت دولة النباهنة –أولئك الجبابرة
كما يسميهم منظرو الأيديولوجية الإباضية- أفضل تعبير عن ثقافة وتطلعات بعض
هذه النخب القبلية في القبائل السقوية في عُمان. إن دولة الملوك الجبابرة
(دولة النباهنة) كانت تعبيرا عن النظرة الضيقة الأفق والمصالح الأنانية
لبعض فئات هذه النخب، فهي لم تنجز إجماعا وطنيا، حيث قسمت الوطن من خلال
إقصاء الآخر، كما مارس ملوكها استبدادا مريعا وطغيانا لا مثيل له. سنلاحظ
أن جذور بعض فئات هذه النخب وسياساتها الإقصائية ستنعكس مديدا على الحياة
السياسية في عُمان، بل إن سلوكها السياسي التاريخي سيعيد إنتاج نفسه مجددا
بصورة أسوأ وأكثر انحطاطا وإسفافا في التاريخ الحديث، كما حدث أثناء قيادة
هذه النخب انتفاضة 1957م الوطنية. إن الأرستقراطية في عُمان لم تنبع من
ملكية الأرض الزراعية، ولم يولدها الريع، كما أن شرعيتها لم تستند إلى
الثروة فقط، بل استمدَّتها من إطار التشكيلة الاجتماعية التي أشرنا إليها،
ومن الدور السياسي والوظيفة الثقافية للقبيلة، وهي شرعية أبوية بالأساس، أي
أن جذورها التاريخية تكمن في أغوار عميقة من ذاكرة الإنسان.
لم
تتضح آفاق الدور الوطني التقدمي للنخب القبلية إلا بعد ظهور الاتحادات
القبلية، وبعد ارتباط عميق بالأرض، من خلال مؤسسة الفلج، وفي غمرة نضال
أسطوري ضد الغزاة الأجانب. لقد جاء اتحاد الأزد ليدشن آفاق هذا الدور ويعمق
تجربة الإنسان الحضارية في هذا المجال، بيد أن النظرة النخبوية إلى
"البيادير" وإلى العمل الحرفي ظلت مستترة في البيئة الثقافية للقبائل
السقوية. تجدر الإشارة إلى أن الحديث عن المجتمع شبه الإقطاعي في عُمان هو
حديث شكل النغمة السائدة في الكتابات التي تعرَّضت للتشكيلة الاجتماعية في
عُمان في وقت قريب، وبالذات في كتيبات الحركة الوطنية. وهذا الأمر إنما هو
مغامرة نظرية لا أساس لها. هذه المغامرة يمكن فهمها في ضوء الظروف التي
حكمت الحركة الوطنية في عُمان، أي حركة الحداثة النسبية في بلادنا.
-6-
ما
الأسس التاريخية لمكونات الشرعية؟ أي شرعية الدور السياسي والاقتصادي،
وبالتالي شرعية القيادة في عُمان. لقد أوضحت تجربة الطور الأول للقبيلة أن
الانتخاب المباشر والاختيار الحر أساس ذلك، علماً بأن ثمة محاولات مستميتة
قد جرت في طور مؤسسة القبيلة، وفي طور الاتحاد، للانتقاص من هذا الحق
التاريخي لسواد القبيلة، فمبدأ الاختيار الحر حافظ على استمراريته بالرغم
من أن تطورا مهما قد لحقه، حيث لم يعد اختيار التمائم يجري مباشرة من قبل
سواد القبيلة، وإنما اقتصر على الرشداء يشاركهم وجهاء القبيلة. إن معظم
الأئمة جرى اختيارهم بالاختيار الحر، أو بالاجماع، في مجلس أهل الحل
والعقد، وبمبايعة أفراد الشعب (وفقا لنظام البيعة). لقد تم تقييد حق
الاختيار المباشر في القبيلة، من استفتاء عام وشامل للأفراد كافة، ومن
انتخاب مباشر إلى حق اختيار رئيس الدولة (الإمام) باقتراع رشداء- زعماء
القبائل، بمشاركة مؤسسة القضاء في مجلس أهل الحل والعقد، وهو مجلس يضم إلى
جانب زعماء القبائل الرئيسية قطاعاً واسعاً من الوجهاء والمتنورين
والعلماء، أي من البارزين في البيئة الثقافية ومن أصحاب النفوذ السياسي
والاقتصادي.
مثَّل
مجلس أهل الحل والعقد ومؤسسة القضاء دور جمعية عمومية للإصطلاح السياسي
الحديث، وهي جمعية عمومية لا مثيل لها في التاريخ السياسي للأقطار العربية.
إن رشداء القبائل الأعضاء في مجلس أهل الحل والعقد كان يجري اختيارهم
بالاقتراع المباشر، أو بالتوافق، ولم تشب هذا الاقتراع، أو التوافق، أي
شائبة، فلقد كانت تقاليد الديمقراطية البدائية للقبيلة مضمونة بقوة القانون
وأساس تقاليد القبيلة، كما أن الإكراه الاقتصادي بمفهومه السياسي لم يكن
معروفا في القبيلة. إن كل ذلك أدى إلى ترسيخ مفهوم تاريخي للشرعية في
التشكيلة الاجتماعية يستند إلى تقاليد سياسية تصلح راهنا كمدخل لنضال
ديمقراطي واعد، وحقا تاريخيا لجماهير الشعب لا يملك أحد إغفاله أو الانتقاص
منه.
أدى
الاضطراب السياسي في أطوار متعددة، وبالذات في التاريخ العُماني الوسيط،
بفعل الغزو الأجنبي حينا، وغارات قبائل البدو حينا آخر، وتدهور الحياة
الاقتصادية، والكوارث الطبيعية، والأوبئة الفتاكة، وانعدام زعامات ذات أفق
متنور، وعوامل مرات عديدة شتَّى... إلى محاولة الالتفاف على التقاليد
السياسية للديمقراطية البدائية في النظام السياسي للإمامة. لقد جرى انتخاب
بعضهم صوريا. كما انفرد اتحاد الهناوية بذلك حينا آخر خارج الإجماع الوطني.
ولعبت المؤامرات والدسائس دورها أحيانا أخرى، بيد أنه حتى في مثل هذه
الحالات البائسة، وفي أدوار انحطاط سياسي، لم يجرؤ أحد على تجاهل هذا الحق
كليا، ولم تستطع زعامة ما... تنصيب نفسها ملكا أو أميرا. لقد رافق محاولة
الالتفاف على حق الاختيار التاريخي على الأغلب أوسع احتشاد سياسي للعودة
للأصول الشرعية للنظام السياسي للإمامة. يفصح كل ذلك عن المغزى الشعبي لتلك
التقاليد السياسية القائمة على البنية الداخلية للقبيلة، وعلى التطورات
الاقتصادية في مشاعات الفلج.
لقد
كان انتخاب الإمام بواسطة الجمعية العمومية لمجلس أهل الحل والعقد كافيا،
بيد أن تقاطر أفراد الشعب للبيعة للإمام في مظاهرات تأييد سياسية كان
اكتمالا تاما للشرعية وإجماعا وطنيا لا بد منه للزعامة السياسية وللشرعية.
إن ذلك كان ضروريا في فترات الانعطاف السياسي الحاد، كما جرى إبَّان انتخاب
الإمام الفذِّ ناصر بن مرشد اليعربي الذي قاد النضال الوطني ضد
البرتغاليين حتى طردهم من البلاد، وعزان بن قيس الذي قاد الثورة الوطنية
الديمقراطية ضد الغزاة الأجانب الإنجليز. لقد أسهمت كل هذه التطورات، وما
أفرزته من تجارب وذاكراة وتقاليد، في نشوء مفاهيم سياسية قائمة على الشعبية
والتوازن السياسي الدقيق بين الاتحادات القبلية. ولقد عمَّقت الإباضية،
بوصفها عقيدة دينية ووطنية وحلاً سياسياً، كل ذلك.
إن عُمان لم تعرف الملكية في تاريخها الا كاستثناء
فارق، وكمروق ديني، وجبروت، وبدعة سياسية ودينية. وهكذا فإن تجربة الملكية
النبهانية على أرض محدودة من الوطن لم تستمر. ولقد سقطت التجربة منذ
بدايتها قبل أن تشهد نهايتها على يد الإمام محمد بن إسماعيل الخروصي، حوالي
سنه 909هـ. ومما تجدر ملاحظته: أن كل الذين حاولوا إشادة "ملكية" في
وجه التقاليد الشعبية للنظام السياسي التاريخي في عُمان انتهى بهم الأمر
إلى التحول إلى أدوات بيد الغزاة الأجانب. ومن هنا فإن الملك الجبار
سليمان بن سليمان النبهاني حاول الاستعانة بملوك شيراز الفرس لتثبيت
مملكته. كما أن سيف بن سلطان اليعربي ("سيف التعيس") دفعته طموحاته الملكية
إلى الاستعانة بشاه إيران نادر شاه (1688-1747م) الذي أرسل قواته لاحتلال
عُمان عام 1737م. كما أن مشروع البوسعيد لإنشاء سلطنة لم يأخذ وجهه
الواضح وصفته الصريحة كـ"سلطنة"، لا "كإمامة"، إلا بعد أن تم تبني هذا
المشروع من قبل الاستعمار البريطاني في عُمان، فلقد كان أحمد بن سعيد
يُسمِّي نفسه إماما، كما أن ابنه سعيد بن الإمام حرص على أن يُدعى بالإمام،
وكذلك ابنه الآخر سلطان بن أحمد. إن ظهور لفظة "السلطنة"، واعتماد النظام
السياسي فيها حق الإرث الملكي، إنما تمَّا في ظل هيمنة المشروع الاستعماري
البريطاني، وفي ظل تبني هذا المشروع الاستعماري التام لنظام السلطنة،
وتمكينه من الاستمرار بالقوة العسكرية الاستعمارية المباشرة، وبالدعم
السياسي والاقتصادي.
لم يكن حق الإرث وحده أساس المحاولات الملكية في عُمان
لإعطاء صفة الاستمرار لأنظمة مرفوضة من الشعب، بيد أنه في أحيان أخرى لم
يجد سوى العزل والسيف والمؤامرات والتبعية للغزاة الأجانب سندا لتبرير
سياسي للسلطة. إن ديمقراطية نخبة الأرستقراطية القبلية والنظام السياسي
لدولة الإمامة، بالرغم من التجريدات النظرية "للإباضية"، لم يشمل فئات عدة
من المجتمع، فالعبيد والزطوط والبياسرة وأصحاب المهن، وأولئك الذين لم
ينخرطوا في قبائل، كانوا بمعزل عن أي مشاركة سياسية فعلية، بالرغم من تأكيد
الإباضية الدائم أن الإمامة (رئاسة الدولة) حق ممكن لكل مسلم، بغض النظر
عن وضعة الاجتماعي وعصبيته إذا ما توافرت فيه الشروط المطلوبة للإمام، ومن
بينها البيعة التي تعني اختيار جماعة المسلمين إيَّاه والتفافهم حوله. لقد
تميز حزب الإباضية بالأصل، من بين الأحزاب والمذاهب والفرق الإسلامية،
بنظرة تقدمية كونية "أممية"، وذات آفاق شعبية للنظام السياسي في الإسلام،
ففي الوقت الذي انحاز السنة إلى حق الإمامة لقريش فإن الشيعة قد قصروها على
أهل البيت وحدهم. أما الإباضية (خوارج صفين) فقد جعلوا هذا الحق لكل مسلم
تتوافر فيه الشروط الموضوعية للإمام.
بيد أن حزب الإباضية، الذي اصطدم بنفوذ الارستقراطية
القبلية، وبالنظام القبلي في عُمان، قد اضطر، في خضم صراعه السياسي ضد
الأمويين والعباسيين، إلى التقليل من شأن الاعتبارات الأيديولوجية في هذا
الصدد. إن ذلك بدا واضحا في شأن إمامة الأئمة اليعاربة التي استحالت إلى ما
يشبه الملكية. إن منظِّري الإباضية غضوا النظر عن تسلسل الإمامة العائلي
في أسرة اليعاربة ما دام قد توافر لهؤلاء اقتراع الأمة وإجماعها والتزموا
بالشورى، في إطار الجمعية العمومية لأهل الحل والعقد، وهو ما رأى فيه منظرو
الإباضية جهادا إسلاميا. وفي الواقع فإن الدور المتألق لهذه الأسرة، في
التحرر الوطني من الغزاة الأجانب، وفي توطيد الاستقرار والأمن، وفي الإصلاح
الاقتصادي والسياسي، قد جعل من الاعتبارات الأيديولوجية الصارمة للإباضية
مسألة نظرية. إن اندماج العقيدة الإسلامية الإباضية بأصولها التاريخية في
الضمير الوطني للشعب وفي تقاليده، وفي خضم النضال السياسي والعسكري للشعب
العُماني، بقيادة النخب القبلية في وجه الجبابرة الأمويين والعباسيين،
وللحفاظ على فرادة خصوصية التطور والاستقلال الوطني، أكسب التنظير الإباضي
لمسألة السلطة نوعاً من العلمانية والواقعية، ونأى بها عن أن تكون مجرد
نظرية دينية ومذهبية للسلطة السياسية. بيد أن الجذور الدينية للقرار
العُماني ظلت، ومصالح النخب القبلية، حكمت المسار السياسي لهذه النخب،
وعزلت فئات شعبية عدة عن مشاركة سياسية فعلية. إن كل هذا لا يقلل من الطابع
والدور الوطني لفكر الإباضية، ودور النخبة القبلية على صعيد تاريخي.
تنصُّ
النصوص الفكرية الإباضية وتُشدِّد على ضرورة التزام الإمام بالشورى. إن
مفهوم الشورى في النصوص الإسلامية ظل غامضا. كما أن تطبيقاتها ظلت –في حدود
معرفتنا- محدودة. ما حدود الشورى؟ وهل الشورى ملزمة للحاكم؟ ومتى يلتزم
بالشورى؟ وكيف؟ ليس من شأننا هنا مناقشة هذه المسائل إلا في حدود تجربة
تأسيس الاتحادات القبلية في عُمان لدولة في ظل هيمنة الأيديولوجية الإباضية
وتصوراتها المحدودة للمسألة، وبالتالي مفهوم الشرعية لدى هذه الاتحادات
للسلطة وهيئاتها. إن مفهوم الشورى في تجربة الدولة الإباضية التي أسستها
الاتحادات القبلية اكتسبت ملمحا محددا، كما أشرنا، وذلك عبر مؤسسة القضاء
ومجلس أهل الحل والعقد، وظروف وأساليب اختيار الإمام، وشروط البيعة. ولقد
بدا كل ذلك واضحا في إمامة "الظهور"، ومرتبكا وغامضا في إمامة "الدفاع"،
بيد أنه في ظل بدائية مؤسسات الدولة ظل مفهوم الشورى أبويا، ومعبرا عن
النزعات والتسويات البدائية في القبيلة أكثر من أن يكون سمة لنظام سياسي
محدد. يتضح من النصوص الأيديولوجية الإباضية أن هناك أئمة "جور". إن ذلك
يعني أن ثمة حكاما قد جرى انتخابهم وفقا للشروط الأيديولوجية الإباضية
وتقاليد الاتحادات القبلية، وأن هؤلاء الأئمة قد انتهجوا سياسات وأساليب
حكم تنزع نحو الاستبداد وتخالف مصالح الجماعة الإسلامية، أي الأمة. إن ذلك
يفترض أيضا أن ثمة مشورات ونصائح قد قُدمِّت لهم من العلماء ومجلس أهل الحل
والعقد وزعماء القبائل، وأنهم لم يستمعوا لهذه النصائح ولم يأبهوا بها. إن الثورة على الإمام الجائر وخلعه تبدو عندئذ واجبا دينيا،
بيد أن كل ذلك يظل مرهونا بالتقاليد السِّرِّيَّة للنضال السياسي
للإباضية، وبالشروط على الأرض، ورهناً بمصالح النخب، ونزاعاتها، وشقاقها
المزمن، وثأراتها، ومسائلها الصغيرة أيضا.
من
الذي يحدد جور الإمام "الحاكم"؟ من الذي يُسبِغ الشرعية؟ ومن الذي ينزعها؟
ووفق أية شروط؟ وأية أوضاع؟ تبدو المغامرة هنا، بإجابات مستمدة من
الأيديولوجيا ذاتها، مسألة صعبة. إن ضعف المؤسسات وبدائيتها الناجمين عن
طبيعة تطور التشكيلة الاجتماعية وحدودها وآفاقها، يحملان في طياتهما إجابات
صريحة، وليس بالقطع ثمة إجابات موضوعية ومنطقية في الأيديولوجيا وفي
الفتاوى الفقهية. إن منظري الإباضية وقادة نضالاتها لم يُعالجوا الصعوبات
السياسية للدولة على ضوء الاعتبارات الأيديولوجية، بل إن إجابات متعددة
لصعوبات كثيرة شقَّت طريقها من خلال تقاليد النضال السِّرِّيِّ للخلايا
والدعاة الإباضيين. وكانت هناك إمامة ظهور وإمامة دفاع، وكانت ثمة تقية.
تجدر الإشارة إلى أن كل ذلك لا يُقلِّل من أهمية ودور الجذور الدينية
للقرار السياسي في عُمان، ولا من هيمنة الإباضية في إعادة صياغة العديد
من القيم الأخلاقية والثقافية في القبيلة. إن الاتحادات القبلية ذاتها كانت
مع ظهور الإسلام قد بلغت شأوا في تطورها جعلها في أمسِّ الحاجة إلى ديانة.
كما أن النخب لم تعد في طور الاتحاد قادرة على إعادة إنتاج الثقافة
وممارسة دورها دون تصورات سماوية.
لقد أعاقت صعوبات مادية اجتماعاً كاملاً ومتقارباً، من
الناحية الزمنية، لمجلس أهل الحل والعقد، بيد أن الصعوبات السياسية كانت
أعمق وأشد وطأة، فالاتحادان الرئيسان: اتحاد قحطان "يمن" واتحاد نزار،
تبادلا الشكوك وحروب الثارات والصراع المستميت من أجل السيطرة على السلطة.
كما أن الاتحادات الرعوية، وأشباه الاتحادات، والقبائل النائية، واتحاد
نزار أيضا، قد نظرت بعين الريبة إلى تفرد اتحاد قحطان، وهي على الأغلب
قبائل سقوية، بالقرار السياسي، من خلال نظرة مذهبية وقبلية إقصائية للنخبة
المسيطرة. ومن هنا فإن الفترات السياسية التي تم فيها احتشاد سياسي لاتحادي
نزار وقحطان، كما حدث إبان تشكيل الاتحاد الوطني لمقاومة الغزاة
البرتغالين بقيادة ناصر بن مرشد، بدت متألقة وعظيمة وذات مغزى خاص في
الذاكرة السياسية للعُمانيين. إن القرار السياسي للإمام يتطلب، كيما يكون
مقبولاً، إجماعا فعليا أو شبه إجماع من القبائل الرئيسة، فالإمام لم يكن
يملك جيشا متخصصا ومتفرغا، بيد أن هذا الأمر قد جرى إنجازه في إمامة
اليعاربة بفعل تطور القوى الاجتماعية وتطور وظائف الدولة ومهامها، كما
سنرى. لقد عمل اليعاربة على إنشاء جيش مهني، حيث طوروا الأسطول، وخلقوا
المقدمات المادية التي مهَّدت لظهور قُوى حربية متطورة. إن مركب السمبوق قد
جرى إنتاجه آنذاك على سواحل ظفار، كما أن تعديلات حربية قد جرت على مراكب
السنبلة، والبدن، والبتل، والبقارة. ويشمل هذا النشاط تطوير عمل المدفعية
البحرية ذاتها. وهكذا فإنه للمرة الأولى في التاريخ العُماني يكون هناك
أسطول حربي متفرغ يجوب البحار، ويكون هناك حاميات عسكرية في ممباسا ولاموه
وكلوة ومركا ومقديشو في أفريقيا.
إن
بحارة الأسطول الحربي ما عادوا متطوعين من بين أبناء القبائل تكون
مساهماتهم الحربية رهناً بقرار من القبيلة أو من زعامتها، وإنما أصبحوا في
العهد اليعربي المشرق جنوداً متفرغين للأعمال الحربية، وفقا لقرار سياسي من
الإمام، أي أن أحوالهم المعيشية، والوظيفية أصبحت رهناً بدولة، ففي تجربة
الأئمة اليعاربة، فقط، يمكن الحديث عن انفصال نسبي للدولة عن التشكيلة
الاجتماعية السائدة وعن بنية القبيلة. لسنا في معرض الحديث عن دولة
اليعاربة، غير أن عظمة هذه الدولة التي ولدت في إطار شعور قومي جارف ضد
الغزاة البرتغاليين في مطلع القرن السادس عشر إنما تبدو من خلال نضالها
الوطني الذي أنجزته عبر دحر قوى أوروبية متطورة، لا في عُمان فقط، وإنما في
ساحل أفريقيا الشرقي، ففي عام 1507م دمر القائد البرتغالي ألفونسو
البوكريك رأس الحد، ونهب قلهات وأحرقها، ودمر مسقط، وجدع أنوف سكانها من
العوامِّ، في الوقت الذي كان الغزاة الفرس يحتلون أجزاء من الأراضي
العُمانية. وفي 1624م تمكن العُمانيون من إنجاز حوار سياسي واسع قاده
الدعاة الإباضيون والنخب القبلية، وذلك عبر تشكيل جبهة وطنية واسعة،
وانتخاب الإمام ناصر بن مرشد إماما وقائدا لهذا النضال الوطني التحرري.
إن جبهة ناصر بن مرشد الوطنية لم تكن لتبدأ في خوض
نضال حقيقي ضد هؤلاء الغزاة إلا عبر تصفية إمارات الاتحادات المستبدة
والمتواطئة والغزاة، وبالذات إمارات اتحادات الظاهرة والداخلية ذات النزعات
الانفصالية التي وطَّدت نفوذها عبر عصابات غارات البدو والسلب والنهب، فتم
الزحف على ولاية نخل، وتصفية زعماء عصابات البدو. كما تم تصفية تمرد زعامة
البوسعيد في "العقر" بنزوى، وهزيمة تمرد زعامة بني هناء في نزوى، ومصرع
عميل الغزاة البرتغاليين مانع بن سعيد العميري، وتصفية عصابات وجيوش إمارات
اتحادات البدو بزعامة ناصر بن قطن الجبوري وحلفائه زعماء اتحاد بني ياس في
الظاهرة وساحل عُمان، وتسيير سرية لذات الأغراض إلى المنطقة الشرقية. ومنذ
مطلع 1621م كانت الجبهة الوطنية قد تمكنت من تصفية البرتغاليين في رأس
الخيمة. وفي عام 1650م تمكن الإمام سلطان بن سيف من دحر البرتغاليين كليا
في عُمان، مكملاً المهمة التاريخية للإمام ناصر بن مرشد على أساس الجبهة
الوطنية التي استكملت إنجاز مهمتها التحررية لتصفية تحصينات البرتغاليين في
الدمام وخاضت نضالاً دامياً انتهى بتصفية الغزاة البرتغاليين في سواحل
الجزيرة العربية وشرق أفريقيا تصفية كاملة.
-7-
إن
هذه الإطلالة على الأحداث تُبيِّن الدور الذي لعبه سواد القبائل في إطار
النضال الوطني، بقيادة النخب القبلية. ويجدر التنويه بأن هذا الدور تركز في
اتحادات القبائل السقوية. يذكر أنه في هذا الوقت الذي كان فيه العُمانيون
يخوضون نضالا عاتيا ضد القوى الأوربية الغازية لم يكن هناك ثمة دول تذكر في
الجزيرة العربية عدا إمامة آل حميد الدين في اليمن، وما عدا ذلك فإن ثمة
قبائل رعوية كانت تجوب أصقاع الجزيرة العربية. إن الكيانات (وليست دولاً)
الراهنة لم تكن معروفة في الجزيرة العربية، فقوات الأسطول الحربي العُماني
هي التي دحرت قوات الغزو البرتغالي في رأس الخيمة، وهي التي دكَّت قوات
الغزاة البرتغاليين في القطيف. وفي تلك الفترة كانت البحرين ولاية عُمانية.
وكانت الكويت امتداداً للصحراء العراقية، بينما ندر الوجود البشري في قطر.
إن هذه القبائل الرعوية في صحراء الجزيرة العربية كان ضمان سلامة أمنها ضد
الغزو الأجنبي يقع على عاتق الدولة العُمانية العتيدة. ولقد قام
العُمانيون بواجبهم دوماً، في أعماق سواحل قطر، والكويت، والقطيف، والدمام.
وهنا نستدعي ذكرى "الشُّراة" الأبطال شهداء الأسطول العُماني العطرة. وفي
الوقت الحاضر يتنكر بعض هؤلاء "التنابلة" الصغار، في هذه الكيانات، لهؤلاء
الشراة الشهداء. ولذكراهم فإن الشعب العُماني يعرف طريقه جيدا، ويستخلص
العبر من تاريخة الحافل بالدروس.
إن اتحادات البدو، كما يتضح من تحركاتها في فترة
النضال ضد البرتغاليين، أعاقت الوحدة الوطنية، وخرَّبت جبهة اتحاد الشعب،
وسعت لإثارة المصاعب في الجبهة الداخلية في فترات عصيبة، ولم يكن لديها
إحساس بالشرعية خارج إطار القوة. كما أن مسألة الولاء للوطن لم تكن ذات
قيمة بالنسبة إليها، وظل الولاء للقبيلة والتعصب لها هما أساس مواقفها
السياسية. وفي الجانب الآخر فإن الفئات النخبوية في اتحادات القبائل
السقوية لم تكن متجانسة في مطالبها و تطلعاتها. وهكذا يتضح، من خلال
التجربة التاريخية الملموسة، أن الذي دعم الشرعية دوما إنما هم أولئك
الرشداء من سواد القبائل. أما تلك الفئات النخبوية النافذة في القبائل
"الزعيمة" فلم تكن مواقفها الوطنية، أحيانا، إلا انصياعا لضغط شعبي لا
يُقاوَم، أو موقفا مناورا بأمل تحقيق مكاسب ذاتيه، فزعامة بني هناء، مثلا،
تمرَّدت في نزوى على الإمام ناصر بن مرشد والجبهة الوطنية في أحرج الظروف،
وهي ذاتها التي خذلت الإمام عزان بن قيس وسيَّرت الجيوش ضده في إطار
المؤامرة الاستعمارية البريطانية لإسقاط حكومته الشرعية. كما أن تمرد زعامة
البوسعيد، في "العقر" بنزوى، ضد حكومة الإمام ناصر بن مرشد والجبهة
الوطنية مثال من أمثلة كثيرة. وموقف هؤلاء البوسعيد اللاحق من عموم القضية
الوطنية يُفصِح عن نفسه. وفي هذا الإطار فإن زعامة النباهنة وبني ريام
والحرث وأضرابهم صادرت النضال الوطني، وأودت بانتفاضة 1957م الوطنية إلى
مهاوي الاندحار والهزيمة والعار. ولعل أهم الانتقادات التي توجه للجبهة
الوطنية، في النصف الأول من القرن السادس عشر، يتمثل في إخفاقها في صياغة
برنامج للإصلاح الاجتماعي، وفقدانها رؤية متماسكة لمسألة الدولة. وهكذا
فإنه بإنجاز هذه الجبهة مهماتها الوطنية التحررية باندحار البرتغاليين
والفرس فإن حربا أهلية قد وضعت أوزارها.
إننا
لا نغفل قط المشروع الاستعماري اللاحق، ولا تحدياته الحضارية والسياسية
والعسكرية التي طرحت نفسها بعمق، غير أن الغزاة الأوروبيين لم يكونوا سوى
حلقات متماسكة من سلسلة الهجمة الاستعمارية التي انتهت بهيمنة المشروع
الاستعماري البريطاني وتدمير كامل الاستقلال الوطني والمجتمع. إن الأوضاع
في عموم الشرق، وتردي الخلافة العثمانية وطبيعتها الاستبدادية، وسوء
الأوضاع في الوطن العربي وفي الجارة إيران، والدور الذي لعبته الطبقات
الحاكمة في هذه البلدان بإنهاك قدرات الشعب وتدميرها، واستشراء الفساد بكل
أنواعه، وتخلف قوى الإنتاج، أدت إلى عدم تأسيس جبهة مقاومة عريضة كجبهة
ناصر بن مرشد، وذلك في سبيل مقاومة الغزاة الاستعماريين الأوروبيين الجدد.
ولم يكن بمقدور الإمامة أن تصمد وحدها أمام تحديات نوعية للمشروع
الاستعماري الأوروبي الحديث، بيد أن الإجابات التي قدمتها النخب القبلية
ومؤسسة الإمامة إزاء كافة الأسئلة التي طرحها المشروع الاستعماري
البريطاني، مثلاً، لم تكن سوى الحرب الأهلية التي استمرَّت زهاء ربع قرن،
ومهَّدت للاحتلال البريطاني لعُمان والتدمير الذاتي لقوى الشعب في حرب
أهلية عقيمة، حرب تشبه انتحار السلاحف الجماعي بعد أن تضع بيضها، غير أن
بيضة النخب القبلية لم تكن سوى العودة إلى الطور البدائي للقبيلة، والتخلي
عن مجمل التطورات التاريخية التي أنجزها الشعب عبر نضال مديد وعتيد.
إننا
إذا ذهبنا بعيدا وسلمنا بعدم إمكانية التشكيلة الاجتماعية برمتها، في
الظروف الملموسة للواقع الملموس آنذاك من عدم القدرة على هزيمة مشروع
الهيمنة الاستعماري البريطاني، وهو قول مردود عليه، بالتجربة الملموسة التي
قدمتها الجبهة الوطنية بقيادة ناصر بن مرشد عام 1924م، والتي أدت إلى
هزيمة البرتغاليين هزيمة ماحقة والحفاظ على الاستقلال الوطني، فإن
الاستنتاج الوحيد الذي نخرج به هو أن هذه النخب القبلية قد عجزت عن إنجاز
حلقة تالية من النضال الوطني، أي عن أن توظف الإنجازات الوطنية لخدمة
التطورات الاجتماعية التي كانت مهيأة لصهر الاتحادات القبلية في بوتقة
الشعب، وفي تطور اجتماعي ربما كان مديدا بيد أن كافة المقدمات تشير إلى
تحققه. إن النخب القبلية، شأنها شأن فئات اجتماعية عديدة في التاريخ،
غلَّبت مصالحها قصيرة الأمد على تلك المصالح الطويلة الأمد للشعب، وتوهمت
فئات عدة إمكانية مصالحة المشروع الاستعماري البريطاني، في الوقت الذي كانت
فيه طبيعة هذا المشروع تدميرية وعنصرية متعالية. ولم يكن أحد يرغمه (أي
المشروع الاستعماري البريطاني) على تقديم التنازلات السياسية لنخب حمقاء
مازالت تلعق جراح الحرب الأهلية حتى الآن، نخب بلغ الانفصال بينها وبين
سواد قبائلها حدا سمح لأعدائها بالاستفراد بها وإذلالها أيما إذلال. ومن
الغريب حقا أن هذه النخب قد استمرت تراوح مكانها بعد قرابة نصف قرن حين
خذلت الإمام عزان بن قيس، بالرغم من عمق الدروس العيانية الملموسة.
لقد
طرح المشروع الاستعماري البريطاني طبيعة التشكيلة الاجتماعية على رأس جدول
أعماله، فالقبائل أساس بنية هذه التشكيلة كانت في عمومها معادية لهذا
المشروع وذات أفق وطني. ولقد لعبت الإباضية دورا إيجابيا في تأجيج الصراع
ضد المستعمر، كما أن فظائع الإنجليز والقمع الدموي رسَّخا جذراً دمويّاً
للصراع، ولم يعد بالإمكان سوى اجتراع الجرعة العُمانية على مراحل. إن قراءة
المشروع الاستعماري البريطاني في تطوراته وتقلباته السياسية، منذ منتصف
القرن السادس عشر وحتى الآن، تفصح عن ذلك. وتفصح أكثر وأكثر عن نزعة عسكرية
وتوجه قمعي لا يمكن أن يُعالَج بالنصائح اللطيفة أو بالأهازيج القبلية.
تلك هي الحقيقة الجلية التي لوت النخب القبلية عنقها دونها، والتي لم يكن
من نتيجتها سوى مزيد من القمع والدمار والمذلة الوطنية والقومية. وسنرى أن
التشكيلة الاجتماعية التاريخية قد تم تصفيتها من الداخل، من قبل المشروع
الاستعماري البريطاني، فقد تم تدمير مؤسسة القبيلة، وأجهز على كافة
المؤسسات المتاحة والبنى الاقتصادية والاجتماعية، وأزيلت الإمامة أو
هُمِّشت وأفرغت من مضامينها، ولم يتبقَّ من المؤسسات الإباضية سوى أشباح.
في مقابل كل هذا التدمير المريع فإن المستعمر لم يعط شيئا، ولم يكن ينبغي
توقع ذلك. وهكذا لم يعد أمام النخب جراء كل مناوراتها وبؤسها سوى كتاب
المراثي القبلية ... كتاب تخلى عنه أوصياؤه.
-8-
أدت التطورات في المجتمع العُماني إبَّان ازدهار دولة
اليعاربة، وغُبَّ إجلاء قوات الغزو البرتغالي، والناتجة بالأساس عن ازدهار
الأوضاع الاقتصادية بالداخل ... والفائض الاقتصادي الذي وفره نهب
المستعمرات الأفريقية، حيث كانت عُمان تحتل أجزاء من شرق أفريقيا، هذا
الفائض الذي حصلت عليه النخب القبلية، وبالذات فئاتها التجارية، أدى إلى
سقوط هذه الفئات في الترف والملذات والمتع التي وفرتها تجارة الأفاوة
والتوابل والرقيق، وبالتالي جعل المسألة تبدو وفق الأفق التاريخي لهذه
النخب وكأنها نهاية العالم. وضمن هذه الرؤية العامة فإن النخب تشاجرت
على مائدة وليمة بائسة، وقدمت من ضمن ما قدمت من إجابات عن المشروع
الاستعماري إجابة الحرب الأهلية مقابل الإجابة المطلوبة من الشعب، أي الحرب
الوطنية ضد الغزاة، وفي الوقت الذي لم يكن المشروع الاستعماري
البريطاني مشروعا سياسيا وعسكريا للهيمنة فقط وإنما حمل في طياته تحققات
إنجازه. إننا نرفض تلك الآراء التي ترى أن مجمل تلك التشكيلة لم يكن
بمقدورها تحقيق مجابهة حقيقية للمشروع الاستعماري البريطاني، فهذه التشكيلة
ذاتها هي التي تمكنت من إنزال هزيمة قاسية بالبرتغاليين والفرس منذ فترة
قريبة. هذه الهزيمة القاسية التي أنزلت بالعدو لم تكن ممكنة دون إمكانياتها
الموضوعية المجردة ومقدماتها المادية.
ولقد رأينا كيف طوَّرت قيادة الإمام ناصر بن مرشد
تطويرا نسبيا تجهيزاتها المادية على ضوء أول احتكاك بالحضارة الاستعمارية
الغربية، حيث إن المركب البحري "السنبوق"، مثلا، قد تم تصنيعه في ظفار بأيد
عُمانية على ضوء الاحتياجات الموضوعية الجديدة للمقاومة. كما أن تطويرات
عدة قد أدخلت على الأسطول، فتم التخلي عن الأساليب التقليدية لبناء المراكب
لصالح المراكب العريضة المؤخرة. يجب عدم الفصل بين التشكيلة الاجتماعية
برمتها –على ضوء الإنجازات التي حققتها البشرية والتحولات على صعيد عالمي،
وبالذات بزوغ فجر الرأسمالية الأوروبية- وبين الحاجة إلى تحديث بنية
التشكيلة الاجتماعية المعنية وتطوير طاقاتها، وبين إمكانيات تطور مستقل،
تطور يصون الاستقلال السياسي ويدحر المطامع الاستعمارية ويمنع التبعية
السياسية والاقتصادية للإمبريالية وينجز المهمات التاريخية، على ضوء مصالح
التحرر الوطني، من خلال الجبهة الموحدة للشعب. إن هذه الطموحات المشروعة
بدت إمكانيات تحققها وبشائر بدايتها تطرح ثمارها، عبر الجبهة الموحدة للشعب
(1624م). ولقد كان يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتحقيق تراجع تكتيكي مؤقت
أمام ضراوة الهجمة الاستعمارية للمشروع الاستعماري البريطاني بانتظار ظروف
أفضل على صعيد داخلي تحققت فيما بعد بالثورات الوطنية اللاحقة التي دمَّرت
الحرب الأهلية الثانية (1718–1747م) أرصدتها المادية والمعنوية، ومعطيات
أفضل على صعيد عالمي برزت من خلال تعاظم النضال الأممي الديمقراطي،
والانتصار الذي أنجزته ثورة أكتوبر السوفييتية (1917م)، غير أن انسداد أفق
نخبة الزعامة القبلية العُمانية، وطبيعة تكوينها التاريخي، وعجزها،
وتخلفها، دفع بالأمور نحو الحرب الأهلية الثانية، في الوقت التي كانت فيه
سلامة الوطن ومصالح الشعب بأسره تستلزم توفير المعطيات لخوض حرب وطنية من
خلال جبهة الشعب المتَّحد.
إن الظروف التي واجه فيها الشعب العُماني الهجمة
الاستعمارية الأوروبية، في مطلع القرن السادس عشر، كانت مواتية لتحقيق
مكاسب موضوعية على الأرض، فالتناحرات في إطار التشكيلة الاجتماعية لم تكن
مستعصية، ولم تكن أساسية في مواجهة الهجمة الاستعمارية. كما أن عُمان لم
تعرف وجود طبقة إقطاعية، أو شبه إقطاعية، تثقل قيد التحديث وتعوق اتحاد
الشعب في جبهة وطنية معادية للاستعمار. ولقد حافظت عُمان على استقلالها
التاريخي، ولم تنضو تحت سيطرة الخلافة العثمانية المستبدة والمتخلفة. ولقد
شهدت عُمان آنذاك يقظة سياسية وطنية تمثلت في تصفية دويلة النباهنة
المستبدة (1617م)، وتعاظم تحركات الدعاة الإباضيين من أجل توحيد الوطن،
وتصفية عصابات الأمراء الجبابرة أصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري.
وانتهت كل هذه التحركات –كما نعلم- بانتخاب ناصر بن مرشد، وتأسيس الجبهة
الوطنية الموحدة.
لم
تسفر الحرب الأهلية الثانية عن عجز نخبة الزعامة القبلية، وإنما أيضا
خلخلت البنية القبلية ودمَّرتها، وأدت إلى زرع شكوك عميقة في دور هذه النخب
القبلية. وجاء مشروع الهيمنة الاستعمارية البريطانية، ودسائس الإنجليز
ومؤامراتهم، وتهافت النخب وتشرذمها السياسي وعجزها عن تحرك سياسي جاد في
مواجهة الهيمنة الاستعمارية البريطانية... أدى كل ذلك إلى تعميق انفصال هذه
النخب القبلية، بوصفها قيادة لاتحادات القبائل عن قبائلها. وهكذا فإن
الشرعية التي محضها سواد القبائل ودعاة الإباضية للنخب القبلية قد أصبحت
موضع شكوك ومثار جدل. تكوَّنت شرعية الزعامة القبلية عبر تاريخ مديد،
وارتهنت دوما بخدمة القبيلة والدفاع عنها وتمثيلها لدى القبائل الأخرى ولدى
الإمام، وتشكَّلت عبر دور بارز في الحياة الوطنية. إن الرشيد كان ملزما
بالتشاور ووجهاء القبيلة. ولم يكن هناك ثمة قرار منفرد. وكما الرشداء كان
هذا أيضا وضع "التمايم". وكان يمكن عزل الرشيد بصعوبة، وإن لم يتم ذلك في
حالات كثيرة بدون صراعات دموية. ولقد رأينا أن الإمام الجائر يجب خلعه والثورة عليه.
ومن ناحية نظرية كان يمكن خلع "التميمة" الذي هو ملزم أيضا بقاعدة
التشاور، كما الرشيد والإمام. والتشاور ملزم في حالات الإجماع وشبه
الإجماع، غير أن تعقيد بنية القبيلة في ظل الاتحاد، وحاجتها للاستقرار،
والمرتبية التي خلقها الاتحاد، وتوطد نفوذ التمائم بقوى اقتصادية ومالية،
جعل من مسألة عزل "التميمة" مسألة ذات شأن، وربما دونها صعوبات عديدة. إن
الزعامة على الأغلب تُوُوْرِثَتْ في أسر بعينها، ولم تعرف عُمان صيغة محددة
لمسألة انتقال الزعامة خارج أعراف محددة خُرِقَتْ، أحيانا بقوة السلاح
والمناورات، والمكائد، وبنفوذ الثراء العريض أحيانا أخرى.
-9-
من هذه المقدمات العامة يتَّضح لنا تعدد المفاهيم والتقاليد التي شكَّلت أساس النظرة للشرعية في ذاكرة الإنسان العُماني فيما يلي:
1- تأثر القبيلة العُمانية بالرؤية الإباضية للشرعية وفق القواعد والمبادئ التالية:
· قاعدة الشورى: الإمام (رئيس الدولة) ملزم بالشورى. والشورى ملزمة في حالات الإجماع وشبه الإجماع.
· قاعدة البيعة: لا بد للإمام من بيعة وانتخاب، وذلك عبر
جمعية عمومية (مجلس أهل الحل والعقد)، واستفتاء شعبي (بيعة)، أي تقاطر
وفود القبائل، أفراداً وجماعات، لإعلان تأييدهم قرار مجلس أهل الحل والعقد.
· مبدأ شرعية التغيير: الإمام الجائر يجب خلعه والثورة عليه بشروط.
· مبدأ المساواة: حق الإمامة متاح لكل مسلم توافرت فيه الشروط العامة للإمامة، بغض النظر عن عصبيته وقوميته.
· قاعدة الشعبية: لا تكفي القوة المسلحة لإحداث التغيير
مهما تكن مبرراتها، وإنما لا بد من الاستناد إلى إجماع الأمة، وإلى سلوك
قنوات التغيير المشار إليها، بما في ذلك حق الثورة الشعبية المسلحة في حالة
احتكام الحاكم الجائر إلى السلاح.
2- استمدت نظرة الشرعية لدى الإنسان العُماني من التقاليد الديمقراطية البدائية للقبيلة:
· المرشدية تنتخب.
· المرشدية يمكن عزلها.
· المرشدية ليست امتيازاً وإنما هي وظيفة اجتماعية ورمز لوحدة القبيلة.
· الأمور الرئيسة للقبيلة ليست موضع تفويض، وتُقرَّر من قبل سواد القبيلة.
3- خارج إطار ذلك فإنه:
· لا شرعية لطاغية، ولا لحاكم جائر.
· لا شرعية للقوة وحدها.
· لا شرعية بدون انتخاب مجلس أهل الحل والعقد بالنسبة إلى الامام، ولا شرعية –أيضاً- بدون البيعة.
· لا شرعية لغزاة أجانب ولا لأدواتهم وعملائهم.
· وفقا للبنود أ وب وج ود. (الفقرة "3")، وعملاً بتقاليد
النضال السِّرِّيّ الإباضي تكون شرعية التغيير إذا توافرت شروطها متاحة،
والعمل في سبيلها واجب.
-10-
شكَّل
تاريخ البحث عن المستوطنات والهجرات الكبرى للجماعات البشرية في المحيط
الجغرافي للجزيرة العربية والهلال الخصيب أساس التاريخ القديم لهذه
البلدان. إن هذه الهجرات أغنت الخبرات المتبادلة للحضارة، وأسهمت في تمتين
الصلات التاريخية لهذه الأقطار التي تجد صداها حتى اليوم في تراث عميق من
الوشائج والمصالح والصلات المشتركة. إن عُمان، بتنوع بيئاتها الجغرافية،
شكَّلت بسواحلها وخلجانها الغنية بالثروة البحرية والملائمة للملاحة،
وبوديانها الوفيرة المياه، أساس المستوطنات البحرية والزراعية التي احتضنت
بعض هذه الهجرات، بيد أن ذلك كله تاريخ موغل في القدم، ولم تزل إسهاماته في
تكوين الذاكرة التاريخية للقبيلة في حاجة إلى مزيد من البحث والتدقيق.
تحفل
كتب الأنساب والمؤلفات التاريخية المكرسة للقبائل العربية المنقرضة
بتفاصيل مثيرة عن هذه القبائل (طسم وجديس وعاد وثمود). كما أن القرآن خلَّد
ذكر هذه القبائل. وفي الواقع فإن الأسطورة هي التي بقيت لنا من كل ذلك.
وهكذا فإن صحار حفيد نوح النبي أطلقت قبيلته اسمه (صحار) وخلَّدته على
حاضرة الباطنة. كما أن جعلان الذي يتحدَّر من عبد قيس أطلقت قبيلته اسمه
على المستوطنة التي أنشأتها. إن كل ذلك يبدو ملحوظاً في هذه الأساطير،
فغالبا ما أطلقت القبائل أسماءها ورموزها على الأودية والمستوطنات التي
أسستها أو التي احتلتها، وأجلت أقواماً أخرى عنها. وبمقدار ما عبَّر ذلك عن
ميل الإنسان إلى تخليد نفسه في مواجهة سافرة ضد الطبيعة، وفي مقابلة
الموت، فإنه يشف عن صراع مرير على مستوطنات النبع والبحر. يبدو التاريخ
السابق على هجرة أزد شنؤة الكبرى إلى عُمان، لدى المؤرخين العُمانيين،
وكأنه تاريخ لا يُؤبه به، بل تعمدوا إغفاله. وصُوِّرَتْ عُمانُ المحتلةُ
انذاك من الفرس وكأنها قفر إلا من حاميات عسكرية فارسية محتلة تحرس أشباحا.
ويذهب مؤرخ إباضي حديث، هو سالم بن حمود بن شامس السيابي، في مؤلفه
الممتاز "عُمان عبر التاريخ"، في محاولة لتبرير كل ذلك، إلى تبني حكاية
خرافية مفادها أن الأزد هم أحفاد طسم وجديس، تلك القبائل التي استوطنت
عُمان في التاريخ القديم، وأن الفرس احتلوا عُمان حتى جاء أزد شنؤة
اليمانيون فطردوهم، محررين بذلك أرض الأجداد التاريخية.
إن كل ذلك يبدو مفهوما إذا علمنا أن أغلب المؤرخين العُمانيين إنما هم أزد بالمفهوم الخرافي والأسطوري لمسألة النسب،
وأن هؤلاء الأزد قد أجلوا السكان العُمانيين العرب القدامى عن مستوطناتهم،
واستولوا على أراضيهم، ودفعوهم تجاه المناطق الأقل خصبا. وهكذا فإن هؤلاء
السكان العرب "البياسرة" الذين تعاونوا واتحاد الأزد لتصفية احتلال الفرس
وجدوا أنفسهم إزاء هؤلاء المهاجرين الجدد، بثراء خبرتهم التاريخية
وطموحاتهم، وتنظيماتهم العسكرية المستمدة من الخبرة المتطورة للحضارة
اليمنية العريقة، مرغمين على الانصهار في هذا الاتحاد والالتحاق بالقبائل
الأزدية الوافدة. ومن بقى من هؤلاء السكان العرب القدامى لم يعد سوى
"بيسري"، وذلك للتدليل على عدم نبل المحتد، وعلى وضعية اجتماعية دونية،
وعلى تنظيم اجتماعي لا يرقى إلى مستوى القبيلة. إن حياة هؤلاء السكان العرب
في عُمان، إبَّان الاحتلال الفارسي الذي يسبق هجرة الأزد الكبرى إلى عُمان
وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، تبدو مجهولة على ضوء تعمُّد اتحاد أزد
شنؤة محو كل ما من شأنه أن يُقلِّل من تألق هجرتهم الاسطورية واستيلائهم
على أراضي إخوانهم العرب البياسرة. غير أنه من الثابت أن طغيان الحاميات
العسكرية الفارسية، ونير الاحتلال الفارسي، أسهما في تحطيم المُقوِّمات
المادية والاقتصادية لحياة هؤلاء السكان العرب "البياسرة" الذين عاملوا
أشقاءهم المهاجرين الجدد (الأزد) بوصفهم مُخلِّصين ومُحرِّرين من طغيان
احتلال الفرس واستبدادهم. لقد أدى هذا التعاون بين السكان العرب وقبائلهم
والمهاجرين الأزد العرب إلى إجلاء الفرس.
إن هذا التعاون وجد أسسه في العلاقات المشتركة، وفي
الصلات الدائمة التي لم تنقطع يوما، وفي اللغة، وفي الاستبداد الذي مارسه
الفرس كغزاة. ولولا هذا التعاون والكفاح المشترك لما تمكَّن اتحاد الأزد من
إنجاز مهمته التاريخية وإلحاق تلك الهزيمة الرمزية بالحاكم الفارسي
"المرزبان" وتأسيس "وطن". يحرص المؤرخون العُمانيون على تبنِّي كافة
الأساطير المتعلقة بالهجرة الكبرى لأزد شنؤه من اليمن إلى عُمان، وعلى
تصوير هذه الهجرة، كما ورد في كتاب "تحفة الأعيان لسيرة أهل عُمان" لنور
الدين السالمي، وكأنها حملة عسكرية لجيش لا يُقاوَم. حملة نبيلة لمهمة
تاريخية، وضمن إيحاء بأنها ربما تمَّت بحكمة ورغبات سماوية عندما أرسل الله
على سبأ سيل العرم، وعندما هيَّأ لهم النصر ("... في ذلك اليوم الذي له ما
بعده") وفق رواية السالمي لخطاب مالك بن فهم الشهير في مقاتليه. إن هذه
الصورة الأسطورية لحملة عسكرية متألقة، ولهجرة كبرى، تنقصها الحقائق
التاريخية عن ذلك الاتحاد من القبائل اليمنية "الأزد" الذي اضطرته قلاقل
سياسة واضطراب اقتصادي، ومن خلال التقاليد التاريخية للهجرة لدى القبائل
اليمنية، إلى البحث عن أراض ومستوطنات جديدة بطموحات جديدة، وبتألق التاريخ
الحضاري العميق لاتِّحادات القبائل اليمنية.
إن
مناقشة مستفيضة لتاريخ تلك الهجرة الكبرى ومعطياتها ليست من شأننا هنا،
ولكننا نؤكد أن صلات الأزد بعُمان قد تمَّت قبل هذه الهجرة بكثير، وأن هذا
الانتقال للقبائل اليمنية الأزدية من اليمن إلى عُمان قد استمرَّت طلائعه
الكبرى زهاء قرن. إن استيعاب هذه المعطيات كافة يبدو ضروريا لإلقاء الضوء
على الخلفيات التاريخية لتكوين القبيلة الحديث في عُمان. وبغض النظر عن
الصورة الأسطورية (المثال) المتألقة للمحارب الأزدي الباسل والنبيل الذي
يقهر الصعاب، وتدفعه أقدار أسطورية إلى مصير لا يأبه به، كما في أسطورة
مصرع مالك بن فهم زعيم قبائل الأزد على يدي ابنه... وكيف تُسيِّره إرادة
كبرى وتحابيه الطبيعة ... هذه الصورة الأسطورية (المثال) تترسب عميقا في
ذاكرة القبيلة العُمانية والإنسان العُماني عموماً صورة المحارب الذي لا
يقهر، والذي تحميه إرادة إلهية عليا، فمن الواضح أن "المرزبان" بعد كل
الهزائم التي لحقته قد أحجم عن القتال في الأودية والشعاب الجبلية
الداخلية، حيث يمكن خوض حرب لا قبل لجيش بها... حرب برعت فيها القبائل
اليمنية بحكم خبرتها المستفيضة في هذا المجال. وهكذا أمكن لاتحاد الأزد،
بعد نضال مديد وهجرة شاقة وطويلة، تأمين استقراره السياسي والبدء في تأسيس
المستوطنات والمشاعات القبلية حول الفلج وعلى مقربة من الينابيع والأودية.
عبَّر
استقرار اتحاد الأزد الذين "وصلوا عُمان فملأوها" –على حدِّ تعبير المؤرخ
الإباضي الأزدي السالمي- وانتصارهم السياسي والعسكري، وتمكنهم من إجلاء
الفرس ... عن جملة من الحقائق الجديدة التي ظلَّت آثارها تعمل في عُمان حتى
تاريخها الحديث. إن ارتباط تاريخ القبيلة العُمانية باليمن، واستمرار هذه
الصلات بحكم البيئة الجغرافية الواحدة، وتاريخ الكفاح المشترك، والمصالح
المشتركة، والصلات العائلية، استمرَّ في تحقيق تجلياته دوما. إن التطورات
الكبرى في اليمن، بما فيها التاريخ اللاحق لهجرة الأزد، انعكست على عُمان
سلبا وإيجابا.
-11-
إن
سياسة عزل عُمان عن اليمن التي نفَّذها المشروع الاستعماري البريطاني
عبَّرت عن رغبة هذا المشروع في عزل عُمان عن قاعدتها البشرية ومحيطها
الحضاري وبيئتها التاريخية وطوقها الأمني. ولقد كان ذلك بمثابة "خنق" و"سجن
انفرادي" وسياسة مستفِزَّة. كما أن مقولات "سياسات الخليج العربي" الذي
روَّجها بعض الكويتيين والبحرينيين صبَّت في المجال نفسه، وأعطت عين
النتائج التي توخَّاها المشروع الاستعماري البريطاني. ثمة ثلاثة مسارات أو
بوَّابات رئيسة حكمت الجغرافيا السياسية للقبائل العُمانية، وشكَّلت الدروب
التي طرقها الطامحون والمهاجرون وقوافل التجارة، فمنها عبر المهاجرون
الأزد، وعبرها سلكت القبائل النزارية وجيوش الفرس والحجاج بن يوسف
والسَّفَّاح العباسي والبرتغاليون والترك والإنجليز. وما عدا طريق البحر
الذي يستلقي على بطاح سهل الباطنة المفتوح فإن هذه الدروب، أو البوَّابات،
كانت صعبة الاجتياز، تتخلَّلها الأودية الوعرة، أو تقطعها الجبال الجرداء،
وتحاصرها الرمال الصحرواية القاتلة. إن طريق البحر ذاته كان فيما وراء سهل
الباطنة ينصب شراكه ويقيم استحكاماته وموانعه الطبيعية، كسالفيه (مسار جنوب
الربع الخالي والمسار الشمالي، أي مسار وسط الجزيرة العربية الذي عرف
ببوَّابة البريمي). إن تاريخ هذه المسارات، أو البوَّابات، ارتبط في ذاكرة
العُمانيين بجذر دموي لغزاة أطلقوا جيوشهم ككلاب مسعورة، بل إن رموزاً
تاريخية حيَّة في مفاصل ذاكرة القبائل العُمانية لقيت مصرعها على هذه الطرق
في مواقف مأساوية وهي تُقاتل دفاعاً عن الاستقلال الوطني وذوداً عن حريات
شعبها وعقائده وثقافاته. وها هو الجلندى بن مسعود يُقاتل على مشارف جلفار
(رأس الخيمة) في المسار الشمالي، وقد أفنى جيشه على أيدي جيوش السَّفَّاح
العباسي، ولم يبق سوى الإمام وتابعه عطيَّة بن هلال الخراساني، فإذا الإمام
يهتف بتابعه:
- احمل يا هلال.
فيجاوبه تابعه:
- أنت الإمام، فكن أمامي، ولك عليَّ أن لا أبقى بعدك.
فيُستشهَد
الإمام وتابعه، وقبلهما جيشه. وتترسَّب في جذور الذَّاكرة صورة المحارب
الأسطوري الذي تسربل بدمه وهو يقاوم في إطار فاجعة وطنية، كفاتحة لمقاومة
تستلهم الأسطورة كي تعيد إليها الاعتبار بإعادة إنتاجها بأساطير أخرى،
لمقاومة لا تكلُّ وصراع لا ينته. هذه هي تقاليد القبائل العُمانية في عصور
ازدهارها وتألقها.
ترسَّخ
المسار الشمالي الذي عُرِفَ ببوَّابة البريمي في الذاكرة، أيضا، بوصفه
طريقا لقبائل وجماعات البدو التي تدفَّقت من وسط الجزيرة العربية نحو القرى
والمشاعات في سنوات مجاعات وانتشار للأوبئة الفتاكة التي ألمت بوسط
الجزيرة العربية، أو موجات وقلاقل قبلية واضطرابات سياسية. إن قبائل البدو،
التي تدفَّقت من الطوق الصحراوي لعُمان عبر المسار الشمالي، أسهمت في تخلف
الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في عُمان، وأسهمت، في عدة أحيان،
في تدمير المقومات المادية للحياة، وأعاقت التطور، ومارست فضائع وحشية
لقبائل لم يكن يحكمها سوى جوعها وقانون القوة الدموي الرهيب. ومن هنا فإننا
نستطيع أن نفهم الشكوك العميقة التي نظرت بها القبائل العُمانية إلى
الدولة السعودية، والصراع الذي لحق ذلك الوضع، والدور التدميري الذي لعبه
القائد السعودي مطلق المطيري بوصفه زعيم عصابة، وقاتلاً، وغازياً لا يرحم.
إن التحالفات الخارجية التي نسجتها بعض الاتحادات القبلية في عُمان، كاتحاد
القواسم، والدولة السعودية، لم تسفر عن عزل هذه الاتحادات عن القبائل
والاتحادات العُمانية وإنما كشفت القناع عن ميول انفصالية، وشوَّهت نضالها
العادل ضد الغزاة الإنجليز، وأودت بها إلى هاوية التردي، ودفعت بها إلى
أحضان العدو عندما تخلى هؤلاء الحلفاء السعوديون المزيفون عن حلفائهم،
واتضح أن تحالفاتهم لم تكن سوى مناورة في إطار سياسة الضَّمِّ والإلحاق
السعودية، تحت وطأة طموحات عشائرية فجة، وفي سياق العلاقات السِّرِّيَّة
بين الإنجليز وآل سعود بالتقسيم السياسي والهيمنة.
إنَّ
فصول الدور السعودي في عُمان، على صعيد تاريخي، ومن خلال محاولة استغلال
اتحادات البدو والاتحادات القبلية التي تحدَّرت من وسط شبة الجزيرة العربية
عبر مسار البوَّابة الشمالية ... تعجُّ بالوقائع (الملموسة) لدور تخريبي
ومدمر لآل سعود في عُمان. يجدر التنويه بأن تطلُّع بعض الاتحادات القبلية
العُمانية إلى خارج الحدود الوطنية، لنسج تحالفات سياسية، إنما تمَّ تحت
وطأة "الانحراف السياسي" الذي اعتور في فترات تاريخية نخب اتحاد الأزد
ومؤسسة الإمامة، حين نحت لأن تكون ألعوبة بيد هذه النخب. لقد عبَّرت نخب
الأزد عن نزعة دائمة للانفراد بالقرار السياسي. وتميَّزت هذه النخبة، في
أدوار انحطاط سياسي، بنظرة ضيقة ومحدودة الأفق وذات طابع مذهبي لم يكن يوما
من صفات الرواد والدعاة الأوائل للإباضية، أو من قيم زعماء الاتحادات
القبلية الوطنية. إن عجز الإمامة، وترديها، وفسادها، وانحطاط النخب، دفع
اتحاد القواسم –في مواجهته الدموية للغزاة الإنجليز (1801-1816م)، إلى جانب
دوافع أخرى- إلى التطلُّع إلى حلفاء لا يثق بهم، كالدولة السعودية، ومن
خارج الحدود الوطنية العُمانية. كما أن اتحاد بني بو علي وجد نفسه في
مواجهه منفردة ودامية وغير متكافئة ضد الغزاة الإنجليز ورجال السلطنة
(1820-1823م)، في الوقت الذي لم تحرك الإمامة ساكنا، ربما لأسباب مذهبية،
وظلت النخب القبلية لقبائل بني هناء وبني ريام والنباهنة والحرث تتفرج
بالمذابح الإنجليزية وكأن الأمر لا يعنيها.
إن
النظرة الضيقة الأفق ذاتها دفعت الجناح الإباضي المحافظ إلى الضغط على
حكومة الإمام عزَّان بن قيس الوطنية لشن الحرب على اتحاد بني بو علي،
وإلهاء الجبهه الداخلية بحروب كان يمكن معالجة أسبابها بوسائل سياسية، بل
إن الفقيه الإباضي خميس الشقصي وجَّه كتابا إلى الإمام عزَّان يحرضة على
قتال بني بو علي قائلا: "اقتلوهم كما قتل النبي يهود بني قريضة". كل ذلك في
الوقت الذي كانت فيه الدوائر الاستعمارية البريطانية تصبُّ كل جهودها
–وفقا للوثائق المتعلقة بحكومة الهند الشرقية ووزارة الخارجية البريطانية-
لإسقاط حكومة عزَّان الوطنية. لقد دفعت النَّظرة الضَّيِّقة الأفق لغلاة
الإباضية، كما يتضح من حملة حكومة الإمام عزَّان بن قيس الوطنية ضد اتحاد
قبائل بني بو علي، لا لشيء، كما يؤكد السالمي نفسه في كتابه، إلا "لأنهم لم
يكونوا تبعا، وذلك لاعتقادهم الفاسد، فإنهم كانوا على دين الوهابية، وهم
بقية من أنصار نجد، وتعرفهم العامَّة بالأزارقة، لأنهم شابهوا الأزارقة في
تشريك القبلة". إن هذه الرؤية المذهبية الضيقة للمسألة الوطنية دفعت
بزعيم الجناح الإباضي في حكومة الإمام عزان، الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي،
للمطالبة بإمضاء حكم النبي في بني قريضة على اتحاد قبائل بني بو علي، الأمر
الذي أثار اتحاد بني بو علي ووظَّف طاقتهم البشرية الهائلة لصالح المخططات
الاستعمارية، لإسقاط حكومة الإمام عزَّان الوطنية.
لقد
ارتبط المسار الشمالي (البوابة الشمالية) بالصراعات الوطنية والقبلية،
وكان الطريق الذي تدفق عبره اتحاد نزار، ثاني أكبر الاتحادات القبلية في
عُمان. إن اتحاد نزار نفسه يعود في أصوله إلى اتحاد القبائل اليمنية التي
استوطنت نجد ودفعتها فظائع حملة نيسابور الثاني (310 بعد الميلاد) إلى
النزوح إلى عُمان. إن طريق البحر (بوَّابة صحار) كان طريقا للجيوش الغازية
وأساطيلها، ومعبرا للتجارة، ونافذة تطل منها عُمان المحاصرة بالطوق
الصحراوي على تيَّارات الحضارة. كما أن هذه البوابة، هذا الطريق الذي شكَّل
البيئة المعيشية والحضارية والحرفية لقبائل الساحل وطبعها بطابعه، نُظِرَ
إليه بشكوك متزايدة من قبل القبائل التي استوطنت الهضبة الداخلية، بوصفه
معبراً، أيضاً، إلى "الجديد" والمروق والأفكار. وسنرى أن هذه النظرة
المعادية للبحر عبَّر عنها الشيخ السالمي بقصيدته:
ومَنْ أراد لدينهِ أن يُنْزَعا
فليسكُنَنَّ مَسْكَداً أو مَطْرَحَا
هذه
القصيدة إنما كانت تعبيرا عن البيئة الثقافية للقبيلة الجبلية، وعن
الانغلاق اللاحق للإباضية في أطوار ضعف الإمامة، وعن تلك الذكريات الدموية
للبحر الذي امتطى صهوته الغزاة، والذي حمل البارجة الإنجليزية التي دمَّرت
بمدافعها البعيدة كل ما بناه الأجداد، وأحرقت نيرانها الحاقدة الحياة
الخضراء على الأرض، واحتلَّت الوطن، وحطَّمت الكبرياء القومية المتأصِّلة
في تلك القبائل.
-12-
في
جنوب عُمان (ظفار) نشأ مع الهجرة الجماعية من حضرموت إلى ظفار، والتي
رافقت استيلاء بدر بن طويرق على ظفار، اتحادان قبليان بدائيان هما اتحاد
قبائل الكثير، واتحاد قبائل القرى. وبالأساس فإن انتقال السكان من حضرموت
إلى ظفار لم ينقطع يوما، فلقد كانت حضرموت العاصمة الثقافية والمرجعية
الدينية السنية السلفية لظفار. لم يتطور هذان الاتحادان القبليان كثيرا، أي
اتحاد القرى واتحاد الكثير، بالرغم من أن المصدر السكاني لهما هو حضرموت
ذات التاريخ العريق في تطور المجتمعات القبلية إلى مجتمعات حضرية، حيث شهدت
مدن حضرموت مجتمعا شبه مدني في مدنها الرئيسة. وبالرغم من ذلك فإن
المجتمعات القبلية كان لها حضور فاعل في حضرموت الداخل وفي الطوق الصحراوي
والوديان. ولعل ما يفسر ضمور تطور الاتحادين القبليين في ظفار وقصورهما هو
أن الهجرة السكانية الرئيسة إلى ظفار، والتي رافقت بدر بن طويرق، إنما جاءت
من الداخل الحضرمي، حيث القبائل البدوية الرعوية التي آزرت دعوة بدر بن
طويرق إلى طرد الأسرة ذات الأصول اليافعية من سُدَّة الحكم في حضرموت. لقد
كان لاستيلاء بدر بن طويرق على ظفار نتائج وخيمة على ظفار وسكانها، فقد
دُمِّرَتْ قنوات الرَّيِّ، وأدت الحروب والصراعات القبلية إلى عزوف الأيدي
الزراعية المجربة وذات الخبرة في الزراعة عن العمل، واضمحلَّت التجارة،
وتقلَّصت المعاملات التجارية.
عرفت ظفار بأنها أرض زراعية خصبة تكثر فيها العيون
والغدران والينابيع، وتهطل عليها أمطار المانيسيون التي تحملها الرياح من
الهند (أمطار الخريف)، غير أن ظفار بلد محدود المساحة (حوالي 104آلاف
كيلومتر مربع) تُحاصِره صحراء الربع الخالي من الشمال وأمواج المحيط الهندي
من الجنوب (بحر الرمل من الشمال وبحر الماء من الجنوب). وكانت الملاحة
وحركة السفن الشراعية تتوقَّف طيلة فترة المانيسيون وهطول أمطار الخريف،
وهي فترة تزيد على ثلاثة أشهر تنعزل فيها ظفار كليا عن محيطها، حيث لم تكن
المنطقة قد عرفت السفن الحديثة التي لا تؤثر فيها أمواج المحيط الهندي ولا
تمنعها من الإبحار. أدى خفوت الحرب الأهلية في حضرموت –والتي اندلعت مديدا
بين اتحاد قبائل الكثير البدوية وبين الأسرة الحاكمة ذات الأصول اليافعية
في حضرموت، هذه الحرب الأهلية التي أثرت كثيرا على استقرار الأوضاع في ظفار
على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسكانية- إلى نشوء
المستوطنات السكانية بالقرب من الساحل، هذه المستوطنات (أشباه القرى) تطورت
إلى ثلاث قرى هي صلالة اليوم. لم تكن هذه المستوطنات مستقلة، في نشأتها
وأغراضها، عن مجتمعات الرَّعي القوية في الجبل، وإنما كانت امتدادا لها
وضرورة من ضروراتها لإكمال عملية التبادل التجارية البدائية للسلع. إننا
نلحظ في هذه المستوطنات في الساحل ميولاً من الأسر إلى تشكيل قبائل، ولكن
هذه الأسر (القبائل) كانت في طورها البدائي، ولم تتطوَّر كثيرا إلا مع
التطورات الهائلة التي رافقت ثورة التاسع من يونيو المجيدة 1965م التي
انتهجت الثورة خلالها سياسة تفكيك القبيلة كوحدة إقصائية معادية لوحدة قوى
التحرير الوطني الديمقراطي، ورجعية في سكونها، وعزلتها، وادِّعاءاتها
الكاذبة.
وفي
ضوء هذا الحراك الثوري من الجبهة الشعبية في ظفار إزاء القبيلة كان هناك
تحرك مضاد من الخبراء الإنجليز نحو انتهاج سياسات قبلية مضادة للثورة. اعتمدت الحكومة بعد الانقلاب الإصلاحي (1970م) على سياسة انفتاح ودعم للقبيلة، فتشكَّلت الفرق القبلية، وتم دعمها بالمال والسلاح
واحتياجاتها اللوجستية كافة، وسُيِّرت لأفرادها الرواتب والمعاشات. وكان
الهدف من إنشاء الفرق القبلية سحب الماء من سمكة الثورة، بل والقتال ضدها.
وهذا ما تحقق، اذ أصبح أبناء الثورة يتواجهون في قتال ضارٍ بين فرق وطنية
موالية للنظام، وقوات من ذات القبائل موالية للثورة. بادي ذي بدء فإن
الثورة لم تكن لديها قاعدة معلومات، أو أي دراسات مفيدة حول مسألة القبيلة
في عُمان، وفي ظفار بالأخص. وعدا دراسات لا قيمة لها فإن فكر الجبهة كان
خالياً من أي فهم يمكن أن يُشكِّل قاعدة نظرية لمسألة القبيلة وسياسات
الثورة إزاءها. ولهذا نستطيع أن نفهم كل هذا التخبط، وكل هذه الحماقات التي
انتهجتها العناصر المُتسيِّدة في سُدَّة القبيلة، وهي عناصر لم يحصل
معظمها على شهادة التعليم الأساسي، وظلَّت تلوك كلمات تافهات تسمعها في
مقاهي عدن حول بعض محاور الماركسية اللينينية. وبالأساس فإن سكان ظفار
والقبائل الظفارية، وبالذات اتحاد القرى، تضرَّروا كثيرا من سياسات السلطان
سعيد بن تيمور التي خنقت كل مجالات حياة السكان، حيث كان لدى هذا السلطان
قائمة هائلة من الممنوعات تبدأ بمنع انتعال الحذاء ولبس النظارة والتدخين،
مرورا بمنع الكهرباء والمدارس والمستشفيات. وكان سماح هذا السلطان لأحد
المواطنين بركوب الدراجة الهوائية مكرمة عظيمة ومِنَّةً سامية تشير إلى
المكانة الاجتماعية لهذا المواطن. كانت الممنوعات تشمل كل مناحي الحياة،
فلا أطباء، ولا دواء، ولا مدارس، ولا ماء، ولا كهرباء.
هجر المواطنون البلد باتجاه دول الخليج النفطية، حيث
شاهدوا رغد حياة لم يحلموا بها في بلادهم. في منتصف القرن العشرين كانت
بلاد الإلهين الجميلين سانلي وواسنلي "ظفول" مهيأة للثورة. وكانت حالة
النهوض القومي في الوطن العربي في أوج ازدهارها وصعودها. وكانت الثورة
المصرية القومية بقيادة المارد الأسمر (وهذه الألقاب والتسميات كانت
متداولة آنذاك) تحقق إنجازاتها الضخمة. واشتعلت الثورات القومية بعد ذلك
(من المحيط الهادر إلى الخليج الذي لم يكن ثائرا). وما هي إلا سنوات حتى
أُطيح بعرش الإمامة في اليمن، في سابقة لا مثيل لها في العصر الحديث. وسقط
النظام الملكي في العراق. وانتصرت الثورة الخالدة في الجزائر. واهتز عرش آل
سعود، حيث وكر الثعابين. وجاء الملك السعودي سعود بعد عزله إلى مصر واليمن
ذليلاً مهاناً يلتمس الصفح والغفران من الذين حشد جيوش المرتزِقة
الأوروبيين والإسرائيلين لكبح جماح أحلامهم في التحرر الوطني الديمقراطي
المستقل. كانت القبيلة في جنوب اليمن تدخل مرحلة تفكك واحتضار في المدن
الأساسية، كعدن وحضرموت، بيد أن الثورة أعادت إنتاج القبيلة بالرغم من كل
الشعارات والأيديولوجيات. ذلك أنه حين اندلعت الثورة في جنوب اليمن فإن
القبائل هي التي قاتلت كما لم يقاتل أحد من قبل من أجل الظفر بالاستقلال
الوطني. كما أن رموزها هم الذين تسيَّدوا المشهد السياسي في الجمهورية
الوليدة (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) غُبَّ الاستقلال.
لقد تحدث السياسيون الإنجليز عن انسحاب مذل من عدن في
خضم حرب شوارع مستعرة، ولكن هذه القبائل التي حققت معجزة الاستقلال ساندت
نظاما ماركسيا صارما وفريدا وصادقا ونبيلا لم تعرف له أنظمة البرجوازية
العربية الصغيرة مثيلا. وهذه القبائل هي عينها التي تقاتلت رموزها على
خلفية قبلية، وبأغطية أيديولوجية، حتى إنها حيَّرت كل "الأصدقاء" بمخزون
العنف الذي أبدته في صراعاتها. إن تاريخ القبيلة العربية في الحياة
السياسية وكافة مناحي الحياة الأخرى تاريخ عميق الجذور. إن الحديث عن "منا
أمير، ومنكم أمير" غُبَّ وفاة النبي يوضح مدى حذر القبائل الأخرى وخشيتها
من سيطرة قريش ومناوراتها، حيث إن الخلفاء الأربعة (أبو بكر وعمر وعثمان
وعلي) كانوا من قريش وبني أمية، كما أن العباسيين كانوا من بطون قريش. إن
التطور المشوه للتاريخ السياسي العربي هو الذي أبقى على القبيلة وأشباه
القبيلة، فلقد منع الإسلام، عبر نظام إرث محكم، تشكيل رأسمالية يمكنها في
تطور لاحق تخليق نخب جديدة، وقيم مختلفة لقوى من شأن عملها الاقتصادي تفكيك
القبيلة، وإلحاقها بسياق اقتصادي واجتماعي مختلف، إذ كانت بغداد، في أوائل
العصر العباسي، حاضرة الدنيا، وكانت ثروات الأمم وخيرات العالم تصب في
خزائنها، ولأن نظام الإرث يدخل في باب الثوابت الدينية. هذه الثوابت أطبقت
على أنفاس العالم الإسلامي، فمنعت تطوره، وأعادت إنتاج تشوهه الحضاري في
دورات لا تنتهي من النكوص والنكبات والنكسات، وغيرها من المصطلحات المعروفة
في الثقافة العربية.
لقد عبَّرت القبائل البدوية الرعوية العربية عن ضيقها
بهذا الأفق المسدود في نظام حياتها الاقتصادي بثورات عارمة، وبنزعة يسارية،
كالقرامطة مثلا، وحتى الميلشيات القبلية الإباضية التي قادها أبو حمزة
وتمكَّن خلالها من دخول مكة والاستيلاء عليها، وكان في طريقه إلى بغداد حيث
ألحقت به الجيوش العباسية هزيمة قاتلة. في ظفار سيطر ثوار 9 يونيو على
كامل الأرض، ولم يبق سوى قصر السلطان وما حوله، فاضطر الإنجليز إلى القيام
بانقلاب إصلاحي عام 1970، وتشكيل الفرق الوطنية القبلية. هاتان الخطوتان
المدروستان شكَّلتا حجر الزاوية في استراتيجية القضاء على الثورة
المتأجِّجة في ظفار. إن هذه التجربة، أي تجربة الفرق القبلية في ظفار، كانت
مقدمة لتجربة الصحوات خلال الاحتلال الأمريكي للعراق، وهي خلاصة التجربة
الاستعمارية البريطانية في علاقتها بالقبائل العربية. تكتيكيا كانت
بريطانيا تشعر بالهلع من هذا الزحف المنظم الدقيق والصارم لهؤلاء المقاتلين
الحفاة على أطراف ممالك النفط، فلقد انتصر الحفاة في كل المعارك التي
خاضوها، وأبدوا حراكا سياسيا معقولا، وتم تحرير المرأة تحريرا كاملا
ومنجزا، واستعصوا على كل محاولات دحرهم عبر جيوش المرتزقة الأردنيين
والقوات الخاصة البريطانية "القبعات الزرق". كانت عبقرية القبائل الظفارية
القتالية تكمن في جوهر المسألة، ومع ذلك تم التعامي عن هذه المسألة بدعوى
أن القبيلة قد تم تجاوزها، وكان ذلك ادعاء كاذباً وتهويلاً لعناصر غير
مسؤولة. عناصر من سوقة حارات صلالة معروفين الآن بتفاهتهم وسقوط الكثير
منهم في حضن أجهزة القمع المعروفة في بلادنا.
أدت
حملة الإعدامات لعناصر بارزة في قبائل الريف، وعناصر من جبهة تحرير ظفار،
إلى حدوث شرخ مؤلم في الحياة الداخلية للثورة. وامتدت حملة الإعدامات لتشمل
أصحاب الرأي من المناضلين الوطنيين. ونجا المناضل البارز علي محسن حفيظ من
الإعدام بتدخل يمني، وقضى ردحا من حياته حبيس الإقامة الجبرية، حيث أصيب
بالشَّلل حتى وافاه الأجل في مسقط المحروسة. وكنت قد تحدثت إليه كثيرا،
ولمست عمق الجرح الذي خلَّفته سياسات القمع في الثورة في أخلص أبنائها
وأشجعهم. كانت سياسة بريطانيا تتمحور إزاء القبيلة في الثورة من خلال
محورين:
1- المحور الأول: شق صفوف الثوار بإنشاء الفرق القبلية.
وقد أصبح ذلك ممكننا نتيجة لسياسات الإعدامات الخرقاء، والخلافات حول
الاستراتيجية: عُمان أم الخليج العربي؟.
2- المحور الثاني: تبني سياسات إصلاحية نسبية تحقَّقت بانقلاب صلالة عام 1970م.
كان الموقف البريطاني على الأرض يتمثَّل في إبداء
ليونة كاملة إزاء الفرق القبلية وتداعياتها. وحين تحققت أهداف بريطانيا
الاستعمارية تخلَّت عن هذه الفرق، ولم يعد لها وجود حقيقي سوى ذلك الوجود
الاستعراضي في المهرجانات والأهازيج الشعبية، حيث يعرض نموذج من هؤلاء
الرجال وقد جُرِّدوا من تاريخهم الوطني والعسكري. يعرضون كذكرى غابرة انقرضت أو تستحق الانقراض.
لقد تم تفتيت القبيلة في ظفار إلى وحدات صغيرة بعضها لا يزيد على بضعة
أفراد. على رأس هذه الوحدات شيخ ونائب شيخ. وبهذا أنشأت الدولة شبكة
معلومات استخبارية، وجعلت للشيخ ونائبه رواتب وامتيازات. وأحكمت وثاق هؤلاء
بقيود أمنية لا يستطيعون منها فكاكا. إنه مجتمع كامل للقمع، في خدمة
الأغراض الاستعمارية للإمبرياليين الإنجليز، حتى إن المرء من هؤلاء يريد أن
يتجسَّس فلا يجد ربَّما من يتجسَّس عليه سوى نفسه، في مجتمع للجواسيس محكم
التنظيم .. دقيق وصارم. ويحكى أن شخصا من هؤلاء الرجال قضى عمرا مديدا
يتسلم راتبا معتبرا من جهاز الأمن دون أن يسألة أحد ولو مرة واحدة عن
معلومة مقابل كل هذا الراتب، حتى حل ذلك اليوم الذي استدعاه فيه جهاز مختص
وسأله:
- كم من السنين تتسلم راتباً منا؟
- إنه عمر من عقود وعقود.
- ولم تشرفنا ولو مرة بزيارة.
- لقد نسيت.
- ولم تأتنا ولو مرة بمعلومة واحدة.
- لم يكن لديَّ ما أخبر به.
- والآن لديك مهلة خلال أسبوع لتأتينا بمعلومة واحدة مفيدة ... "وإلا"...
انصاع
الرجل، وذهب يُقلِّب الأمر دون جدوى، فمن أين يأتي بمعلومة مفيدة لم يسبقه
أحد إليها؟. وأخيرا (فرجت مع الرجل) حيث قام بسرقة بندقية أحد أقاربه،
وذهب ليلا إلى قبر المرحوم والده، وحفر حفرة عميقة في قبره أودعها البندقية
الآلية التي سرقها، وكتب تقريرا مُفصَّلاً حول تآمر "المرحوم والده" على
أمن الدولة والنظام، وكيف شارك هو نفسه في ذلك، حيث خزَّن السلاح في قبر
الوالد انتظارا ليوم الثورة الذي قد يأتي ولا يأتي.
بمجرد
تصفية الجبهة الشعبية لتحرير عُمان، أو بالأحرى تصفية الجبهة الشعبية
للثورة ولنفسها، قام النظام بخطوات متسارعة لإلغاء دور الفرق القبلية، ولم
يعد لها سوى وجود رمزي، فلم يكن النظام ليقبل بوجود السلاح بأيدي هذه
القبائل المقاتلة ذات التاريخ العريق في التمرد والثورة. انصبَّت السياسات
القبلية للنظام على إضعاف القبيلة وتفكيكها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى
أرادت الإبقاء على وجود محسوس لهذه القبائل لأغراض الاحتفالات، وتحويلها
إلى جهة أمنية مساعدة ومتطوعة للقيام بالأعمال "الخيرية الأمنية"، في
الوديان والجبال النائية، وفي السهول والبوادي، تطارد أبناءها وتشي بهم. لم
تعد القبيلة في هذه المرحلة، وحتى وقت هذه الكتابة (2011م)، بيتا يحمي
الضعيف ويُؤمِّن المستجير، ويقري الضيف .. لم تعد بيتا للعزة والإباء
والكرامة. هل أجدت سياسات النظام في تدجين القبيلة وتفكيكها نحو إحلالها في دولة الشعب الموحد وفي الانتماء إلى وطن؟.
يعلمنا
تاريخ بلادنا أن القمع والأوامر البيروقراطية لم تُجْدِ يوما في معالجة أي
قضية من قضايا بلادنا. لقد كان بعضهم يتفاخر في الثورة بأن القبلية
والقبيلة لم يعد لهما وجود في الثورة، وسرعان ما عادت القبلية والقبيلة، أي
منظومة القيم التي تختزنهما كأقوى ما تكون، بمجرد ضعف الثورة وفنائها.
إننا هنا عندما نتحدث عن القبيلة في ظفار فإنما نتحدَّث عن القبائل في
الريف والبادية فقط، أي عن اتِّحادي القرى والكثير. لقد التفَّت هذه
القبائل حول المطالب المشروعة للثورة في ظفار، وقاتلت من أجلها، وهو ما أدى
إلى سقوط الروح الإقصائية في القبيلة، ففي ميادين القتال، وفي ساحات
المعارك، توحَّدت القبائل كشعب واحد. وهذه كانت لحظة نادرة في التاريخ
الوطني كان يمكن أن يُبنى عليها. لقد تم وأد الثورة ولحظاتها المشرقات
وأيامها الخالدات ووعودها الصادقات وقبائلها الباسلات. وسيظل الحنين إلى تحقيق هذا اليوم كرَّة أخرى يتسلَّل كطيف إلى خِدْرِ الكاعب الحسناء: بلادنا المحروسة ظفول.
صلالة الناعسة كغانية عادت بعد الانقلاب الإصلاحي عام 1970م إلى لهوها
وعبثها ومجونها، ولم تعد تصيخ سمعا لدوي المدافع وأزيز الرصاص الذي يلعلع
بالقرب منها في السهل والجبل، فواقعيا لم تكن هناك في مدينة صلالة قبائل، وإنما أسر لم ترق إلى مستوى التنظيم القبلي،
بالرغم
من الادعاءات الكثيرة حول هذا الأمر ومحاولات بعض الأسر توسيع دائرة
تحالفاتها وإلحاق بعض الأسر بها إلحاقا قسريا أو طوعيا، فإن أواصر هذه
الأسر إنما تقوم على ما يشبه رابطة الدم، وهي رابطة وهمية. ولم يقل أحد إن
القبيلة تقوم على رابطة الدم إلا أولئك الذين لا يعتد بمرجعيتهم العلمية أو
تحركهم نوازع عنصرية كالنازيين. إن لقبائل جنوب شبه الجزيرة العربية
تاريخاً حضاريّاً عريقاً موغلاً في القدم، حيث كانت ظفار تنتج اللُّبان
والصمغ والتوابل التي تستخدم في مصر الفرعونية للتحنيط والتبخير وفي صناعة
العقاقير، بيد أن استعمال اللبان في الطقوس الدينية كان هو الغالب في مصر
الفرعونية، وفي مذبح بعل في بابل، وكذلك الحال لديانات الهندوس والفرس.
ولقد أشار سفر التكوين إلى أبناء "جو قحطان"، أي قحطان الجد الأسطوري
لقبائل جنوب الجزيرة العربية.
-13-
لقد
ورث اتحاد القبائل عين الخصائص القبلية القائمة على التكافل والتعاون
الممتدَّي الجذور في المشاعية البدائية، إلى جانب قوة التقاليد وتلك
الأساطير والأهازيج والحكايات والأغاني، وكافة أنواع الفلكلور الذي عزَّز
المعطيات الأسطورية للفروسية والمغامرة في البيئة الثقافية للقبيلة، بيد أن
كافة هذه الخصائص والمعطيات الذاتية الثقافية قد جرى تطويعها وليُّ عنقها
لمصلحة الدولة الدينية (الإمامة) ونظام مؤسسة الرَّيِّ المركزي، وهو ما
يشير إلى ظهور جوانب تناحرية في مجتمع شمال عُمان وليس انقسامات طبقية. كما
أن اكتشاف فائض الإنتاج، في سنوات الاستقرار، عزَّز الحاجة إلى مزيد من
حشد الطاقات البشرية في عملية الإنتاج، فكانت الحروب الوسيلة الوحيدة
لتحقيق ذلك. إن تخلُّف هذا التطور، بل نكوصه وارتداده إلى الخلف وبطأه
النسبي، ارتبط بالحروب القبلية والانقسامات المذهبية والنهب الذي مارسه
الغزاة، فعُمان كانت –قبيل الحرب الأهلية الثانية- دولة مزدهرة تحت قيادة
اليعاربة، وفجأة اندلعت نيران حرب ضروس بسبب خلاف سياسي مذهبي حول شروط
الإمام في الإسلام السياسي الإباضي، وفي التقاليد السياسية للقبيلة
الشمالية العُمانية... حرب ضروس أتت على كل شيء، وألحقت دمارا بالبنى
التحتية، وبالإنسان نفسه.
لقد أدَّى مجمل هذه الأسباب إلى أن يحمل المجتمع
العُماني معه إلى قلب القرن العشرين تشكيلة اجتماعية واقتصادية تآلفت فيها
بقايا المشاعيَّة الأسرية والسَّقويَّة والرَّعويَّة،
فبعض القبائل الصحراوية كانت تحتفظ بعناصر من بقايا مرحلة الأمومة
البدائية، وبعض القبائل في المنطقة الوسطى، وهي أرض ظفارية سَلَخَها النظام
عن ظفار، كانت حتى قيام الانقلاب الإصلاحي في صلالة تُمارِس عادة تبادل
الزوجات، وعادات إقراض الزوجة في إطار القبيلة لمدة محددة قد تطول
إلى سنة، وقد تقصر لأيام معدودة. إن هذه العادة التزام اجتماعي وعقد وعرف.
وهذه الأعراف تُوضِّح مدى الدَّمار الذي ألحق ببعض القبائل الظفارية. إن
هذه المشاعية جاءت لتُلبِّي حاجة أفراد القبيلة للبقاء والتضامن. وعلى كلٍّ
فإن المجتمعات الإسلامية قد احتوت على أشكال من هذه المشاعات. وفي قلعة الموت، حيث تحصَّن الحشَّاشون، أقرَّ الحشَّاشون بمشاعة النساء داخل القلعة. كان ذلك في العصر العباسي. والحشاشون
جماعة فكرية متقدمة، وليسوا بقايا مشاعة انسلَّت من زمن غابر، وكان لهم
تنظيمهم الاجتماعي والسياسي والعسكري المتقدم. وتُوضِّح المجادلات والرسائل
المتبادلة بين قائد هذه الجماعة والخليفة العباسي الرؤية السياسية،
والاجتماعية، والثورية المتقدمة لهذه لجماعة المناضلة.
وبالنسبة إلى عُمان فإن قبائل الأطراف وقبائل الصحراء
في ظفار كيَّفت شروط حياتها وفقا للظروف المتاحة، وفي إطار ضرورة، وهي
ضرورة نافية وطاردة لأي حياة. ومع ذلك فإن هذه القبائل تمكَّنت من
"البقاء"، وجاء بناء قيمها بما يُعزِّز وحدة القبيلة في دفاعها المستميت عن
الحياة. وأخيرا فإن عادة إقراض الزوجة في إطار القبيلة لم تكن لتتمَّ إلا
بموافقة الزوجة ورضاها. وفي مرتفعات ظفار فإن ذكرى الإلاهين الظفاريين
الحميريين سانلي وواسنلي مازالت تلوح في اللهجة الشحرية الظفارية، وفي
مفرداتها. ذلك أن هذين الإلهين لم يكونا ليُحرِّما شيئا أو يُحلِّلا شيئا،
وإنما هما صديقان ودودان لأهل العشق والجوى، ومحبان لعرَّافات المركز
العالمي للسحرة في خور روري، حيث الساحرات الفاتنات والعرَّافات الشَّبقات
يتساقين إكسير الحياة خمرا معتقا من عضوي الإلهين المبجلين سانلي وواسنلي.
وحتى الان فإن بقايا قصر الملكة الجميلة بلقيس يقبع على بعد خطوات من مسرح
الاحتفالات الصاخبة للإلهين سانلي وواسنلي والساحرات الفاتنات والعرافات
العاشقات، حيث لا شي إلا عبير الحب يضوع في الأرجاء ويسري من الشاطئ إلى
السهل والجبل، وحتى الذاريات الشامخات في "سمحان".
عندما زحفت القبائل البدوية من صحراء حضرموت بقيادة
المغامر بدر بن طويرق لتحتل ظفار، مدمرة المدن العامرة وقنوات الرَّيّ،
كانت تُحرِّكها جهالة إسلام سلفي منزوع من سياقه الصحيح، حيث أخذت تُردِّد
هازجة في احتفالاتها:
"واسنلي... سانلي
والحمار يركب عليه".
لم يكن هذان الإلهان يستحقان كل هذا الجحود.
كانت العرافات يقدمن إجابات
تتعلق بالحياة والموت والوجود.
ولم تكن الساحرات يلحقن ضررا بأحد
بل هن يصنعن مكائد نسائية
للحب والهوى،
وحين يثملن يطفقن مغردات كما حساسين
واليوم...
اليوم لا حب ولا هوى،
لا سانلي ولا واسنلي
لا عرَّافات... ولا ساحرات
لا قبائل ترج الأرض عنفوانا وكبرياء
وإنما الطغاة
وشاعر الطغاة
والتلفزيون
والمخبرون
وذراريهم من أشباه المثقفين
"خدامنا المطيعين" في النادي الثقافي
والعياذ بالله.
في
عُمان الشمالية، وفي قلب مؤسسة الإمامة، كانت القبائل العُمانية قد خرجت
من أتون الحرب الأهلية الثانية وقد أحاقت بها أذى ودماراً لا حدود لهما.
وفي خضم هذا الدمار كان على العُمانيين مواجهة غزو نادر شاه لعُمان،
والتهديدات الأوروبية، وأخطرها كان التهديد الاستعماري الإنجليزي القابع
على الأبواب. ومنذ مطلع القرن العشرين قاتلت القبائل العُمانية مديدا من
أجل صيانة وحدة الأراضي العُمانية واستقلالها. كان الوضع العربي والإسلامي
محبطا ومنكسرا. وسادت الفتن. وخيم الظلام. وتهاوت مؤسسة الإمامة إلى براثن
الخرافات والخزعبلات وتوافه الأمور، متخلِّية عن مشروعها التنويري للإسلام
الجهادي... قاتلت القبائل العُمانية في شروط وظروف غير مواتية، ومع ذلك ظلت
مؤسسة القبيلة العُمانية تلبس أكفانها. وكان العُماني يلبس كفنه (دشداشته) و"عمته البيضاء" على الدوام، في اصرار بالغ على الجهاد وفقا للإرث التاريخي للعُمانيين.
لقد
عملت بريطانيا العظمى على تدمير شامل وممنهج لكل المؤسسات العُمانية، بدءا
من مؤسسة اتحاد القبائل العُمانية (التمائم)، ومرورا بمؤسسة الإمامة
ومؤسسة الرَّيِّ العُمانية، وانتهاء بالأسطول التجاري والحربي. وما بزغ فجر
القرن العشرين إلا وعُمان جثة هامدة بلا حراك، ومع ذلك فإن بريطانيا لم
تكن لتجرؤ على إنزال قواتها في البر العُماني، واكتفت بقدرة سفنها الحربية
المتطورة على القصف من البحر، حيث أكدت لأصدقائها السلاطين مرارا "... إننا
سنتدخل لصالحكم إلى حيث تصل دانات قذائف مدافع سفننا الحربية". وفي منتصف
الخمسينيات من القرن العشرين اقتلعت بريطانيا العُمانيين من جذورهم، وألقت
بهم على قارعة الكيانات النفطية الجديدة بالدمام، والمنامة، والدوحة،
والكويت. وكان الإقصاء على أشده في هذه المدن. لم يكن لدى العُمانيين أوراق
ولا هويات ولا جوازات سفر. ويروي المناضل والأديب الفلسطيني غسان كنفاني
فصولاً من عذاب العُمانيين في هذه المنافي والكيانات الجديدة في الخليج
والجزيرة العربية. وعلى سبيل خنق هذا الشعب الأبي فلقد منعت بريطانيا عن
العُمانيين حتى "حبة الأسبرين"، وحالت دون وصولها من آخرين عندما كان ذلك
ممكنا.
لم يكن في بريطانيا من يكتب عن عارنا في مسقط.
لم يكن هناك سارتر،
وإنما جيف من حضارة استعمارية ميتة
شهودها رجال من أمثال دينسون وتيم لندن وبراون وتشونزي
وآخرين كثر.
إن
انهيار هذه المنظومة العُمانية في الشمال والجنوب لم يأت عبر تفاقم
التناقضات فيها فقط، وإنما عبر قهر خارجي وغزو أجنبي واضح المعالم. كما أن
نظام مؤسسة الرَّيِّ في الشمال لم يتضمن إكراها غير اقتصادي، ولا حتى أسلوب
الإكراه العبودي، فلقد كانت الأراضي الزراعية محدودة وتقوم على زراعة
الكفاف. لقد أدى نشوء "منعزلات" العُمانيين في الكيانات والمستوطنات
النفطية الجديدة في الجزيرة العربية، حيث لا أجور عادلة، ولا تذاكر سفر،
ولا حقوق، وإنما الاعتداءات الجنسية على الأطفال، والإقصاء، والإهانة
الوطنية، والجوع، حيث كان العُمانيون يحتجزون في "الكرنتينا"، أي مركز
الحجر الصحي، ويلقى بهم من قارعة كيان إلى آخر، ومن رصيف إلى رصيف، مذلين
مهانين، يتلقفهم الموت كأناس ماتوا قبل أن تحين ساعتهم وهم في ريعان الصبا
وفي سنوات زهو شبابهم المأسوف عليه. من هذه المنعزلات سطعت شمس
الحركة الطلابية العُمانية، ومن هذه المنعزلات ولدت الحركة الوطنية
الحديثة، ودوَّت دانات المدافع في ظفار على وقع مقولة "إن السلطة تنبع من
فوهة البندقية". وجيش التحرير الشعبي... جيش الحفاة يحرز الانتصارات ويطرح
رؤيا جذرية لمسائل التحرر الوطني الديمقراطي، على خلفية المشاعة الكبرى في
ريف ظفار، حيث يتلمَّس المراقب الحصيف وقع خطى الإلهين الوسيمين سانلي
وواسنلي، وهما يترعان العرافات الشبقات والفاتنات الساحرات أدناناً من خمر
الآلهة يغترفنه من الغدران، ويتلمسنه في الينابيع الرقراقة، وفي العيون
التي ترضع ماءها من أثداء العرافات، في معبد الرب في بيت يافاش وما حولها.
وفي الشمال العُماني كان الشاعر السلفي الإباضي، وقد
جرد من مشروعه الإصلاحي التنويري للإمامة، ولم يعد يلبس كفنه... كان هذا
الشاعر يندب حظة هاتفا:
إذا أردت لدينك أن يطرحا
فلتسكننَّ مسكدا أو مطرحا
وكأن
دين هذا الشاعر لم يطرح من قبل ومن بعد!، دين لم يذد عنه أهله كما يجب،
دين عظيم ضيعه أهله كما ضيعوا دم الشهداء من قبل ومن بعد. وفي مطرح كان ثمة
مشهد آخر، حيث كان الأهالي يزفون العريس هازجين:
كلنا كذاذيب*
والمعرس حبيب الله
كلنا كذاذيب
والصادق رسول الله
إنه اعتراف مهول لمجتمع كذابين أطل علينا عشية الانقلاب الإنجليزي في صلالة عام 1970م.
كاتب وروائي من عُمان
هذه مقدمة كتاب قيد النشر ويتضمن الأقسام التالية:
- الدور التاريخي والسياسي، والتطور الاقتصادي
- النشأة والدور والاستحقاقات الراهنة
- الوردة والسيف
- القلم والقرطاس والإيديولوجيا
- الفناء في عصر الاستعمار والإمبريالية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· كذاذيب: كذابون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق