23 مارس 2012

نشمي مهنا.. يعانق "الآتية كغدٍ مألوف"

     صدر مؤخرا للشاعر الكويتي نشمي مهنا مجموعته الشعرية الجديدة «الآتيةُ كغدٍ مألوف» عن دار مسعى للنشر والتوزيع بالكويت في ٨٨ صفحة من القطع المتوسط.
     وتأتي هذه المجموعة بنفس جديد وتجربة فريدة في ٢١ قصيدة تمثل صوت نشمي مهنا الخاص في المشهد الشعري في الكويت، وبعد ما يقارب العشر سنوات من إصدار مجموعته الشعرية الأولى «البحر يستدرجنا للخطيئة».
     في هذه المجموعة يوغل مهنا في التفاصيل، والذاكرة، بدءًا من "الظل الأول"، إلى "الظل يسبقنا بخطوتين" و"ظل آخر" مرورا بـ"امرأة لا تكتب" و"لغات بدائية" حتى آخر "نهارات منسية"، كلها تتعدى كونها عناوين نصوص إلى نفس شعري متراكم أثبت حضوره بالقبض على اللحظة الأكثر توهجا في الحياة والنص.

    صمم غلاف المجموعة محمد النبهان من لوحة فوتوغرافية للفنان السعودي محمد الخراري.

من أجواء المجموعة


وأظل

كما الشاخص في المرآة،

مغدوراً أفاق من موته

يتحسس جسده

ليتيقن

أنه مغدور أفاق من موته

يتحسس جسده،

وبلا يقين

يفتش عن أثر للطعنات

أو ظرف رصاصة طائشة.

07 مارس 2012

في رثاء عبدالله أخضر ..أفول بدر ألف ليلة وليلة

محمد الحضرمي


الكاتب الراحل عبدالله أخضر.. غياب مفاجئ في ريعان الشباب
صَباح كئيبٌ، حمل إليَّ خبر وفاة الكاتب والقاص عبدالله بن أحمد الحارثي، والمعروف أدبيا: "عبدالله أخضر"، فتحت الرسائل التي تدفقت فجأة في جسد هاتفي الإلكتروني، حاملة نعي صديق الكُتَّاب، والبُداة، والجمال، والصَّحاري، صَديق السُّياح الأجانب من جنسيات العالم وألوانه وأعماره، صديق العالَم، حيث كان يعيشُ في مخيمه "ألف ليلة وليلة"، المزروع كشجرة خضراء، في وسط صحاري بديَّة، هناك لفظ عبدالله أخضر أنفاسه الأخيرة، حيث هاجمه الموت، بضراوته، وشراسته، دون أن يمهله لحظة قصيرة، ليودع شقيق روحه: محمد الحارثي، أو ابنته "وصال"، أو أصدقاء المخيم الجميل، المزروع في وسط الصحراء الذهبية، ودون أن يقول للعالم كلمة وداع أخيرة، ينامُ عبدالله في سريره، لتطول نومته إلى الأبد، ويعيش مع نفسه العشاء الأخير في مائدة الحياة، وهو الذي حوَّل حياة أصدقائه إلى ألف ليلة وليلة، باذخة بالدعابات، والحكايا، والقصص، والضحك، والاشراقة التي تشع من عينيه.
مات عبدالله أخضر، الاسم الأدبي الجميل الذي اختاره بمحض إرادته، موقعا به نصوصه القصصية، وملونا به حكاياته، وتفاصيل أسراره، لماذا اخترت يا عبدالله هذا اللون؟، سؤال لطالما احتفظت به في نفسي، ولم اسألك عنه، رغم معرفتي بك منذ ما يزيد عن عقدين من السنين، رغم اللقاءات بك، التي تسمح بها الحياة، وكلما التقيتك نثرت عليك عنائي من الحياة، وتقابلني بابتسامة دافئة، وكأنك تقول: وماذا عن عنائي أنا!.
ذات مرة، باركت مشروعه، ولكنه كما وصفه: "شغل مكدَّة"، بحاجة إلى عزيمة وإصرار حتى ينجح المشروع، لقد نجح، وتقافلت على المخيم الوفود الأجنبية، من كل حدب العالم وصوبه النائي البعيد، في تلك البقعة الصحراوية، المسورة بحزام ذهبي من الرمال الناعمة، والتي تبدو كقصيدة غزل تتلفظ بها شفاه الربع الخالي، هناك بقعة ملونة بالخيام الدافئة، خيام ألف ليلة وليلة، خيام فندق من فئة خمسة نجوم، أقامه خيمة خيمة، وأثثه كراسي وأسرَّة، وهيَّئه لاستقبال كبار السواح العاشقين للصحراء، ولنسمات الكوس وهي تهب من أعالي رمال بدية، في الأسحار الباردة.
هناك نصب الناسك خيمته، ودار حول دائرته الروحانية، فقرأ عزيمة الجَذب، ليأتيه العالم من كل حدب وصوب، الجَميلات من مختلف الجنسيات، الأدباء، الشعراء، الفنانون، عشاق الألق والحَياة، البُداة الأنقياء، الأصدقاء، والفضوليين، كلهم حجوا على مخيم ألف ليلة وليلة، وطافوا على أرائكه، واستراحوا في أسرَّته، وغاصوا في الرمال، وامتطوا ظهور الجمال، واكتحلت عيونهم بألوان الشفق، بعد أن تجرَّ الشمسُ خيوطها الحريرية، وتغوص في الأفق، ثم يفيقون مبكرين، لتشرب عيونهم الفجر، وهو يرسل أنواره الفسفورية.
عرفتك أيها الأخضر الجميل، ألقا واعدا، وشجرة مثمرة بالمَحبَّة والضحكات والكرم، وأياديك البيضاء لم تضمها على من تعرفه، لم تكن يدك مغلولة إلى عنق البخل والتقتير، بل كانت مبسوطة كل البسط، متناهية السخاء، بامتداد الصحراء الفسيحة التي خبأتها في قلبك.
عرفتك من قريب ومن بعيد أيضا، فكنت في القُربِ والبُعد واحِد، وكانت لياليك كلها بيض، لأنك كنت فيها البدر المنير، والقمر الذي لا تتكدر لياليه، وفي روحك انطوت المنازل.
- هل تنشر لي نصا؟
- نعم سأنشره يا عبدالله، ولك مساحات الحب مفتوحة قبل صفحات شرفات.
- سأرسل لك نصا جديدا..
- أرجوك لا تتأخر، كي أحتفي به.

لماذا انقطع هذا الحوار الأخوي فجأة؟، وأين أخذتك الأيام بعيدا عن محبيك وقرائك، أعرف أن أحبابك هم ذاتهم أحباب الشاعر الشنفرى، طريد المدينة، وعشيق الصحراء، أعرف أنك لا تكتب الشعر، لكنك تكتب القصة المُقطرة كقصيدة شِعر، وأعرف أيضا أنني أتذكرك كلما طاف في خيالي بيتا الشنفرى: (فقد حُمَّت الحاجات والليل مقمرٌ .. وشدت لطيات مطايا وأرحل .. وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى .. وفيها لمن خاف القِلى متعزل)، أعرف أنك نأيت بعيدا، في معتكفك الصَّحرواي، ومعبدك الرملي، وأنت تتجاذب أطراف الحديث مع أصدقائك، وزوارك، وسمارك، وكائنات الليل اللامرئية.
أخضر بروحك المحبة للآخر، وبشقائك بالحَياة، وبتشاقيك عليها، أخضر بروحك الآسِرة، وبنصوصك القصصية، أخضر بسَخاء يدك، ورحابة صدرك، ودفء مشاعرك، أخضر بقلمك، الذي قررت ان تغمده في "تلبيسته"، وتضع النقطة بعد الكلمة الأخيرة، في أول ليلة مقمرة من ليالي البيض، لتستريح أخيرا في رحم أمك الأرض. ستفقدك الليلة الثانية والثالثة، ليالي الهجوع والوصال، في مخيم ألف ليلة وليلة، وستفتقدك الشمس في مزرعة "نهار"، وعليك رحمة الله وغفرانه.

05 مارس 2012

نهد المرأة النائمة على السرير.. قصة قصيرة

حمود حمد الشكيلي

من خلف جدر الأسمنت في هذا المكان يأتي صراخ مجهول. يصيخون السمع للصوت القادم من مكان لم يحدِّدوا جهته في المرة الأولى.  
عادت المرأة إلى حاسوبها؛ بعد أن تأكدت أن الصوت ليس صوت ولدها النائم في الغرفة. كذلك فعل الرجل؛ بعد أن نزل من إحدى غرف الطابق الثاني. لكنه لم يدخل إلى غرفة النوم، اكتفى برؤية غرفة التلفاز، هناك حيث الأطفال والصبية مادُّون أعينهم إلى وجوه أطفال من كرتون.  
بدا من عبوس وجه المرأة تيقِّنها أنه صوت طفل رضيع. جمعت حاجبي  عينيها، مطّت شفتيها.  شكّلت ملامح وجهها علامة استفهام ؟ أفاد التعجّب!.

في هذه الساعة يزداد الصوت. ما استطاعت المرأة إكمال التدريبات الإلكترونية على برنامج IC3 في شاشة الحاسوب.
خرجت من الغرفة.
كان زوجها قد خرج قبلها.
ثمّة أطفال آلمهم صراخ الصوت المجهول.
لذلك ساندوا والديهم، في لحظات الوقوف أمام باب البيت. 
تحدّثوا عن جيرانهم.
عدّت المرأة جاراتها.
لم يسمع أحد الأسماء.
شفتاها تعدُّان النساء اللاتي يسكن في هذا الحيِّ. لم تكن واحدة من اللاتي دخلت بيوتهن مهملة إلى حد أن تترك رضيعها يصرخ بهذه الصورة.
" وا ، واااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا "

ثلاث مرضعات في حيِّنا.  

تمشي المرأة في إحدى سكك هذا الحي السكني، تحاول أن لا تثير حركات سيرها على الأرض أي صوت، أذناها ممطوطتان في الهواء. صوت الرضيع يخفت ويزداد، كأن أحدا يغيظه على حلمة نهد أُمّه.
توقّفت أمام باب بيت لا يبعد كثيرا عن بيتها. بدا من ملامح وجهها أنها عرفت مصدر الصراخ، مدّت إحدى أصابع يدها اليمنى إلى جرس البيت.
هي تعرف هذه المرأة. إن كانت لا تعرف اسمها، إلا أنها تعرف شكلها. رأتها أكثر من مرّة وهي تنزل من سيارتها، ناوية دخول بيتها. تتذكّر آخر مرّة رأتها فيها، كانت قد أخرجت من الكرسي الخلفي لسيارتها كيسا، فيه علبتا ماء كبيرتان، وفي كيس آخر زجاجات بنِّية وبيضاء.
إن لم أكن مخطئة فإن آخر مرّة رأيتها تدخل بيتها وفي يدها كيسان بلاستيكيان، في اليد اليمنى كيس أبيض شفاف،  فيه زجاجات أدوية مختلفة، وفي الكيس الآخر علب مياه معدنيّة.
إن خرجتْ سأقول جئت لأتعرف إليكِ، بعد أن رأيتك قبل ثلاثة أيام، وفي يدك كيس أدوية، والآن سمعت الرضيع يبكي، قلت أكيد أنه مريض. 

تصفُّ هذه المرأة الجمل والعبارات للمرأة التي ستخرج، بعد أن سمعت جرس بيتها يرنُّ للمرة الثانية.
في المدينة لا يتجرّأ أحد على الذهاب مع آخر دون معرفة سابقة. أم أني سأقول خفت على الطفل، قلت ربما ترك وحيدا. لكن الأمهات لا يتركن أطفالهن بمفردهم، إلا إن كان ثمة خادمة في البيت. هنا ستعرف أني... قد يتبادر إلى ذهنها أني متطفّلة، أو قد لا تفتح أبدا؛ كون نساء المدينة ما عدن يفتحن أبوابهن، إلا بموعد سابق. كثيرة هي الجرائم التي حدثت لنساء فتحن أبواب بيوتهن دون سابق موعد.  
لا يهم كل ما قد تبادر به ملامح وجهي الخائف على الطفل الذي لم يسكت إلا ليبدأ صراخه من جديد. سأرنّ الجرس مرة ثالثة، إن خرج أحد سأقول له بكل شجاعة" الرجاء إسكات الرضيع، ما استطعنا النوم من صراخه". 
لن أضغط الجرس مرّة أخرى، لا داعي لإزعاج أحد لا نعرفه، الأفضل أن أعود؛ سيأتي وقت يسكت فيه الطفل.
استقبل الرّجل زوجته، أخبرته عن البيت الذي يخرج منه صراخ الطفل الرضيع، قال لها: لكنه لم يسكت أبدا. قالت: أسمعه، لكن ماذا نفعل؟ ليس لدينا حق في دخول بيت لم يفتح لنا بابه.
ادخلوا، سيذهب إليه أحدٌ آخر غيرنا، من يعلم قد تكون أمه في الحمام، أو في المطبخ، أو مشغولة بزوجها في سريرهما.
دخلوا جميعهم. واصلت المرأة مراجعة برنامج IC3 . دخل الرجل الغرفة التي خرج منها قبل قليل. الأطفال أعلوا صوت التلفاز. 

أدخلت المرأة أذنيها إلى جسدها، خرجت عيناها؛ لترى من النافذة إن كان ثمة أحد خرج من بيته ؛ لرؤية الطفل المتألم من هذا الصراخ المزعج والمؤذي في آن واحد. 
بعد الدقائق الثلاث الأولى، من خروج عيني المرأة، التي كانت في الغرفة، رأت من النافذة امرأة تسير إلى جهة البيت الذي لم يخرج أحد منه قبل ربع ساعة تقريبا. إن لم أكن مخطئة،  فهذه ليلى تتبع صراخ الطفل، هذا مشيها، من طولها تكاد تنحني للأرض، ليلىىىىىىىىىىىى. 
التفتت، فشع وجهها، أنارت حبة الخال التي في خدها المكان الذي تسير فيه.
- إلى أين؟
- أتبع صراخ هذا الطفل.
- اصبري سأنزل معكِ.
نزلت.
المرأتان في هذا اللحظة والغروب قد اقترب تسيران معا. تتحدثان بصوت غير مسموع. 
   يصلان البيت الذي يبكي  داخله طفل مجهول للمرأة الأولى. أما ليلى فإنها تقول للتي تسير معها" أنا أعرف هذه المرأة، التقيت بها في المستشفى صباح الأمس. حدّثتني عن مأساتها. قالت إنها ارتاحت لي، لا أدري لماذا؟! . قالت هذا في منتصف حديثنا، كانت قد سألتني عن المكان الذي أسكن فيه، قالت وأنا أيضا أسكن في نفس المكان. ثم سألتُ داخلي، كيف ترتاح امرأة لأخرى في أول مصادفة تجمعهما؟ قلت سبحان الله، يحدث هذا مع أناس كثيرين، يحدث أن نحب بشرا منذ الوهلة الأولى، كما أن العكس جائز ويحدث لأناس عديدين، ألا يحدث أن لا نحب بشرا لم نرهم إلا في اللحظة التي لم نحبهم فيها؟ يحدث هذا، وتحدث أشياء كثيرة. هذا لا يهم الآن، المهم أن ندخل البيت بأي طريقة كانت.
لا، أنا لست معكِ في هذا الرأي، ماذا ستقول عنا ونحن ندخل بيتها دون إذن؟ ماذا سيقول الناس إذا ما فضحتنا ؟  أو إذا ما اشتكت ماذا ستقول الشرطة أو القاضي؟ هل سنقول لهم إننا رحمنا الطفل الذي يبكي كثيرا، إن شعرت أنكِ ناوية اقتحام بيتها لمعرفة السبب الذي يبكي من أجله طفل لا أعرفه؛ فإني أستأذنك في الرجوع إلى بيتي. أنا لست مستعدة لفعل كهذا؟.    
عندما نخرج سأخبرك عن مأساتها. المهم الآن أن ندخل. ها هو باب الحديقة كأنه مفتوح، سندخل منه.     

شرعت المرأتان تسيران في حوش البيت، مرَّتا قرب أشجار مزهرة في حديقة المنزل، وعلى عصافير جميلة، لون ريشها أصفر وأخضر، وأمام الباب الرئيس، المفضي إلى قلب البيت، ثمة ببغاء في قفص، عندما قالت ليلى: مريم، ردّ الببغاء "مييام" افتحي الباب.  فتحي باب.  مريم. مييام. 

كل كلمة نطقتها ليلى أمام الباب أعادها الببغاء لها.

دارت ليلى حول البيت، رأت مدخلا يؤدي عبر المطبخ إلى الصالة، فدخلت. كان الهدوء يقبع في زوايا البيت. صوت جهاز التبريد يأخذ ليلى من يدها إلى صراخ الطفل الذي خفت، بل تلاشى منذ اللحظة التي نوت فيها ليلى دخول بيت المرأة التي عرفتها في المستشفى. 

لم تسمع ليلى صوت طفل. 

صاحبتها تنتظر خارج البيت، عيناها تطلان على أشجار الحديقة، قلبها عالق في قفص طيور الزينة. إنها تنتظر، الخوف يسري في دمها، ويسبح داخل نبضات قلبها. 
فتحت ليلى باب الغرفة، كانت المرأة التي في الغرفة نائمة، بملابس نوم خفيفة، ونهدها مُخْرَج من حمالة الصدر. الطفل مقابل وجه أمه، تحاول شفتاه العثور على الحلمة التي اختبأت في لحظات الألم الأخيرة. تبسَّم الطفل عندما أخذته ليلى. لم تفدها أدوية الكيماوي في أيامها الأخيرة. تأكّدت ليلى أن أم الطفل ماتت؛ بمرض توغل ينهش نهدها. 

من مجموعة "لا أمان في الماء" الصادرة حديثاً عن دار "الانتشار العربي" في بيروت. وقد خص القاص حمود الشكيلي "مراحين" بهذه القصة.