30 أبريل 2014

هنا لندن

زوينة آل تويه

في الوقت الذي كان فيه معظم أفراد القرية غارقين في وهم القبيلة ومفرداتها البائدة من عبد وخادم وبيسر، كان أبي يستهلّ أصباحه بالاستماع إلى إذاعة لندن، ويقرأ العالم بعين واسعة تذهب بعيدًا جدًّا عن القرية الصغيرة، وكنّا نحن الأبناء نلوذ بقراءة مجلة ماجد وألفية ابن مالك ولسان العرب والمتنبي والجاحظ والمنفلوطي ودوستويفسكي وهيجو وهمنغواي، بينما لا يفقه أغلب أقراننا في القرية أكثر من تهجئة اسم القبيلة والتبرّك به ليل نهار.
كل صباح، يستيقظ البيت والبيوت المجاورة على صوت المذياع الصادح: "هنا لندن: هيئة الإذاعة البريطانية"، تتبعه الموسيقى الشهيرة، ثم لا يلبث أن يرافقه صياح الديكة في الجوار. أما أبي، فيجلس بصمت حكيم أمام عتبة باب الدهريز الطويل ويغرق في إذاعة لندن، ويظل ساكنًا هناك قرب المذياع، سارحًا مع الأثير، وكأنه بوذا قاعدٌ يصلّي أو متصوّفٌ نشوانٌ يناجي ربّه.. ولا يخرجه من تنسُّكِه ذاك سوى إعلان المذيع نهاية فترة الأخبار الصباحية من هيئة الإذاعة البريطانية بلندن، ولحظتها فقط يدرك أبي أنه ما زال في قريته.. بعيدًا جدًّا عن لندن، لندن التي لم نكن نعرف عنها أكثر من اسمها وأنها تبثّ لنا أخبار العالم هنا في هذه القرية النائية التي لا اسم لها ولا مكان في خارطة العالم المتشابكة.
وحتى بعد ظهور قناة الجزيرة، وبرغم افتتان أبي بها، ظل مخلصًا لطقسه الصباحي، لصوت إذاعة لندن. استطاعت البي بي سي أن تجعل أبي مهمومًا بقضايا العالم وعلى الأخص القضية الفلسطينية، استطاعت أن تجعله خارجًا عن طوره كلّما نقلت له هزائم العرب ومواقفهم المتراخية وكيف أمعنوا في خذلان فلسطين وبيعها برخص التراب.
لقد كان أبي متعاليًا بطريقته على ترّهات القرية، جعلته ثقافته واهتماماته المختلفة عن اهتمامات أقرانه من الشيّاب يعرف كيف يناور فكرة العنصرية القبلية ويهزأ منها بطريقته الخاصة، محافظًا على كبريائه وعزّة نفسه. أبي الذي عاصر الحربين العالميتين الأولى والثانية والذي لم يعرف القراءة والكتابة، كان حافظًا لبعض أمثال العرب وأحاجيهم وأشعار المجنون وامرئ القيس وعنترة وحتى بعض معاني المعلقات المعجمية، ومتابعًا دقيقًا لأخبار العالم السياسية محلّلا ومتفاعلا.. متعاطفًا تارةً وغاضبًا نزِقًا تارةً أخرى. أما “الجزيرة” فقد أتاحت له التنفيس عن غضبه أكثر، فلا يعود ذاك الصامت المتنسّك أمام محراب إذاعة لندن، يتحوّل أمامها كائنًا آخر، ربما لأنها كانت ماثلة أمامه صوتًا وصورة. كان حين يُغضبه خبر يذرع الدهريز الطويل بعصبية جيئة وذهابًا غير آبهٍ بتنبيهاتنا المتكررة بأن يرحم قلبه الضعيف. والجزيرة أمامه لا تنفكّ تشعل غضبه وتثير أعصابه بأخبار العرب البائسة وضعفهم أمام القوى العظمى.
أين أنت الآن يا أبي بعد كل هذا الزمان الذي مضى لترى ما نرى!.. لساءك حتمًا ما وصل إليه الحال، لكن رحمة الله بك أوسع.
في عام 1975 كان أبي عائدًا من تجارته في شرق أفريقيا ونزل بمصر. هناك قُيِّض له أن يشهد حدثًا تاريخيًّا لم تنقله له إذاعة لندن هذه المرة، بل رآه رأي العين. شهد أبي يومها جنازة من أكبر الجنازات في العالم، وأخبرنا بدهشة الرائي أنّ مصر خرجت عن بكرة أبيها لتشيّع جثمان فقيدتها العظيمة أم كلثوم في ذلك اليوم. أبي كان يقدّر أن يكون هناك فنّان مثل كوكب الشرق يستحقّ كل هذا الاحتفاء، هو الذي لم يعرف من الفن آنذاك أكثر من الأهازيج الشعبية.
مضت ثلاثة عشر عامًا ولم نعُد نسمع صوت هنا لندن يوقظنا في الأصباح الباكرة، لكن الراديو الذي كان يخرج منه الصوت ما زال باقيًا، شاهدًا على ذكريات لا تُنسى.
من فرط الحنين أكاد أجزم أنني لو أدرت أحد أزرار ذاك المذياع يومًا لجاءني الصوت صافيًا رخيمًا وعابقًا بنسائم الصباح البعيدة: هنا لندن.
سلامٌ عليك يا أبي وطيّب الله ثراك وأسكنك جنانه الفسيحة.