30 أغسطس 2010

تضامنوا مع الطفلة إيدا

سالم آل تويّه

     ما معنى أن تتدخل الدولة في أسماء مواطنيها؟.
    ما الخطورة التي تمثلها تسمية المواطنين أبناءهم بالأسماء التي يريدونها؟.
    هل لهذا الانتهاك الخطير لحرية التعبير علاقة بأمن الدولة؟.
    ما السِّرُّ إذن في دسِّ الدولة أنفها في كل صغيرة وكبيرة تخص المواطن؟.
    إيدا عبدالله خميس البلوشي طفلة تبلغ من العمر ستة أشهر، لكنها بلا اسم معترف به حتى اللحظة، بلا شهادة ميلاد، والسبب شرطة عُمان السلطانية التي منعت والديها من تسميتها باسم إيدا!. عندما تكبر إيدا ستعرف أن شرطة عُمان السلطانية رفضت اسمها واستكبرت وطغت ورفضت الطلبين الرسميين اللذين تقدم بهما والدها لتسميتها بهذا الاسم. عندما تكبر إيدا سيكون إخبارها برفض اسمها بمثابة طرفة حدثت في عهد المماليك في دولة تُسمَّى سلطنة عُمان؛ هل هذا ما سيحدث حقًّا أم أن عهد المماليك سيستمرّ؟!. لنتجاوز هذا ونكمل: ستعرف إيدا أن مجيئها كان منتظرًا منذ زمن طويل، فهي مَنْ سيلغي عنجهية الدولة وغطرستها وشرَّها في التدخل في خصوصيات الناس إلى هذه الدرجة المريبة التي لا تفسير لها إلا الديكتاتورية والرغبة الشيطانية المريضة في ممارسة السلطة وانتهاك حقوق الناس.
    الحق المنتهك لا يُوهَب، ينتزع بالمطالبة والإصرار والوعي ورفض كل أشكال انتهاكه. عندما يصل طغيان الدولة إلى هذه الدرجة فيجب أن يقال لها بوضوح: عليك أن تكفي عن التدخل في حياتنا. لقد خربت البلاد وأخلاق العباد، زرعت الرعب في قلوب المظلومين عن المطالبة بحقوقهم، وبعد كل جرائمك المتوالية دائمًا تظهرين بمظهر المهتم بالإنسان وتتشدقين بأن الإنسان طليعة التنمية!. ألا يكفي جميع مظاهر احتقار المواطن في الرواتب والمستشفيات والخدمات؟.
    في سلطنة عُمان قوانين لا تطبق إلا على المستضعفين، وفيها قوانين لا توجد في أي بقعة أخرى في العالم. الأهم دائمًا هو تكبيل حرية المواطنين سواء بقانون أو بغير قوانين، ولأن المواطنين يرضخون لكل شيء أصبحت الحكومة لا تتورع عن التمادي حتى بلغت هذا المبلغ الخطير: التدخل في الأسماء. والعجيب الغريب كالعادة أن هذه القوانين بكل ما يعتورها تُنتهَك من مؤسَّسات الدولة -أوَّلاً وثانيًا وبلا توقف- التي يفترض أنها حامية القوانين أصلاً!، فشرطة عُمان السلطانية بمنعها تسمية الطفلة إيدا ضربت بـ"النظام الأساسي للدولة" عرض اللامبالاة، فالمادة 29 من "النظام الأساسي" تحفة التحف هذا الذي يُعاني هو الآخر من عقدة الاسم تنص على أنَّ: "حرية الرأي والتعبير عنه بالقول والكتابة وسائر وسائل التعبير مكفولة في حدود القانون"!.
فقط لو يكون هناك سبب منطقي واحد لإجبار المواطنين على تسمية أبنائهم بالأسماء التي يريدونها!. وحتى إن ساق أي مسؤول غبي فاشل ألف سبب فإن منطقه سيخصه وحده فقط، لأن تبريره سيخالف مرة ثانية ما يُسمَّى "النظام الأساسي للدولة" الذي تنص المادة (80) منه على أنه "لا يجوز لأية جهة في الدولة إصدار أنظمة أو لوائح أو قرارات أو تعليمات تخالف أحكام القوانين والمراسيم النافذة أو المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي هي جزء من قانون البلاد". فهذا يعني أن انتهاك حق الطفلة إيدا في تسميها بهذا الاسم يتعارض تعارضًا مطلقًا والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تنص "المادة 19" منه على أن "لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية". ويُصنَّف الحق في الاسم باعتباره حرية تعبير، أي أنه يدخل في إطار المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي –حسب النظام الأساسي للدولة- "يعتبر جزءًا من قانون البلاد"!. والسؤال هنا لماذا استمرت شرطة عُمان السلطانية كل هذه السنوات في انتهاك النظام الأساسي للدولة والمعاهدات والاتفاقيات الدولية؟، وباعتبارها جهة منتهِكة لماذا تُمكَّن من استمرار الانتهاك؟، وماذا بشأن من انتهكت حقوقهم، ألن ينصفوا؟ ألن يعوضوا؟ ألن يُعاقَب المنتهِكون؟!.
      وبينما ينام منتهك الحق قريرَ العين يُعاني المنتهَك حقُّه من الانتهاك ومما يترتب عليه، وما يترتب عليه قائمة تطول كلما طالت فترة انتهاك الحق، فالطفلة إيدا بلا اسم رسمي منذ ستة أشهر، وترتب على هذا أنها ما زالت بلا شهادة ميلاد، وترتب على هذا إنذار والديها بعدم تطعيمها في المستشفى بسبب عدم احتواء قاعدة بيانات الأسماء على اسمها، ويترتب على عدم تسميتها أيضًا عدم إمكانية استخراج جواز سفر لها، وهذا بدوره يعني عدم إمكانية سفر والديها أو والدتها.
      تراهن الدولة على إجهاد مواطنيها وتتحدَّاهم لتجبرهم على تغيير الأسماء التي يحبون تسمية أبنائهم بها، وفي حالة إيدا يظهر الوجه القبيح للدولة في أنها تقول بصمت: حسن إذن إننا نجبر والديك على تغيير اسمك، فزمام الأمر بيدنا، لا يمكنك السفر، وسنحرمك كل شيء ما دام اسمك موجودًا!.
      والحل بالنسبة إلى قضية إيدا وقضية العشرات أو المئات المشابهة لها هو الرفض القاطع لمبدأ الدولة. الحل أن يتكاتف المواطنون ويعلنون رفضهم لهذه الانتهاكات الخطيرة وإلا فإن المهزلة ستستمر كما هي مستمرة حتى هذه اللحظة. لا يطالب أصحاب الحقوق إلا بإحقاق حقوقهم، لا يدعون إلى فوضى ولا إلى عنف ولا إلى ما يؤدي إلى تخريب، ويطالبون بحقوقهم انطلاقًا من كونها حقوقهم التي لا يمكن لأحد مساومتهم عليها، ويسعون إلى نيلها بكل الوسائل السلمية والمشروعة.
      ومن العار الآن إيجاد أعذار للدولة وإلقاء اللوم على والدي الطفلة والتذرع بأن الأسماء كثيرة وعليهم تغيير اسم ابنتهم إلى أي اسم آخر!؛ أليس هذا هو النكوص والتقهقر والتصفيق للديكتاتورية؟. ليس للدولة أي عذر فانتهاكها واضح وضوح الشمس، وما يستدعيه الأمر هو توجيه إدانة مباشرة إليها ومطالبتها بتطبيق مواد النظام الأساسي للدولة والمعاهدات والاتفاقيات الدولية.
      لن تجد تلاعبًا باللغة والحقائق كما تجده في عُمان. مرض غريب يجعل المسؤولين المتغطرسين مهمومين مهووسين بتغيير الأسماء وتمييعها، وحتى المصطلحات المتعارف عليها عالميًّا غُيِّرت في عُمان!، هل هذا هو إنجاز الدولة العُمانية؟. أن تضع قائمة أسماء للمواطنين تجبرهم على تسمية أبنائهم بما تحتويه فقط وتمنعهم عن التسمي بأي اسم لا تحتويه؟. لماذا؟. هذا الإجبار احتقار للمواطن يضعه في منزلة أدنى تلغي حقه في المواطنة، بل تلغي حقه الإنساني ووعيه وتقوم مقام الوَصِيِّ عليه، فكأن هذا المواطن بلغ من الجهل درجة لا يعرف معها حتى اختيار اسم لولده.
       إنها عقدة.
      دولة تُعاني من عقدة الأسماء: أسماء الأماكن، وأسماء البحار، وأسماء الأجهزة وأسماء القوانين، وأسماء البشر. على أسماء البشر –مثل الأماكن والبحار والأجهزة والآلات والمصطلحات- أن تخضع للدولة. الدولة لا تستطيع الشعور بأنها دولة إن لم تجبر الناس على التسمي بأسماء تختارها هي. الدولة عاطلة عن العمل لذلك تجد وقتًا طويلاً جدًّا لتدس أنفها في كل شيء، حتى في أسماء الناس!، تجد وقتًا طويلاً لإلهاء مواطنيها بمشكلات تجاوزها العالم قبل عشرات ومئات السنين.
      تُعتَبر تسمية المواليد حقًّا طبيعيًّا للوالدين، فهما الوحيدان اللذان يختاران الاسم الذي يشاءان لمولودهما. يمثل الاسم أمرًا بالغ الحميمية والخصوصية في حياة أي زوجين. وأي زوجين حتى قبل زواجهما يتداولان في الأسماء التي يريدان أن يُسمِّيا أطفالهما المقبلين بها، فلماذا تسن الدولة تشريعات مجحفة ظالمة تنتهك هذه الخصوصية وتحولها موضوعَ طلبٍ ولجان وواسطة ورواح ومجيء، وتغتصب الفرح من قلوب الآباء والأمهات باصطناع هذه القضية السخيفة سخف من وضعها وطبقها وسمح لنفسه بدم ساديٍّ بارد مقرف بمصادرة حرية الآخرين؟.
     سلطنة عُمان دولة في منتهى الغرابة. إن سن شروط قمعية كهذه تجعل عُمان أضحوكة أمام بلدان العالم. لن يؤيد أيُّ أحد فكرةً ليس لا معنى لها فقط، بل إنها تقوم على انتهاك حرية التعبير وحق الهوية، تنتهك حقًّا أصيلاً من حقوق الإنسان. من حق أي مولود يولد في أي مكان في العالم أن يُسمَّى منذ اليوم الأول لولادته بالاسم الذي يختاره له والداه. وما تمارسه شرطة عُمان السلطانية الآن هو انتهاك لـ"إعلان حقوق الطفل" الذي اعتمدته الأمم المتحدة عام 1959م، والذي نص "المبدأ الثالث" منه على أن "للطفل منذ مولده حق في أن يكون له اسم وجنسية". ناهيك عن أن ما قامت به شرطة عُمان السلطانية بحرمانها الطفلة إيدا التسمي بهذا الاسم يعتبر خرقًا واضحًا لـ"اتفاقية حقوق الطفل" التي بدأ نفاذها في سبتمبر 1990م، وانضمت إليها سلطنة عُمان في 1996م. وتنص مواد "اتفاقية حقوق الطفل" على احترام حقوق الطفل دون تمييز مهما كان نوعه، ومن هذه المواد: "المادة 7:
1-    يسجل الطفل بعد ولادته فورًا ويكون له الحق منذ ولادته في اسم والحق في اكتساب جنسية، ويكون له قدر الإمكان الحق في معرفة والديه وتلقي رعايتهما.
2-    تكفل الدول الأطراف إعمال هذه الحقوق وفقًا لقانونها الوطني والتزاماتها بموجب الصكوك الدولية المتصلة بهذا الميدان، ولاسيما حيثما يعتبر الطفل عديم الجنسية في حال عدم القيام بذلك.
المادة 8:
1-    تتعهد الدول الأطراف باحترام حق الطفل في الحفاظ على هويته بما في ذلك جنسيته، واسمه، وصلاته العائلية، على النحو الذي يقره القانون، وذلك دون تدخل غير شرعي.
2-    إذا حرم أي طفل بطريقة غير شرعية من بعض أو كل عناصر هويته تقدم الدول الأطراف المساعدة والحماية المناسبتين من أجل الإسراع بإعادة إثبات هويته".

       باسم الحق والواجب والضمير تضامنوا مع الطفلة إيدا.

29 أغسطس 2010

استئناس وتدجين!.. إلى سيف الرَّحبي، إلى زاهر الغافري

استئناسُ الذئب

شعر: محمَّد السِّناني


إلى سيف الرحبي


ما زلتَ تعوي
وما زال صوتُكَ يؤنسُ روحَ الصعاليك فينا.
ولكنّكَ الآنَ تشبهُ ذئبَ الفرزدق،
حينَ أنِستَ إلى اللحم والنار والسيف،
حين سقطتَ عن الليل في حفرةٍ،
وارتضيتَ الفُتات.



أما كان من حقِّ كلِّ الذئابِ
الركونُ إلى زوجةٍ أو وظيفة؟


ستنأى الجبالُ التي خبأتْ صوتَكَ المتلاشي،
ستنأى المقابرُ عن خطواتِكَ عند الربيع،
ستنأى البحارُ القديمةُ عنك،
ستنأى الصحارى البعيداتُ أكثر،
ستنأى القصائد،
ستنأى البلادُ التي تتوزَّعُ في لعبة المونوبولي.



ويدنو إلى ليلكَ السَّحَرَةْ
ينادونك، الآنَ باسمكَ يا أيها الذئبُ:
(تعالَ إلى موتنا الحيّ
تعالَ إلى السُّخرةِ الأبدية)



ماذا ستفعل يا صاحبي؟
ستَنْسُجُ من دمكَ، الآنَ، قمصانُ موتِ الكلام!


26/1/2010م
صور



تدجين النسر

إلى زاهر الغافري


كنّا قرأنا جناحيكَ في الريح إنجيلَ منفى،
كتاباً من الضوء يفتحُ آفاقَنا للكلام،
كلامِ الشهيد الأخير عن الجسد المشتهى،
عن الكأس آنَ تجفُّ الثمالةُ والحُلمُ فيها.


لماذا تقرِّرُ، قبلَ حلولِ النهايةِ، موتَ القمم؟
لماذا تقرر أنْ تسمعَ الآنَ صوتَ العدم؟



ها هي الهاوية
تناديكَ، فاسمعْ نداءَ القصيدةِ فيك:
يحيي ارتطامُكَ بالأرض
روحَ التمردِ فيها،
روحَ الكرامةِ،
روحَ العلوِّ،
وروحَ الألم.



ليس لقَنِّ الدجاجِ، هنا، رايةٌ كي ترفرفَ فيها،
وليس لمنفاكَ من عودةٍ كي تعود،
لا أرزَّ يرشُّ عليك،
ولا منبرٌ كي تنافسَ ديكَ الفصاحةِ فيه،
ولا موطئٌ لمخالبكَ الحاذقاتِ بصيد الفرائس.



كيف ستمشي على العشب
من بعد خمسين عاماً على الطيران؟
كيف يُدجِّنُكَ الوقتُ يا صاحبي؟
كيف تصادقُكَ الببغاوات؟
كيف تُضيِّعُكَ الأروقة؟


عُدْ عالياً، واتحدْ بالألم


26/1/1010م
صور

26 أغسطس 2010

من سرير البنكرياس



سالم آل تويّه


    إنها الثالثة وخمس وثلاثون دقيقة صباحًا في الجناح الأحمر رقم 3 ("الأمراض الباطنية رجال") بمستشفى جامعة السلطان قابوس.
    العجوز النائم على السَّرير المقابل يئن ثانية. من يئن هنا ومن لا يئنّ؟. في اللَّيل يتزاحم الأنين من كل ناحية.
الستائر القصيرة المرفوعة تحجب الأسرَّة الأخرى، وتبين فقط خطوات الممرضين وعرباتهم وأرجل كرسيٍّ خارج نطاق سرير العجوز.
إبرة المحلول الوريديِّ على باطن ساعدي الأيمن، لكنْ يمكنني أنْ أُكيِّف رقدتي قليلاً وأحتال بطريقة ما على الألم وأكتب. أصوات الأجهزة صامتة الآن. الرغبة في الكتابة تأتي لأسباب عديدة بعضُها مفهوم وبعضُها يتلبَّسُه الهذيانُ بين نومةٍ وأخرى.
الأنين والهذيان والتأكيد والتخمين أسباب تلقائية تُبعِد المرضى عن دنيوية ما يحدث في الخارج. هنا قد لا تكون المسافة بينك وبين القبر بعيدةً إلا بمقدار الزمن الذي يستغرقه التثاؤب أو العطسة. حتَّى إنْ كنت صحيحًا مُعافَى قد يُحسَم مصيرُك بين أيدٍ لستَ بالنسبة إليها إلا وسيلةً للتجريب.
في الصَّباح، عندما جئتُ متعبًا متألِّمًا من بطني وأضلعي غير قادر على الوقوف، لم أجد موقفًا لسيَّارتي. كنت أقود السيارة كمن ينام على أحد جانبيه، مستشعرًا وهن الحُمَّى الخفيفة، غير قادر على الاعتدال. من موقف إلى آخر دون جدوى؛ كلها مملوءة عن آخرها. "تُوجَد مواقف إضافية أمام كلية التمريض"، وبالفعل كانت هناك سيارات قليلة واقفة فقط ومواقف شاغرة كثيرة، لكن عندما ذهبت اعترضني حاجز المدخل فعدت إلى مواقف المستشفى أبحث من جديد؛ لعلَّ سيَّارة ما خرجت قبل قليل أو ستفرغ موقفها توًّا. لم أصدق...
الجهاز الكهربائيُّ الملحق بالمحلول الوريدي يُصدِر الآن أصواتًا لم يُصدِرها طيلة الساعات الماضية منذ تنويمي في الجناح الساعة الرابعة مساء أمس تقريبًا!. هل هذا من جرَّاء الكتابة؟. هل عليَّ أن أتوقَّف الآن؟.
لأتوقَّف وأحاول النَّوم في هذا الفجر الملفوف بالقطن وروائح الأدوية إن استطعت.
04:04 اث 24/05/2010م

نوم أشبه بنوم العجائز؛ نوم متقطع، في أي وقت، وسط مداولات الأطباء وطلبة كلية الطب واحتجاجات الأوجاع، وفي الخلوات المحمية بالستائر.
لم أصدق خلو مساحة بين سيارتين تقفان عند منعطف. هيّأت سيارتي لأقف هناك غير منتبه إلى سيارة أخرى أمامي تُحاوِل العودة إلى الخلف للوقوف في المكان نفسه، غير منتبه إلا بعد فوات الأوان إلى انطفاء أنوار العودة إلى الخلف البيضاء وانصراف السيارة. الألم أعمى لا يرى إلا ما يستعجل قطع دابره.
حسب تعليمات طبيب "مستشفى بدر السماء" الذي كتب خطاب التحويل إلى مستشفى الجامعة توجهت فورًا إلى الطوارئ. كان الألم قويًّا يجعلني أواجه صعوبة في نصب قامتي. ناولت خطاب التحويل موظفًا خلف نافذة خلفها جهاز حاسوب. سألني: "هل عالجتَ هنا من قبل؟". "لا" –أجبته، ثم استدركت- "زمان، عندما كنت طالبًا. تخرجت عام 1995". ناولته بطاقتي الشخصية.
تغيرت الجامعة كثيرًا.
كأيِّ مشروعٍ عُماني آخر مخططه لا يتجاوز الرؤية أبعد من أنفِ مسؤولٍ لصٍّ في أغلب الأحيان أو غبيٍّ في أفضلها لم تصمد الجامعة كثيرًا أمام التحولات.
كان عددُ السُّكَّان ينتظر سنواتٍ قليلةً فقط ليزيد عددَ الطلبة فجأة بشكل لم تعهده البلاد، وهو ما أدى إلى التخطيط والبناء مجددًا لزيادة المرافق والكليات والشوارع.
في المنتصف الأول لعقد التسعينيات الماضي كنا نذرع الجامعة مشيًا على الأقدام من سكن الطلبة دائرين حول الكليات والمسجد ومتجر الفير وسكن الطالبات والمستشفى، وبين مساكن هيئة التدريس والعمال والممرضات. الآن بعد الخشية من وعي الطلبة الذكور بالتحديد، وبعد عدة مظاهرات ونقمات عالية الصوت، وكي لا يتكاثر التجمع والمظاهرات وتنسحق تمامًا أكاذيب الدولة تحت أقدام أحلام التغيير، أُخرِج جميع الطلبة الذكور من السكن الداخلي ليُقصَر على الطالبات فقط. الآن تشابكت الشوارع، زاد عدد المباني، لكن ألمي فرش الخريطة القديمة في رأسه مستدلًّا بما مضى وحده، وكأن التلفيق الحديث ليس بتلك الكثرة، وهو كذلك في نهاية المطاف في بلد يُحرَم أغلب مواطنيه مواصلةَ التعليم الجامعي حتى في الخارج، ويُبارَك نهب اللصوص أصحاب رؤوس الأموال باسم الجامعات الخاصة لتمتص جيوب الفقراء وأعصابهم إلى يوم القيامة.
-    هل كان رقم بيتكم في الشرقية يبدأ هكذا ...481؟.
-    193 نعم يا أخي.
-    ما زال رقمك موجودًا.
هل صحيح أنني أصبحت على مشارف الأربعين؟.
سنتان فقط تفصلاني عن صعود السُّلَّم وكسرِه للأبد –ككل السنين التي عبرت في قطار الصحراء الأجرد.
لولا القوة التي يمنحنا إيَّاها التأمُّل والغموضُ اللَّامتناهي، لولا السنون التي تنعجن خبرةً في الروح والعظم والدم والجلد، لما واصلنا صعود السُّلَّم ولما كسرنا أسفله على الدوام. ديدنُ الحياة الذهابُ دومًا وليس العودة.
أحيانًا يفقد الحنين إلى الماضي كل معنًى وصِفة. طالما عشتُ حياتي بصدق مُرٍّ، لذلك لا حنين ينتابني إلى أيِّ ماضٍ ما دام طائشًا جلَّابًا للغمّ. ومهما شطَّت المسافة لا يكون الغفران ها هنا إلا سذاجةً ومازوشية مع سبق الإصرار والتَّرصُّد. النسيان يُوقِف ميوعة العواطف أو تدفقها بجميع الصور، حتى لا يعود ثمة مفتاحٌ ولا طريق ولا دليل ولا إشارة.
أيها المُضارِعُ أنا في قلبك، أنتَ في قلبي.
بعد أن كتب لي الموظف رقمي القديم، تحت اسمي، على ورقة طلب إليَّ دخول الغرفة التي خلفي مباشرة. من الشباك رأيت ممرضًا ملتحيًا يقرأ القرآن حالما دخلت وضع المصحف على الطاولة دون أن يضع شيئًا على الصفحة التي توقف عندها. خمنت أنه يحفظ رقم الآية والسورة أو الصفحة. سألني -مرَّةً أخرى- عن اسمي وعمري!. أجرى فحصًا للأكسجين والضغط والحرارة سجل نتائجه على ورقة سلَّمني إيَّاها لأسلمها إلى حارس قسم الطوارئ الذي طلب مني الانتظار على مقاعد انتظار الرجال.
كان هناك خمسة شرطة يتحلقون حول شاب بدا أنه سجين.
لم يستغرق انتظاري دقيقة!. ناداني حارس الطوارئ. كان ألمي في الصدر والبطن قد بلغ مداه، ولانسداد أيِّ منفذ لتخفيف كربته ضرب الظهر وجانبي الخصر.
 16:09 اث 24/05/2010م

أخبرني الحارس بأن أسلك يمينًا حتى نهاية القاعة الكبيرة. ضللت الطريق قليلاً. رأيت الممرض المطوَّع الذي سجَّل بياناتي واقفًا يُحادث شخصًا. حيَّاني. سألت. ردت ممرضة مشيرة إلى الناحية التي عليَّ الانعطاف من خلالها. استقبلني هناك ممرض فيلپيني. بدأت فحوص الطوارئ وإبرة المحلول الوريدي الأول وعينات دم عديدة اندحقتْ إحداها وجعلت الممرض يطلق صرخة قبل أن يسيطر على الوضع ويتحكم في خروج الدم من وريدي ويقوم بعملية التنظيف.
ثم جاءت طبيبة سألتني عشرة آلاف سؤال. ثم أُجرِيتْ لي أشعة سينية، واقفًا ونائمًا، للظهر والبطن. يظهر الممرض ويختفي ويظهر لإجراء فحص جديد: الحرارة، الضغط، الأكسجين، تخطيط القلب. بين وقت وآخر أنام وأصحو مستسلمًا ليديه الخشنتين أحيانًا ومنذ البداية حين غرز إبرة بذراعي اليمنى ركَّب فوقها أنبوب المحلول الوريدي.
فهمت ممن مر عليَّ وفحص بطني مرارًا وتكرارًا أنهم لن يستطيعوا تشخيص مرضي إلا بعد إجراء أشعة مقطعية.
عند الرابعة عصرًا قرروا نقلي إلى جناح الأمراض الباطنية للتنويم أيامًا لم يُحدِّدوا عددها. قالوا إن أسرَّة الجناح مملوءة عن آخرها بالمرضى. نقلوني إلى "غرفة الملاحظة" ذات الأسرة العديدة لكنني كنت المريض الوحيد فيها ساعتها. جلست على كرسي متحرك دفعته ممرضة أعادت وصل المحلول الوريدي بذراعي بعد أن استلقيت على سرير غرفة الملاحظة. طيلة الأوقات التي كنت فيها وحدي قمت بكتابة بعض الرسائل الهاتفية بيدي اليسري والرد على العاجل منها وبعض المكالمات. هنا –في غرفة الملاحظة- أصبح الحال مواتيًا أكثر لإجراء المكالمات. كان الألم يعصر أحشائي لكن قوَّته تتقهقر. جاءت ممرضة هندية بكرسي متحرك. مرة أخرى أبطلت سريان المحلول وفصلت الأنبوب عن الإبرة المغروزة بذراعي. دفعت الكرسي عابرة بي مسافة طويلة من الطابق الأرضي حيث الطوارئ عبر أبواب وممرات عديدة، ثم بالمصعد حتى الطابق الثالث حيث الجناح الأحمر رقم 3.
لأول مرة في حياتي يحدث لي هذا: أُقاد كل هذه المسافة على كرسي متحرك، ولا أمشي على قدميّ!. أخافني هذا الأمر. نعم إنني مريض الآن وهذا ما أخافني. وما أخافني بالتحديد أسئلة الممرضة وهي تدفع الكرسي: هل أنت متزوج؟. لا، لماذا؟. من الأفضل أن يكون معك أحد يرعاك. هل حالتي خطرة؟. تردَّدت الممرضة في إجابتها، ثم إن إنجليزيتي لم تسعفني لأفهم الحِكَم التي تفوَّهت بها، وكل ما ترسَّخ في رأسي خوفٌ عاتٍ من أنني مصابٌ بمرض عضال يحفر لي قبري وأنا لمَّا أبلغ الأربعين بعد. أخافتني الممرضة حين قالت إن الأشعة المقطعية ستبين إن كنت بحاجة إلى عملية... عملية؟!. ياللهول، واستيقظ في رأسي ما قاله لي صديقٌ عن مستشفى الجامعة مؤخرًا: مستشفى الجامعة ألعن من المستشفى السلطاني بمئة مرة فيما يتعلق بـ"الجرائم" "الطبية"!. ساردًا لي كيف كادوا يقتلون زوجته بعملية جراحية أعاد إجراءها لها ثانية على حسابه في أحد المستشفيات الخاصة.
فكرت أن التاريخ يعيد نفسه ألف مرة في بلد متخلف كبلدي يمتلك من المظاهر ما يجعله يبز اليابان والقارة العجوز وأمريكا وأستراليا وجوهرُه سفَّاحٌ أعمى. كثيرون في وزارة الصحة يؤكدون أن نوعية الأدوية المصروفة للناس "العاديين" تختلف عن تلك المصروفة للناس "غير العاديين"!. يا إلهي، حتى هذا أيضًا!.
فكَّرت أيضًا أنني ربما أواجه مصير أيّوب نفسِه/الشخصية المحورية في روايتي التي لم تر النور بعد. وعندما توقفت بي الممرضة عند سريري الجديد في جناح الأمراض الباطنية، وأسدلت الستارة حولي، امتلأت نفسي بالسكينة والسلام: السنوات التي عشتها تكفيني. سأرحل عن هذه الحياة دون ندم... وإذ بي لا أستطيع إيقاف انهمار الدموع، أمسحها بيدي اليسرى فتزداد انحدارًا.
04:10 ث 25/05/2010م

عندما جاء ممرض فيلپيني ليأخذني بالكرسي المتحرك إلى غرفة الأشعة المقطعية كانت الدموع لم تجف تمامًا بعد؛ بظاهر يُسراي الخالية من محقن الإبرة مسحتها في الممر دون أن أفلح في إخفائها تمامًا. كان نفق النهاية يبتلعني، ولم أكن أنتظر إلا أن أستلقي آخر مرة وتُظلِم الدنيا وتُفارِق روحي جسدي المؤقَّت. لكن أيضًا كان قد مر وقت أصبحت فيه نفسيًّا أتأرجح بين القناعة والغضب. بعثت عدة رسائل إلى أهلي حدَّدت فيها المقبرة التي أريدهم أن يدفنوني فيها، لأنني خشيت ألا يُحالفني الحظ، واعتبرت كل إجراءات فحصي شروعًا في عملية قتل اشتهر بها المستشفى إزاء أغلب مرضاه، انطلاقًا من مَقْتَلِ الأطباء في عُمان: الخطأ في التشخيص، وبالتالي في كل شيء، وتحويل البسيط عقدةً لا يحل لغزها إلا الموت.
كان عليَّ أن أبعث برسالة عاجلة إلى امرأة لن أقول لها الحقيقة كاملةً (الحقيقة انطلاقًا ممَّا قالته الممرضة الهندية وممَّا أثاره قولها من تخوُّفات وأوهام)، إلا أن مجيء الممرض الفيلپيني قطع عليَّ كتابة تلك الرسالة الهاتفية.
11:42 ث 25/05/2010م

الآنَ أطيافٌ وروائحُ وأصواتُ بكراتِ ستائرَ تُزاح، وتلك اللوحة المعلقة فوق سريري، اللوحة التي لم ألحظها إلا بعد ساعاتٍ، أو بعد يوم، قبل اختفائها في يد إحدى الممرضات: "لا شيء عن طريق الفم". ثلاثة أشهر مرَّت وعلامة إحدى الإبر لا تزال دائرةً سوداء على راحة ساعدي الأيمن. بين حين وآخر لا يزال وخز إبرة في العضل يؤلمني بقوة خاطفة تعبر في أجزاء من الثانية وكأنها تُحقَن توًّا خطأً في المكان الخطأ، لكنني لم أمت!؛ شفيت من التهاب البنكرياس. أتذكر أن اثنين من الأطباء قالا: الحمد لله أن البنكرياس لم ينفجر. !. هل كانا يمزحان؟!، ومع ذلك، وبرغم ما قاله صديقي من أن المصادفة وحدها السبب في خروجي حيًّا، مع ذلك أشكرهما من أعماق قلبي.
لينبتَّ بعضُ الأفكار والأحداث عن تتمَّة السِّياق. ما ألذ "لقمة القاضي" بالعسل في إفطار هذا اليوم.
سأذهب لأمشي قرب البحر.
19:15 س 21/08/2010م -الموالح 

18 أغسطس 2010

عُمان من سيِّئٍ إلى أسوأ


تتمجَّد الدَّولة الفاسدة وتغور روح الوطن


سالم آل تويّه


    عندما تتمكن الديكتاتورية من الظهور بوجه الديمقراطية، وعندما يتستر الظلم في ثوب العدالة، ويكثر عدد الجهلة والمنافقين والمهرجين واللاعبين على حبال السيرك القذر، يحدث كل شيء ويختلط كل شيء بكل شيء، لكن لا يحدث أبدًا أن يُكشَف قادةُ ألاعيبِ الزَّمانِ المُرِّ المعصورِ خمرةً مُسكِرةً لشعب بأكمله تُمارَس عليه صنوف الأضاليل والأكاذيب والنوادر.
    إذا ضرط الوزير فكل الوزارة تضرط!، وعلى هذا المبدأ الأخلاقي الكَلِيْلِي دِمْنِي في أحسن الأحوال قِسْ!. بلاد تغرق في الفساد، حاميها حراميها، قاضيها ظالمها، أمنُها أكبر خطر عليها، فإلى أين المفر؟، إلى من الشكوى؟، وما الجدوى؟.
    نجحت السلطة العُمانية طيلة أربعين عامًا في غسل أدمغة مواطنيها فيما يتعلق بكل شيء، بدءًا من السياسة وانتهاءً بالقدم التي تسبق الأخرى عند دخول المراحيض. اتخذت السلطة السياسية المؤسسة الدينية عبدًا وفيًّا لتنفيذ جريمتها في حق شعب بأكمله، وها هي النتائج الآن: خواء سيحتاج إلى أربعين سنة أخرى كي يُمحى من عقول ثلاثة أجيال تُسبِّح وتُهلِّل وتُكبِّر باسم السلطة وحمدها. استُغِلَّ الناس واستُعبدوا وخُتِمَ على وعيهم حتى أصبحوا، في المهرجانات ذات المسميات العديدة، يرقصون ويغنون ويُعرَضون على السُّيَّاح بضاعةً رخيصةً تدعو للرثاء.
    أما ما يظهر للملأ من قوم يعرب وقحطان وعدنان وطحقان ودعنان ومحمد وعيسى وموسى، ما يظهر لهؤلاء هو السياسة الحكيمة والتنمية والرَّوِيَّة والعدالة والقفزات النوعية من الجرجرة إلى القار ومن الجحال إلى الثلاجات ومن القناديل إلى اللّيتات ومن الحمير إلى السيارات، وهنا بالذات مكمن الخطر، في هذه الأسطوانة الممجوجة التي تحلو لها المقارنة حتى عندما لا تكون هناك مقارنة ولا يكون هناك من يُقارنِون أو يُقارَنون ولا من يفهمون علم المقارنة هذا الذي على كل مولود يُولَد في سلطنة عُمان أن يفهمه ويرضعه من ثدي أمه فورًا وإن كان سيُفطم بعد سنتين عن حليب أمه فعليه أن يرضع هذا العلم حتى مماته.
    عصابة اللصوص تُوجِّه الإعلام والأعمال والصحافة والمساجد والخطط والوعي. أقصى حلم يحلمه العُماني أن يُزَادَ راتبُه. هذا العُماني المسكين المغلوب على أمره ينتظر موافقة عصابة اللصوص الجهلة على زيادة راتبه!. هذا العُماني المنقوم عليه مدين لعصابة اللصوص التي هي صاحبة الأمر والنهي، صاحبة البنوك، عصابة تتاجر بالتجارة وتتاجر بالإنسان. إشاعات وإشاعات والعُماني ينتظر. منذ متى ينتظر؟. إلى متى ينتظر؟. هذه المرة كيف ستكون ضحكتهم الجديدة عليه؟. هو إنسان طيب –بشهادة السُّيَّاح وبشهادة ممارسات السلطة عليه- لذلك فقد اعتاد أن يُظلَم، اعتاد أن تضحك عليه عصابة اللصوص التي تنهب البلاد طولاً وعرضًا وعندما ينالها أحد بالنقد تُجيِّر عليه مخبريها وسدنتها ليتهموه في وطنيته وكأنهم هم الوطن!. ولكن بالفعل فما دامت المؤسسات هي هؤلاء اللصوص، وما دامت البنوك هي هؤلاء اللصوص، وما دام المواطن مدينًا لهؤلاء اللصوص، وما دام الماء والهواء هما هؤلاء اللصوص، وما دام هؤلاء اللصوص هؤلاء الجهلة هم كل شيء فهم كل شيء إذن، هم الوطن!. عاش الوطن!.
    فلماذا إذن الهجوم على حمد الراشدي وود شوين؟، لماذا الشكوى من ظلم القضاء وتبعيته وعدم استقلاله؟، لماذا تطرح أسئلة لا تنتهي بخصوص تكاليف مطار جديد لم يوضع أساسه بعد وتكلفته تجاوزت تكاليف مطار دبي؟، لماذا تقمع حرية المواطن ويمنع حتى من تسمية ابنه بالاسم الذي يريده؟، لماذا الجأر بالشكوى من وزارة صحة تخصصت في جلب الأمراض وقتل الناس وقريبًا سيُغيَّر مسماها ليصبح رسميًّا: "وزارة القتل"؟، لماذا الشكوى كل سنة من عدم استطاعة آلاف من خريجي الثانوية إكمال دراستهم الجامعية؟، لماذا يصل الأمر إلى حدِّ أن يتردد القول إن قضايا "اللصوص والمجرمين الكبار" التي يتستر عليها الادعاء العام يتجاوز عددها 2700 قضية؟... وقائمة لماذا لا تنتهي، والسؤال الآن: لماذا لماذا؟. والإجابة لماذا لماذا؟.
    زبانية السلطة ينتشرون في كل مكان، على الأرض وفي الفضاء. في الصحافة وسيارات الأجرة والمكاتب والإنترنت. موقع إلكتروني صمم خصيصًا لتنفيذ سياسات السلطة فيما يتعلق بالقضايا (الواجب) نشرها ومعرفتها والقضايا (الواجب) التستر عليها ومحاربتها. موقع به مدير عام ونائب مدير عام ووزير وغفير!، ويرعى أنشطة تكلف مبالغ طائلة ويتسلم مخبروه آلاف الريالات شهريًّا! كل ذلك لماذا؟ من أجل سواد عيون هذا الوطن اللُّعبة أم من أجل سواد عيون السلطة القاهرة وتحكُّمها في كل صغيرة وكبيرة، أم من أجل الكذب والدجل والتشويه، من أجل الانحطاط والتردي والبيع والشراء، من أجل إعدام الضمير والأخلاق والمبادئ واستخدام الأقنعة والمساحيق؟. وأعداد الذباب المتساقط تزيد يومًا بعد يوم، فلو حُورِب أولئك وفُضحوا وحُوسِبوا لما اتسع نفوذُهم، لكنهم وجدوا الأحضان مفتوحة والمبررات جاهزة، فكيف إذن لا يُشارَكُون في الدور العظيم الذي يقومون به خدمةً للثقافة والأدب والمجتمع؟!.
    الجميع يعرف أن كلًّا من الراشدي وود شوين أحدهما أسوأ من الآخر، وحتى قيام الساعة لن يصلح هذا ليكون وزيرًا للإعلام ولن يصلح ذاك ليكون وكيلاً للإعلام، كل منهما أشد جهلاً من الجهل نفسه، حتى في هذا الشهر "الفضيل"!، ولو ظهر أي منهما نصف ساعة أمام صحفيين وإعلاميين لم يعتادوا تلقين الصبيان لاستقال من تمثيل دور الفهم الوهمي الأجوف. هذان الموظفان مجرد آلتين تستخدمهما السلطة لإبادة الوعي وغسل الدماغ وقمع السؤال وتمجيد الجهل بكل الصور البرَّاقة في دولة الدعاية والإعلان؛ وعلى ذلك قِسْ، فمَنِ الوزيرُ الذي يمكن احترامُه في بلادنا؟، من الوزير الذي أصبح وزيرًا بسبب إمكانياته وصلاحيته وعدم مجيئه لاعتبارات أخرى يقوم عليها بنيان السلطة المتهالكة واعتباراتها التي ينخرها سوسها وصديدها ويجعلها تتآكل بفعل عوامل التعرية؟، من الوزير الذي أصبح وزيرًا ولَمْ يصبح مليونيرًا؟. القلة القليلة من الذين يمكن احترامهم، القلة القليلة من الوطنيين إما أنها مهمشة فاقدة الحيلة وإما أنها تتدرب على طرق النصب والاحتيال لتدخل نادي اللصوص بجدارة، وإما أنها تحدد الحلف الأقوى من أحلاف عصابة السلطة كي تبقى أكثر فترة ممكنة حتى تكتم أنفاس هذا الشعب كما يكتم أنفاسه أساتذتها أفراد العصابة العتيقون الشِّداد الغلاظ الذين سيفتتحون متحفًا يؤبنون فيه الشعب العُماني المنقرض الذي تعبر فوقه البغال والحمير واللصوص والأوغاد والسفلة والمجرمون، وهو، هذا الشعب -ما شاء الله عليه- يتحمل أكثر من البغال والحمير واللصوص والأوغاد والسفلة والمجرمين!، يتحمل الكثيرين منهم بشتى الصور والأشكال والألوان، وطالما أثبت هذا عبر العصور والدهور!.
      للدعاية والإعلان قوة توازي السلاح النووي لكن على طريقة الدعاية والإعلان طبعًا، والدليل هو الشعب العُماني المُطوَّر حسب وصفة النهضة المباركة. على الجميع أن يقولوا كنا نسافر عبر الجبال والوديان الوعرة على ظهور الجمال والحمير لكن يجب ألا يفكر أحد أن الحمير والجمال نفسها أصبحت تتبرأ من هذا الخطاب الركيك وتتمنى لو لم يركبها أحد!. على الجميع أن يقول إن الحكومة العظيمة بنت لنا شبكة طرق وشوارع عملاقة تغطي أرجاء البلاد كافة ووو لكن يجب ألا يقول أي أحد إن البنية التحتية مهترئة معرضة للخطر بسبب الصفقات المشبوهة وإهدار الملايين على الشارع الواحد أحيانًا مرارًا ومرارًا، وما يكلف مليونًا يكلف مئة مليون!. اللصوص يحتاطون بالتأكيد فلا أحد يستطيع إثبات أي شيء والأوراق تؤكد صدق كذبهم!، ثم إن الرقيب يحتاج إلى رقيب، وفي النهاية لن يوجد إلا اللصوص وحدهم. يجب ألا يكتب أحد عن الأرواح التي فقدت بسبب سوء التخطيط وعدم بناء الجسور في الوديان، وبسبب التخطيط الأشد رداءة الذي يقول كثير من العُمانيين إن شوارع أفريقيا في الستينيات كانت أفضل منه!. يجب ألا يكتب أحد شيئًا عن حكومة لا يثق فيها أحد، بل يجب أن ينال التكريم الفاشلين ويصفق الجميع لمسرحية جعلتهم جميعًا يتذوقون روعة أداء الممثلين. عندما يبنى شارع أو جسر فيجب أن تكتب الصحافة ويصور التلفزيون وتبقبق الإذاعة ويُدبِّج الشعراء القصائد ويرقص المواطنون ويهزجون ويقفزون فرحين بالسيوف والخناجر وتنشر الإعلانات الممجدة للأفعال العظيمة وينطق الحجر بالصنائع والروائع!. ياله من بلد لا يكل ولا يمل من لعبة تضييع الوقت فيما ينقله من سيِّئ إلى أسوأ.