27 ديسمبر 2018

نشكو إليكَ

إلى صديقي العزيز كامل شيَّاع الذي اغتيل في بغداد في 23 أغسطس 2008م

م. ج. حمَّادي

(2014-1964)

الفنان الراحل  في أثناء زيارة لمسقط  (تصوير: سالم آل تويّه)
أبطالُ كاتماتِ الصَّوتِ
يتربَّعونَ فوقَ عُرُوْشٍ
مهترئةِ الجذورِ مِنَ الجفافِ وشَحَّةِ المطر
وعلى الضِّفافِ من نهرِ الفُراتِ حيثُ تَجمَّعَ الأطفالُ الحُفاةُ
وحيث يَلتهِمُ الصَّمتُ بقايا التَّذكُّرِ ويَزحَفُ كسلاحِفَ أزمانٍ غابرةٍ
جَلَسَتِ الأُمَّهاتُ بسوادِ اللَّيلِ يَنْدِبْنَ
من آماقٍ مشدودةٍ.. تفوحُ بحرارةِ الدَّم
ما حلَّ بنا من فواجِعَ
ونكوصٍ في رِقَّةِ المعنى وعودةِ الإنسانِ
يَرْشُشْنَ الماءَ على قبورٍ تتراصُّ كلَّ صباحٍ مثلَ فيالقَ راقدةٍ
ينشُدْنَ تراتيلَ معابدَ ممزَّقةِ الأردانِ والأزياقِ
يتواصلنَ في نُواحِهِنَّ عن رجالٍ شجعانٍ.. عَنِ القتلى في الطف وشوارعِ بغداد
فكأنْ لا لُقيا تَحدُثُ عَقِبَ المنافي
إلا مع هذه الرَّملةِ التي تحتجِزُ الكونَ بالصُّفرةِ ورائحةِ القبرْ
فمَنْ يُريدُ أنْ يتغيَّرَ
ويسمو بروحِهِ الثَّكلى كأغصانِ زيتونةٍ محترقةْ
فليَمُدَّ الجسدَ قريبًا.. وأكثرَ ممَّا يتصوَّرُ
في العدمِ الكُلِّيِّ
أين ترتَعُ أرتالُ الصُّمِّ البُكْمِ.. متغيِّري الوجوه.. أقلّ من عضايا مجاعةٍ قاهرةْ
أين يُجْمَعُ دُخانُ فوَّهاتِ البنادقِ
داخلَ كهوفِ آرائهم المختمِرَةِ على تراكُمِ الدِّماءِ
من أجلِ البسالةِ وتاريخِ المجدِ الضَّائع
أبطالٌ مسومونَ بالخناجرِ وكاتماتِ الصَّوتِ
يُهيِّئونَ مجدَ هولاكو على أهراماتٍ تسيلُ دِماؤها كخيوطِ العناكب
وتسطُعُ عليها شمسُ غروبٍ مُرْهَقٍ بالنَّحيب
إذْ تَصْفِرُ خَلَلَ المحاجرِ الفارغةِ كرُعْبٍ كونيٍّ لا تتمثَّلُهُ الأرض
رياحُ الجهاتِ الأربعْ
وضمن مَيَلانِ الضِّياءِ بألوانٍ قانيةْ
تمتدُّ الظِّلالُ وتسكُنُ على الصَّرائفِ والبيوتِ الخَرِبَةِ
كأنَّ كلَّ هذه المتشبِّثةِ إحداها بالأخرى بسلاسلَ صدِئةٍ
تمائمُ يُعلِّقُها الضِّياءُ على الهواءِ
فلنتباركْ إذنْ مثلَ أشجارِ الأثْلِ وقوفًا
ما بين القُطْعَانِ وهي ترعى أفكارَ أحزابٍ موهومةْ
وترعى أعلافَ الجرائدِ والصَّديدِ الأهوجِ
بعدَ أنْ صُبَّ عليها زيتُ القرونِ ومُخلَّفاتُ التَّتر
كذلك على هدايا مُسيِّري طاقمِ القَتَلَةِ
يحلُمُونَ مُجدَّدًا بدولتِهم، البدو الفاشست، والعالمُ
يتفتَّتُ.. يحترِقُ في أروقةِ التِّيهِ البيضاءَ، ومَنْ لا يُدرِكُ هذا؟
يحلُمُونَ بالقيادةِ والقائدِ المُعمَّدِ بأصنافِ جحافِلِهِ
على الحدودِ وممرَّاتِ الهواءِ في "الأهوار وحلبجة"
يحلُمُونَ ببائعي الأعلافِ "والجت" ضِدَّ مجاعاتِ الأغنامِ والماعز
ثمَّ نأتي إليكَ مُطأطِئي الرّؤوس
يا صديقًا باعَدَتْهُ عنَّا
مسافةٌ مِنَ الرَّملِ والحجارةِ النَّديَّةْ
مسافةٌ لا يَختَرِقُها العويلُ ولا صدى التَّفجيراتِ المُتكرِّرةِ
مُكلَّلين بما لا نعرِفُ كحيواناتِ الغابِ والنُّسورِ الجائعةِ
نشكو إليك الغدرَ وسياسةَ الوجهين
وبقايا حُثالَةِ القَتَلَةِ وما جرُّوا من قبلُ ومن بعد
من مآسٍ على الشَّعبِ المسكين
نشكو إليكَ الأخوين على المقاعدِ من مدنٍ مُسوَّرةٍ
بعيدًا عن المشاعِلِ الجوَّالةِ كوَضَحِ النَّهار
يتقاتلون على أطنانِ الزَّيتِ والزِّفتِ
على ما تأكُلُهُ الطَّيرُ من قِحافِ الجماجِمِ
يتباركون كالممسوسينَ بانتظارِ الجولَةِ القادمة
نأتي إليكَ لنُصحِّحَ أخلاقَ المُلثَّمينَ بخناجِرِهِم المعقوفةِ إلى الوراء
ونُنقِذَ ما تبقَّى قبلَ أنْ يَتِمَّ الالتهامُ العظيمُ لكيانِ البساطة
فجلستَ أنتَ مثلَ مُعلِّمٍ قديمٍ لا يُعَدِّدُ أمجادَهُ أمامَ تِلالِ الرِّمال
جاء عبرَ الخِلافِ والزَّمنِ
يَضَعُ حِجارةً فوقَ أخرى
مُتأبِّطًا الأوراقَ وبطاقاتِ التَّموينِ
في شوارِعِ "الوركاء" و"أريدو"، و"أُوْر"
جالسًا في هَمِّهِ المُغرِقِ خلف الضِّياءِ
مثلما جَلَسَ السَّومرِيُّ على أعتابِ السَّماءِ
يَخُطُّ للآلهةِ جُمَلَها الأُولى على الغَرين
يُرَتِّبُ أحجارَ الطِّينِ واليقينِ الأرضيِّّ
إشارات على خُطى تقدُّمِهِ داخِلَ الذِّكرى
بينَ العوسجِ وأعذاقِ النَّخيلِ والقصبِ والبَرْدي
لكنَّنا جئنا بلا حُظوظٍ في مواطنِ الأعرابِ الأقْحاح
يأكُلوننا من أربعمئةٍ وألفِ عامٍ كثمرِ الطَّلْعِ
وما زالوا يستثمرون على أطرافٍ عاريةٍ فوقَ الرَّمل
يَشْغَِلوننا في القتلِ
واللُّصوصُ منشغلون بحَفْرِ الأرض
وما يَعترِفُ به النَّاسُ: الدَّمُ الأسودُ
يستلقي وسطَ البحرِ النِّيليِّ تنوحُ عليه الأساطيلُ
قُرْبَ أُمَّةٍ تَستعْبِدُ نفْسَها طوعًا من طولِ زمنِ الخوف
تنامُ بانتظارِ بزوغِ القمر
***
وخلْفَ الأسوارِ تُمْطِرُ السَّماءُ:  هذا هو الصَّيفُ الماحِلُ ينزِلُ.. عندَ أسفلِ النَّافذةِ، وكانتِ الأعشابُ تنمو، خضرةٌ يانعةٌ، بهجةٌ حقًّا، تَهَبُ الرُّوحَ نصيبًا آخر. واكتشفتَ- يا محاربًا نادرًا- أنَّ هناك موازينَ أخرى مِنَ الفهمِ الدِّمُقراطيِّ.. يتحوَّلُ فيها العدوُ بعيدًا عَنِ المُناكَدَةِ، إلى صديقٍ هَمُّهُ أنْ يُصْلِحَ أخطاءَهُ، ضِمْنَ روحِ العراقِ القديم، ضِمْنَ التَّسامحِ العظيم.. ضِمْنَ "سومر"؛ فكأنَّ هذا الفعلَ الإنسانيَّ الخطيرَ ما يَشْغَلُ بالَ العُتاةِ، أحفادِ جموعِ البدوِ؛ فقرَّروا أنْ يقتلوكَ، أنْ يمسُّوا جسدًا، يُطْلِقوا روحَكَ، حُرَّةً إلى الأبد. تَشارَكْنا تَبَدُّلَ السَّاعاتِ والنُّواحَِ تحتَ رحمةِ الغَسَقِ، فلن يَقلعوا الذَّاكرةَ؛ الملايينُ تنتظِرُ. لن يقلعوا الصُّورةَ التي تشرَّبها الماءُ، وجَرَى بها هناك بعيدًا.  أين النَّخيلُ والمُدُنُ العتيدةُ، ينابيعُ المطر.
***

جلستُ أرقُبُ خاتمةَ المساءِ
لا قلبَ لي ولا عقلَ، فأنا في شحوبٍ "كامل"
جسدي ينحَلُّ في عمقِ رائحةِ التُّرابِ
وتَخِفُّ روحي من وطأةِ الألم
أُحاوِلُ أنْ أغفِرَ
فكلُّ هؤلاءِ الخُطاةِ بأرواحٍ متخشِّبة
سوف تلتهِمُهُمُ الأرضُ
رأفةً وغفرانًا لإبعادِ كيانِهِم الزَّائلِ
وفي الأُفُقِ البعيدِ
حيثُ يتصاعَدُ اللَّهبُ كان قلبي
قلبَ فتًى عاشقٍ
تَشُبُّ فيه النَّار
ويضيعُ في منفى السَّماء
رمادًا قانيًا
يغورُ في الامتزاجِ
السَّحيقِ الدَّائم
***

انْظُرْ.. آهٍ انْظُرْ
البُلْبُلُ العراقيُّ يُنْشِدُ خلفَ أسوارِ الشَّوكِ هناك في اكتظاظِ خضرةِ النَّخيلِ وسِدْرَةِ المُنتهى
يُسْمِعُ غناءَهُ مُهَجًا قد نَسِيَتْ
أنَّ هناكَ قادمًا ثانيًا.. سيأتي.. ويأتي بعدَهُ أيضًا..
سيقِفُ مليًّا واللَّيلُ يتغلغلُ في ثنايا الثِّيابِ
يستمِعُ إلى الغناءِ الهيمانِ الصَّادحِ كيف سيَطوي القِفَارَ
مُتعجِّبًا من هذهِ الأجسادِ المريرةِ والرَّمادُ
يتأمَّلُ في اتِّساعِ خيالِهِ:
أنَّ تغيُّرَ العالَمِ احتمالٌ قائمٌ
وعرائشَ الرَّبيعِ تصطفُّ كراقصي حفلٍ
يتنعَّمون فوقَ الشُّرفاتِ بمرورِ الهواءِ
وبوقوفِ الأحِبَّةِ تُشِعُّ في أقداحِهِمْ ينابيعُ الضِّياء.

فنان وشاعر عراقي