29 أبريل 2008

أحزانٌ مُعتَّقة

الشاعر خميس قلم
الشاعر خميس قلم
 
 
خميس قلم
 
 
يباس

خمر تزرعك
قمراً
في سماء الصخب
موسيقى تسرق أحزانك
من الزمن
أرداف تراقص شهوتك
أنَّى لك أن تصحب كل هذا اللهو إلى
سريرك اليابس؟

23-11-2006



سقوط

من على قلبك
أسقط
لا تنقذيني
دعيني
أتكسر تحت قدميك
كجوزة يابسة
23-11-2006

انهماك

فتشت كثيرا
في كلام الأسلاف
فلم أجد
حكمة توازي صمتهم

23-11-2006




تحرُّر

لم أعد أخشى
أن أخلط
في طعامي
السمك باللبن
أنا الآن حر
أنا مصاب بالبرص

4-11-2006



صيد

الزمن.. ذلك الكائن الضخم
يهرب من كل الفخاخ
التي أنصبها له
يبدو أنني سأحتاج
إلى حيلة أكثر اتساعا

11-11-2006



خروج

الغريب الذي ضاقت الصحراء
بأحلامه
رهن للرمضاء ناقته
وتعلق بجناح طائر فولاذي
بأي مشيئة أسكن الريح خيمته؟
بأي ذنب أطعم لذئاب الغياب
ثغاء صباحاته؟

الغريب يكسر ناي ذاكرته برائحة التبغ
ويتدحرج على مساء مسفلت

9-3-2006



انتظار

شفتاي يشققهما الجفاف
أقضي الليلة أنتظر قصيدة رطبة..
القمر وأنا
نحرس هدوء القرية وأحلام الكادحين ..
متى ستطلين يا قطرة الندى؟




وعلى الأعراف رجال

يالغربة الروح في هذا المكان الملتبس!
لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك
(البريمي) مطهر الشاعر المعلّق
بين فردوس الحبِّ وجحيم الحنين

* شاعر من عُمان

الشاعر خميس قلم

23 أبريل 2008

الحقائق والتعتيم.. مواطنٌ تُفقِدُه الشرطة بصرَه ولا أحد يقبل دعواه

مؤخرًا انتشرت بين الناس أخبار عن قضايا تعذيب وقتل على أيدي شرطة عُمان السلطانية ضد مواطنين مسجونين. تُجمع تلك الروايات على أن تعامل الشرطة لم يتم وفقًا للقوانين، بل بمختلف التجاوزات التي تستغل النفوذ والسلطة من قبل صغار المسؤولين وكبارهم، وأن الأمر أصبح في حكم المعتاد. وهناك من يسرد عشرات الأمثلة على الضرب والإهانات التي يوجهها بعض الشرطة إلى أصحاب قضايا مختلفة ومراجعين، إلا أنه، وبسبب الغياب التام لأي مؤسساتٍ وجمعياتٍ مدنية وحقوقية مراقبة ومتابعة، تبقى أغلب هذه الحوادث غير مؤكدة وغير مدعمة بالأدلة، وغير متابعة، ولهذا السبب وبسبب غياب الوعي العام بالحقوق وضرورة الإبلاغ من قبل المواطنين عن هذه الحالات فإن حالات الانتهاك مرشَّحة للتصاعد.

وقبل أيام نشر موقع "فرق" خبرًا تحت عنوان "شباب يقتلهم التعذيب في مركز شرطة الخوض"، وعنوان فرعي شبه تفصيلي لفحوى الخبر "وفاة ثاني شخص بمركز شرطة الخوض في غضون شهر". وقال الخبر إن الملازم ح المقبالي رش مواد كيميائية على بعض المتهمين بالسرقة لنزع الاعترافات منهم. (خبر منشور باسم "الصمت")!
وحسبما جرت العادة لا يجد الناس أي ردود أو توضيحات رسمية من ذوي الاختصاص، ولا تتناول الصحافة المحلية تلك الأخبار، ولا تضغط من أجل توضيح الحقائق للرأي العام.
والمتعارف عليه في المجتمع- كقاعدة- أن الصمت سيد الموقف في مثل هذه الحالات، ودائمًا يتنامى حس الخوف الذي بسببه يصرف كثيرون النظر عن تقديم الشكاوى ويلازمهم يقين بأن الآية ستنقلب ضدَّهم ويتحولون من أصحاب حق إلى مدانين! وهو منطق شديد الغرابة لكنه مترسِّخ لدى أغلبية العُمانيين إلى الدرجة التي تُوهم الآخرين بأن المجتمع خال من تلك الحوادث.
إن المخيف حقًّا والباعث على القلق وما يحتاج إلى تحرُّكاتٍ عاجلة أن تلك الانتهاكات قائمة بالفعل، لكن التستر عليها يُحوِّل الضحية إلى متهم، وفي أحسن الأحوال يتولَّى التجاهل بعث اليأس والخوف المضاعف في الضحية التي تجد نفسها وحيدةً مستفردًا بها وبلا حيلة، إن لم يحدث العكس وتتحوَّل الضحية إلى كائن متوتر ممتلئ بالضغائن وقابل للانفجار في أي لحظة- وبالتأكيد لن تصيب شظايا انفجاره أحدًا سواه!
للتدليل على ذلك سنختم بالقضية التالية:
مساء أول من أمس، الثلاثاء 23/4/2008م، وبالتحديد في برنامج "البث المباشر" الذي تبثه إذاعة سلطنة عُمان بين الثانية والنصف والثالثة والنصف ظهرًا اتصل أحد المواطنين بمقدم البرنامج المذيع بدر الشيباني، وسرد عليه قصته، حيث كان متَّهمًا بقضية جنائية قضى محكوميتها في سجن الرميس. كان هذا الشخص مصابًا في إحدى عينيه ويستخدم قطورًا أوصاه الطبيب (قبل دخوله السجن) بالضرورة القصوى لحفظه في ثلاجة، إذ يخضع استخدامه لشروط صارمة دونها قد يصبح الدواء بلا جدوى.
وعبر سلسلة من المحاولات التي يقوم بها المتهم مع الشرطة، ومنهم ضابطان برتبتي ملازم ونقيب، لا يفلح في إقناعهم بالضرورة الملحة للاحتفاظ بالدواء في الثلاجة، بل إنهم يضربونه ويتسببون في تفاقم حالته وتردي بصره إلى درجة غير محمودة العواقب.
وبعد خروجه من السجن، ونتيجة لما وصلت إليه حالة عينيه، حاول الشخص مقاضاة المتسببين في تردي حالته، وعلى الرغم من انقضاء فترات طويلة على خروجه من السجن وعلى تقديمه شكاوى إلى أعلى المسؤولين في شرطة عُمان السلطانية ورفعه دعاوى إلى المحاكم إلا أن عدم الإنصاف والتجاهل كانا حصاده الوحيد.
سيجد القارئ مع هذا الخبر مرفقًا صوتيا يستطيع عبره سماع دقيقتين وست وعشرين ثانية من الحديث الذي دار في برنامج "البث المباشر" بين الشخص المتضرر والمذيع، علمًا بأن الحديث الكامل استغرق ما يقارب الربع ساعة.
لعب برنامج "البث المباشر" دورًا كبيرًا في امتصاص غضب المواطنين وشكَّل متنفسًّا لبعضهم، وهو البرنامج الذي أثار كثيرًا من الجدل، وأُوقف بثه، وبعد السماح بعودته بقي دائمًا مثار قلق للمسؤولين الذين لولا ولولا! يريدون منع بثه اليوم قبل الغد.
وفي هذا التسجيل وفي غيره ينبري المذيع للدفاع في كثير من الأحيان عن الدولة ومؤسساتها ومحاكمها، انطلاقًا من التعليمات الصارمة التي تبقيه كـ"موظف" حكومي قاب قوسين أو أدنى من فقدانه وظيفته. ويجد مذيعو ومقدمو هذه البرامج أنفسَهم في مواقف حرجة حين استقبالهم لمثل المكالمة المذكورة أعلاه ليصبح همُّهم الوحيد والأوحد التخلص من المتصل وإنهاء المكالمة لكن بطريقة لا تُشعر المتابع بتعمدهم ذلك، على الرغم من أن المذيع نفسه قد يكون مؤيِّدًا تمامًا للمتصل ويعلم علم اليقين بالظلم الواقع عليه، كما يعلم أن الدور الأساسي لبرنامجه ليس إتاحة الفرصة والحرية لطرح القضايا والبلايا التي تحصد بلادنا بل ذر الرماد على العيون والإيهام بتلك المبادئ!
إنها تناقضات لا تُحصى سببُها السياسات العُليا وانعدام الوازع الوطني والضمير الأخلاقي اللذين ينشدان الصالح العام ولا يرتاب أصحابُهما في المواطنين ولا يتخذونهم أعداءً ولا يقمعونهم ولا يتجاهلونهم.
إذًا من يستطيع أن يؤكد أو ينفي أو... أخبار التعذيب والقتل والتهديد والتجاهل والاستغلال والتخويف والأيدي الحديدية التي تبطش ولا تبالي!
ِ


22 أبريل 2008

الرجل الذي لم يحلق "شنبه" ثلاثين سنة!

شنب حافظ على تربيته ثلاثين سنة

شنب عمره ثلاثون عامًا

 

في شارع المعارض، أحد أشهر شوارع مدينة المنامة، الشارع المليء بمحال الحلويات وفنادق "الأربع نجوم والثلاث" الشبيهة بفنادق ديرة في دبي، فجأة، قرابة الثانية والنصف ظهرًا، حين كان كبد السماء عبارة عن جحيم ينصب على الأرض، وفي غمرة أخبار مزعجة وأخبار حزينة وأخبار يصبغها الدم وأخرى شخصية لا معنى لها وسط كل ذلك الاختلاط الذي يغلي في الدماغ، في تلك الساعة وذلك المكان، وبينما كنتُ أنعطف نحو فندقي البائس، فجأةً رأيتُ التمثال.
في البداية ظننته تمثالاً، لأن شاربيه بديا غير معقولين على الإطلاق، وعندما اقتربتُ منه ازدادت دهشتي وطار كل ما في رأسي؛ كان يجلس على مصطبة عالية أمام محل "مساج" تايلندي بجواره هندي اتضح فيما بعد أنه بائع البقالة الملاصقة.
هل هذا تركيب؟ سألته مشيرًا إلى أحد طرفي شاربه، فبدا عليه الضيق وحدجني بنظرةٍ مُستفَزَّة، وأجاب على الفور: لا.
- كم سنةً ربَّيت هذا الشنب؟
- ثلاثين سنة- قال والعرق يسيح على جبهته ووجهه.
كان يضع بعض المواد الكيميائية لتثبيت الشاربين وتصليبهما ورفع نهايتيهما كقرنين؛ ولطولهما لا شك أن تلك المواد وحدها لم تكف فشدَّهما من منتصفيهما بخيطين ثبتهما حول أذنيه. رأيت دمًا على أذنه اليُسرى من أثر الخيط الذي بدا كالشفرة وهو يلتفُّ حولها.
- كيف تنام؟
لم يرد. مؤكد أنه لا ينام مثلما ينام جميع الناس وإلا "تكسَّر" الشاربان وضاع مجهود ثلاثين عامًا. كان هذا تفكيرًا ساذجًا كما سيتبين لاحقًا، والأرجح أن الشمس المتعامدة فوق الرؤوس خلطت كلَّ ما في الدِّماغ. كان الأهم هو الوصول إلى غرفتي بالفندق لكن الشنب لخبط الأمور.
بثلاثة دنانير- قال وهو يشير إلى آلة تصوير وضعها بجواره على المصطبة- الصورة بثلاثة دنانير. غلت ثانية الأخبار والأفكار في رأسي. سجَّلت رقم هاتفه النَّقال، ووعدته بالعودة غدًا لأنني مشغول جدًّا الآن. ما اسمك؟ سألته وأنا أسجل رقمه في هاتفي. تحدث بعربية مكسَّرة صعبة الفهم، وفهمت منه أن عليَّ تسجيل الرقم باسم "شنب".

 

وقفة تليق بالشنب الفريد

وقفة تليق بالشنب الفريد


في اليوم التالي ذهبت في جولة سريعة إلى بعض المزارات السياحية البحرينية، ومن أجل بعض الضرورات تواصلت هاتفيًّا مع الصديق الرائع عيسى الغايب نائب أمين عام جمعية حقوق الإنسان البحرينية، ونسيت الاتفاق الذي بيننا بدافع من الانشغالات التي يبدو أمرٌ كهذا لا داعي له أبدًا في خضمِّها، لكن الشمس، من جديد، كانت بالمرصاد، فبعد خروجي من أحد مقاهي الإنترنت في الشارع نفسه، والشمس تواصل مهامَّها المعتادة رأيته في الطرف الآخر حيث لا بد أنْ أعبر متَّجهًا إلى الفندق؛ كان هناك في الشارع المعرَّض تمامًا لسياط الشمس، ولأنَّ اتفاقًا كان بيننا منذ الأمس، ولأنه سيراني أعبر أمامه، وكي لا أكون هازئًا بشاربه الذي ربَّاه ثلاثين سنة، أخرجت هاتفي واتصلت به، ورأيته يُخرج هاتفه من جيبه ويقربه من أذنه ويردُّ. أنا هنا في نفس المكان الذي التقيتك فيه البارحة- قلت له بعربية مكسرة كي أستطيع التفاهم معه! ولم يبد عليه أنه فهم شيئًا، إلا أنني فهمت أنه يريد القول إنه ينتظرني في نفس المكان! أنا هنا وراءك، تعال هنا لو سمحت لأن الشمس هناك حامية وهنا ظلّ! أردت قول هذا بتلك الطريقة الخاصة التي أسَّستها العمالة الهندية عبر وجودها الطويل في الخليج على الرغم من أن صاحب "الشنب" تركي. وفي اللحظة التي التفتَ فيها إلى الخلف ورآني كنتُ قد بلغت بقالة الهندي، وكان هذا خارجًا من دكانه، فناولته هاتفي وطلبت إليه أن يطلب إليه المجيء إلينا، مشيرًا إلى الطرف الآخر من الشارع.

قلتُ له إنني لا أريد صورة بآلة التصوير الخاصة به، وإنني سألتقط له عدة صور بكاميرتي. لا بد من رفع السعر في هذه الحالة؛ قال بتلك اللغة الصعبة الفهم. حسنا. توجَّه نحو الشارع وحسبته سيقطعه إلى الجهة الأخرى مرة أخرى، وناديته، إلا أنه واصل المشي ثم وقف واستدار ووضع يديه على خصره متَّخذًا هيئة مصارع، ومن صدره المكشوف عبر عدة أزرار يتعمد تركها غير مزررة بان شعر صدره الكثيف وسحب منه "خصلات" نحو الخارج، وأشار إلى أنه مستعد لالتقاط الصور!
ولأن شاربه فريد من نوعه ليس في المنامة فقط بل في العالم أجمع كان جميع ركاب السيارات المارة خلفه والعابرون أيضًا يلتفتون إليه، ومرت سيارة شرطة رفع أحد شرطييها يده صوبي كي أكف عن التصوير ريثما يمرَّان، وتوقفت هنيهات، ومرَّا، وعاودت التقاط الصور، ثم طلب منِّي التركي أن أسلِّم الكاميرا لصديقه الهندي وأذهب إليه ليلتقط لي صورة معه.
بعد ذلك صورت معه ونح

قبل خمس وعشرين سنة

...

وقفة تليق بالشنب الفريد

شنب حافظ على تربيته ثلاثين سنة

16 أبريل 2008

قنبلة أحمد عبد الملك الصوتية!

رواية "القنبلة" للأديب القطري أحمد عبد الملك
رواية "القنبلة" للأديب القطري أحمد عبد الملك
محمد العباس

بعد أن يُخضع مجتمعه لقراءة تشريحية ساطية معرياً عيوب ومثالب الحياة/الهوية الخليجية الحديثة، يتراجع أحمد عبدالملك في نهاية روايته "القنبلة" عن كل ما استعرضه من مظاهر الاختلال الروحي والمادي في حياة عائلة قطرية، فيما يبدو إشفاقاً على تلك الذات من مكاشفتها بالحال والمآل اللذين انتهت إليهما، أو ربما لإبداء شيء من الأمل بإمكانية ترميم الخطأ، إذ يحيل كل عطالتها وبؤسها الحياتي إلى حالة فصامية، لا إرادية، ولا واعية، مردها مرض ازدواجية الشخصية (Double Personality ) التي تلبست بطلة الرواية "حياة" بمن هي - كامرأة - الصورة التصفيحية لمعنى وجدوى الحياة كما يحيل اسمها، وبما تستبطنه الرواية من دلالات في هذا الاتجاه، فكل ما تم سرده من تشوهات فادحة مجرد أعراض لوهن مجتمعي طارئ يمكن الشفاء منه، بمعنى أن الخراب الذي تولَّد عن عصر الثراء الذي أعقب اكتشاف النفط، بما هو نسق ناظم للحياة المادية واللامادية للإنسان الخليجي، لم يصل بعد إلى الحد الذي لا يمكن تفاديه.


وإذا ما تمت مساءلة ذاته التي أنتجت الرواية، التي تقيم هي الأخرى في حالة مزمنة من الإنكار كشكل من أشكال التماهي مع أبطال الرواية، يتبين أن ليس ثمة قنبلة اجتماعية حقيقية قابلة للانفجار، بل مجرد إنذار بإمكانية وجودها، أو ربما أرادها قنبلة صوتية لإثارة حالة من الفزع الاجتماعي، وتصعيد الإحساس بخطر فقدان الذات وضياع الهوية، إذ لم يغادر "ناصر" بيت الزوجية إلى امرأة أخرى على الرغم من اشتهاءاته وانحرافاته الواعية واللاواعية، ولم تسمح "حياة" لرجل آخر باقتحام مخدعها، على الرغم مما أبدته من شبق متأصل بسبب إقامتها في جسد أرادت به مناددة الحياة. ولا يعدو الأمر كونه وشاية من الخادمة "كاترين" أو مجرد شكوك ومراودات نتيجة فتور العلاقة فيما بينهما، والصقيع الذي يلف حياتهما وسط حاضن مادي يخلو من الدفء، حيث لم تقترف الخطيئة بشكل فعلي، وعليه فلا خوف من الكارثة كنتيجة حتمية حسب التصور الشكسبيري، أو هذا ما تعكسه طبيعة السرد من حيث تماهي الراوي مع المروي له والمسرود له في آن.

هكذا يبدو الأمر مجرد تمرين على التطهُّر، أو إعادة تمثيل طقس الخطيئة على الورق، حيث تقف "حياة" في مستهل الرواية قبالة الكعبة "في حضرة الله". ومن تلك الحافة الإيمانية يرتد إلى الوراء بسرد استذكاري ليعدد جملة من مظاهر التردي النفسي والجسدي والاجتماعي، ولكنه يتنازل عن معطيات الواقع، انتصارًا للعبة إيهامية، خوفاً من التجابه مع الحقيقة، أو ربما تلويحاً بخطر يمكن نزع فتيله، فالرواية المسرودة بصوت امرأة، ووعي ذات مثقفة وواعية بخطورة واتساع وعمق التحولات الاجتماعية، تعكس في شعورها ولا شعورها مأزق مثقف لم ينفصل كسارد عن شخوصه داخل السرد، إذ يعيش من خلال تورطه في الرواية إشكالية معلنة مع المجتمع، والموروث، والثقافة، والمؤسسة، والعقائد، والهوية، فهو- كمثقف- مريض في مجتمع مريض، حسب تحليل لوسيان غولدمان للعلاقة الاستبدالية بين الكاتب ومجتمعه في كتابه "الإله الخفي" حيث تكتسب الذوات العارفة عدوى علاتها من الحاضن الاجتماعي وتصارعه بمضاداتها في آن، كما يتوضح ذلك من انفصامه هو الآخر بما يبدده من رؤية إحباطية مركزية ناتجة عن سقوطه في اللاوعي الجمعي الذي قام مقام الوعي لحظة إنشاء نص "القنبلة" حيث يتجلى ذلك التيه فيما يدوِّنه في مفكرته الحمراء إزاء علاقته بحياة "هل أحب أنا هذه المرأة؟ أنا لا أستطيع تحديد مدى حبي أو كرهي أو عدم اهتمامي بها!".

ويبدو أنه قد اختار الجنس لتفسير التحول الدراماتيكي في حياتهما، على اعتبار أنه مفتاح الحقائق، بتصور ألبرتو مورافيا، فهو زاوية نظر مثل عدسة الكاميرا، وهو بمثابة اختيار زاوية للنظر إلى الأشياء، وعبر النظر إلى أشياء الجنس نرى كل الأشياء الأخرى. وهو الأمر الذي يتوضح بشكل أكثر صراحة أو بما يشبه الصدمة، ليس في استعراض مظاهر التفسخ الاجتماعي، واختلال الميزان القيمي وحسب، ولكن من خلال تعلُّقه وانئساره لزوجته "حياة" الموبوءة بنزق بوفاري لا شفاء منه، بالرغم من كل الأوجاع العاطفية التي خلَّفتها في روحه وجسده، كما يبدو ذلك جليًّا في عباراته التي تنم عن اعتناق عاطفي غير مشروط "لقد لوَّنت هذه المرأة حياتي بطلاء الشك. وقضينا خمسة وعشرين عاما نتلذذ ونتعذب بلعبة القط والفأر ... كم أحببت هذه المرأة؟ وكم تحملت أفكارها وتصرفاتها. كان هنالك رابط قوي بيننا لم تقطعه تصرفاتها وشكوكي بها ومواقفها المشينة أحيانا. لم أكن لأطيعها وأطلقها. من يطلق روحه؟ ومن يجتث يده أو عنقه عن جسده".

أن تحب امرأة مع رغبة ألا تخونك، حسب ألبرتو مورافيا، يعني أنك لا تحبها،
وإذ تحبها، يعني أن تحبها بكل رغباتها تجاه الآخرين، وبكل أخطائها، وهنا بالتحديد مكمن الانفصام الذي عاش على حافته "ناصر"، فزوجته حياة بنت الحاج عبدالرحمن زعيم القبيلة الكبيرة، وبكل ما فيها من إسقاطات تحيل إلى الاجتماعي، تعي تعلقه بها رغم كل زلاتها، كما توحي بذلك اعترافاتها "كان يضربني ويهجرني ويطردني من المنزل، لكنه من الداخل يحبني ويغار علي بشكل جنوني... أحيانا يتراءى لي أنني لا أعرفه! بل ولا تربطني به أي علاقة". وربما نتيجة ذلك اليقين المشوب بالاعتداد واليأس كانت تتعمد (فرنسة) طلتها، وتنتشي باختلاسات الآخرين لقوامها. وكانت تشتهي صديقه مشعل على وجه الخصوص، حيث افتعلت حركة غامضة لملامسة أصابعه بحجة مناولته فنجان القهوة "لقد جذبني شكله الأنيق وبشرته السمراء. زوجي أبيض البشرة وأنا أموت في السمر لأنني أصلا حنطية اللون".
أحمد عبد الملك
أحمد عبد الملك

حياة، التي أدمنت السهر عند "أم علي" مترنحة على أنغام الأغاني الراقصة، ومشاهدة المحطات الزرقاء في آخر الليل، فيما يعتقل ابنها منصور لارتباطه بنشاط محظور، يهجرها زوجها بالأسابيع ولا يلتفت إلى صدرها ولا إلى أعطافها المشتهية، ولا يشبع ارتجافاتها المخبوءة، ولذلك تفرح وتندهش في الآن نفسه من ضياع أناها، حين ينغرم بها سائق لا تكف عن التغني بأنفه الأفريقي وعينيه الواسعتين وأسنانه البيضاء، وطالما حلمت باتخاذه عبداً جنسياً، كما تتمتم باستيهاماتها "كانت أم علي ترسله لي ليأخذني إلى منزلها ويرجعني للمنزل بعد انتهاء السهرة. في بداية المشاوير كنت صامتة في السيارة وكانت عطوري دون أن أدري- تتحدث عني. كنت أغطي وجهي بغلالة رقيقة دون أن تخفي ملامحي. كنت أتعمد أن يراني رجل بكامل جمالي".

هكذا ينمو السرد من خلال جسد ظامئ تلوِّح "حياة" بسمرته ونعومته من وراء ملابسها الشفافة، لتغري أي رجل يمر بمحاذاتها، إذ لا تتصور مباهجها مدَّخرة أو منذورة لرجل واحد لا يأبه بها. وبمنتهى الجسارة والإغواء تدس ذلك الأقنوم الأنثوي داخل السرد ليترافع دفاعاً عن انحلاله، وعن حقه في الارتواء، حيث تحاكم- كأنثى- عقيدة ومسالك زوجها الذكورية، لتحمِّله جريرة إماتة حواسها "يأتي منهكاً من رحلة طويلة ولا يسمعني سوى قصص التجارة والصفقات. وأنا الثورة تشتعل تحت جلدي. يأتي يضاجع السيجار بدلاً مني، ويلثم الكأس بدلاً من شفتي!! رجل لا تفيد معه كل العطور الشرسة ولا الألبسة الفضائحية المغرية، ولا المكياج الصارخ ولا الحركات الابتذالية. لقد تجمد هذا الرجل جمود الجدران في المدينة العتيقة! وداهمته شيخوخة مبكرة رغم عدم تخطيه الخمسين".

هكذا يبدو الجسد لغة سرد محورية، فمقابل جسدها المحروم من التماس بقرينه الذكوري، العاجز عن تأجيج أنوثتها، الذي أودى بصاحبته إلى المصحات النفسية، ثمة جسد آخر يدافع هو الآخر عن برودة أطرافه وخبوء جذوته، جسد "ناصر" اليائس منها كوعي وكمكمن للذة، حيث اضطر إلى إشهار تذمره "أنا لا أستطيع أن أمارس الحب مع امرأة رددت أكثر من عشرين مرة طلقني.. طلقني.. طلقني... لا زالت هذه المرأة لا تفهمني. بل ولم تتثقف جنسياً. وهذا ما حدا بي إلى الخوف وتحاشي ممارسة الجنس معها لدرجة كبيرة. علماً بأنني سأكون من الفحول خارج الإطار الشرعي... عندما تستقر بجانبي ملحّة، يأخذني شوق جارف لاحتضانها واللعب معها. كان صدرها كريما مع شفتي. نظافتها تجعلني غير نظيف أمامها. كلها كانت تشكل وجبة شهية. لكن روح الاشتهاء ماتت بداخلي وجعلتني أصدق أن إحداهن قد عملت لي عملا!!".

إنه حوار شرسٌ بين وعيين وشعورين، وليس بين جسدين وحسب كما قد يبدو، فحياة مستعدة لإجراء عشرات العمليات التأهيلية للتقرب من ناصر، كما صارحته بذلك، لكنه كان يستشعر الخواء في مكان آخر، أي في الوعي والأحاسيس والشعور وليس في الجسد المكتظ بالرغبات، فبعد أن أجرت عملية إعادة تأهيل جنسي نتيجة إيماءة عابرة منه، كتب في مفكرته الحمراء "حاولت كثيراً التلميح لها بأن نجاح العملية ليس في ما بين الفخذين بل في داخل الجمجمة، لكنها تؤمن بمشاهد حفرتها الأيام في جمجمتها ولم تمحها حتى اليوم!" الأمر الذي لا تنكره حياة، وتقف حائرة ومقهورة أمام وضعهما المتفاقم "بعد خمسة وعشرين عاماً كان ناصر بعيداً عني بمقدار كلمات الكتب التي تتزاحم في مكتبته. كنت بعيدة عنه بطول خيوط الملابس التي أفصلها كل أسبوع، وبمقدار الأصباغ التي أضعها على وجهي".

قد يبدو نص "القنبلة" في شكله الانبساطي مجرد حكاية مجتمعية مزدحمة بذوات تحاول أن تجد مخرجاً لفتورها العاطفي، ولكن وراء هذا التجابه الجنسي الحاد دلالات اغتراب أعمق، حيث يستفز التأزم الحاصل مكوِّنات الهوية المادية والروحية، كالاعتداد بالجسد الأسمر مثلاً، الذي يتم التلويح به كعلامة جاذبة من علامات الشخصية المؤمكنة، تماماً كما تبالغ "حياة" في التباهي بأصلها القبلي، وقيم البداوة، حتى الإصرار على توظيف الحوار باللهجة القطرية فيه من دلالات التأصيل وتعزيم الهوية، حيث تستدعى كل تلك المركبات العضوية كأ

أحمد عبد الملك

رواية "القنبلة" للأديب القطري أحمد عبد الملك

10 أبريل 2008

"أرانا نموت على عَتَبَاتِ مدينتِنا".. في ذكرى الراحلة فايزة اليعقوبي

الراحلة فايزة اليعقوبي
الراحلة فايزة اليعقوبي
ملف تأبيني أعدَّه: سالم آل تويه

اليوم ذكرى وفاة فايزة اليعقوبي، الباحثة والمشرفة الثقافية وكاتبة القصة القصيرة والصديقة التي تخطَّفها الموت باكرًا قبل سنتين مع ابنها وزوجها في حادث سير فاجع.
في كتابها الصادر مؤخرًا أسئلة وتساؤلات وعلامات استفهام وموت.
هل علينا هنا أن نتجاهل تلك الإشارات؟
كثير من الناس يموتون، ولأننا لا نعلم بدنو موتهم ولا نرى أيَّ إشارة إليه فإننا سرعان ما نتساءل ونتذكر ونصاب بحنين ضاغط ثقيل حالما يُصبحون في عداد الأموات، وليس بعد زمن طويل فحسب، ولذلك نقول كما في القناعة الشعبية غير القابلة للتفلسف والاستعراض: كان يحس بقرب موته.
فرق شاسع بين الميت والحيِّ؛ إن ما نقوله عمَّن مات ربَّما ما كنَّا لنقوله عنه أبدًا لو أنه ما زال على قيد الحياة؛ الموت هنا هو المحرِّض والنَّابش والباعث والمنطلَق.
يتعطَّل النقد وتعمل طاقة الحنين، لكن هذا ليس صحيحًا حتَّى النهاية.
كتبت فايزة في نص "ارتطام": "ومَنْ حولي كانوا أشد ألما في الفترات السابقة، لأنهم لا يفهمون إلا لغة الدَّفن، لا يعلمون أن الميت إنسان يرتفع بين أيديهم ولكنه فوق رؤوسهم. لا يسمعون تراتيل السماء فلا يصلون إلى صدى الحقيقة المطلقة لأنهم يحملون أقنعة واقية عن تقرحات البشر وأصوات الاستغاثة التي تأتي من اللامتناهي".
يحضر الموت بقوة في "سغب الجذور"، ورغمًا عن الدعوة إلى الفرح وألوان البهجة التي تُصدِّر بها فايزة أوَّل نصوص مجموعتها التي رأت النور بعد وفاتها ("وإذا كان علينا أن نعيَ أن الحياة مليئة بالاختلاف والتغيير فإن ألوانها السبعة هي الأمل والحب والسفر والأماني والفن والطبيعة والعمل... فلماذا يا قريتي لا تعشقين الحياة فإن الحياة ألوان....")، رغمًا عن هذا، ورغمًا عن تذكر أصدقائها روحَها المرحة، ولقاءها بهم كلَّما جاءت من مسقط رأسها عبري إلى مسقط وفي يدها الحلوى، تبقى روح كتابتها مأسورة بالتساؤلات القلقة، ويبقى الموت ملحًّا: "تتردد فكرة الموت كثيرًا، وصار متخيلا في ذهني أكثر من أيِّ لحظة أخرى؛ إنه الاسم المضاد للأزلية، الموت في منتصف تشرين الأول أفقدني تلك الروح الباردة الجافة، الروح التي لا تستجيب للحب، الروح الخواء التي لا تستطيع الاحتفاظ بالأصدقاء؛ لأن الحب دائما يضيع في تلك اللحظات التي تشتد فيها حاجتنا إليه، ويحل مكانه الخوف".

السرد في "سَغَب الجذور" يأتي في هيئة لقطات أحيانًا، ويبتعد عن أن يكون قصة في أحيان أخرى ويتكثَّف كنصٍّ مفتوح ويقترب من البوح والإفضاء الحميمي. على القارئ أن يستدرك أحيانًا ويشارك في بناء المناخات والأجواء لأن النص يثير فيه ذلك بسبب عدم إفصاحه، وبسبب توقفه عندما يكون التوقف حرجًا، وكأن النصَّ أفضى إلى الواقع، كأنهما اسمٌ على مسمًّى!
في عام السخافة الذي مرَّ مرور اللِّئام ودَّعتنا فايزة للأبد. من حسن حظِّها أنها لم تقترب كثيرًا من الوسط السخافي المريض؛ من حسن حظها أنها لم تقترب كثيرًا من (الكبار) و(العمالقة) ومن حسن حظِّها أنها ظلت بعيدة عن "النخبة"!
في ذلك العام السيئ الذكر، وفي خضم رحيل فايزة كان تلفزيون سلطنة عُمان الملوَّن يبث برنامج "آفاق ثقافية" الذي تفتقت فكرته وانفجرت بعد توقيع عدد من الكتاب والمثقفين العُمانيين بيان تبرؤ من فعاليات مناسبة مسقط عاصمة السخافة العربية، فجن جنون بعض المسؤولين وسارعوا إلى استقطاب أكبر عدد ممكن من الكتاب للتعاون في إعداد البرنامج، وخاصة أولئك الموقعين على البيان، وذلك للحيلولة دون استفحال عدد الموقعين، ولتأكيد أن الأمور "تمام" عكس ما جاء في البيان! وقد مثَّلت وفاة فايزة صدمة لكل من عرفها عن قرب، وكمحاولة للقيام بتأبين لائق جرى إعداد فقرة موسعة في برنامج "آفاق ثقافية" بحيث تغطي الحدث في ما لا يقل عن عشرين دقيقة مع الاهتمام بتكثيف المادة المقدمة فنيًّا، إلا أن إدارة البرنامج رفضت ذلك، بل وتجاهلت الأمر من منطلق: من فايزة هذه!
إننا هنا لا نريد تثوير ما لا داعي له، لأننا أساسًا نعلم قدر الركاكة الكبير الذي يعمل أولئك الذين يمارسون الإقصاء والتهميش على قاعدته، ولا نستغرب صدور ذلك من التلفزيون الملوَّن إيَّاه الذي وضع لنا بندًا غريبًا عندما تعاملنا معه بالخطأ المقصود في عام السخافة عبر برنامجه ذاك، حيث نص ذاك البند على أن يلتزم "الطرف الثاني" بعدم إفشاء أسرار.... ولا ندري الآن هل كنَّا نتعامل مع منشأة نووية؟ أم مع وكالة استخبارات؟ في النهاية عرض البرنامج عن الراحلة فقرةً تأبينية مدتها عشر دقائق بإخراج سيئ ونص مبتور، بعد سلسلة إحراجات تعرَّض لها كاتب هذه السطور معدُّ تلك الفقرة مع أقارب الراحلة بسبب تجاهل طاقم التلفزيون الملون مراتٍ عديدةً مواعيد التصوير المتفق عليها وأماكنَها.
نريد أن نقول: إن القاعدة الدائمة هي تجاهل الإبداع وتهميشه في أفضل الظروف وأحلكها، وامتداد التجاهل سمة أخرى ت
طال المبدع حتى وهو في القبر، بحيث يكون إيفاؤه جزءًا ضئيلاً من حقَِّه أمرًا يستوجب المنَّ والأذى؛ ولنقرأ معًا ما جاء في تقديم المجموعة القصصية التي نُشرت للراحلة فايزة اليعقوبي بعد وفاتها بما يُقارب السنتين: "ونشكر مجلس إدارة النادي الثقافي على رعايته التي قدَّمها؛ لكي ترى هذه المجموعة القصصية النور، فالدعم الذي قدَّمه مجلس إدارة النادي كان كبيرًا جدًّا". وأسرة الكاتبات العُمانيات التي كتبت هذه المقدمة لم تتورَّع عن هذا المنّ وهذا الأذى بعد تأخيرها طباعة المجموعة فترة لا مبرر لها بالرغم من تسلُّمها لها مطبوعة وجاهزة بعد شهرين من الوفاة بذل خلالهما أخوة الراحلة قاسم وخديجة وسمية اليعقوبي والدكتور غالب المطلبي قُصارى جهودهما في البحث عن النصوص وتجميعها وطباعتها وتدقيقها، حتَّى إن حاتم الطائي صاحب دار "الرؤيا للنشر" بعد تلك التسويفات عرض على أهل الراحلة طباعة المجموعة وكذلك أرادوا هم أنفسهم سحبها من أدراج مماطلات النادي الثقافي ومسؤولي وزارة التراث والثقافة وطباعتها على حسابهم، فما هذا الدعم "الكبير جدًّا" الذي قُدِّم بعد سنتين؟ هل هو ألف ريال مثلاً؟ ما هو بالضبط؟
رحمة الله عليك يا فايزة. كل هذا لم يكن غريبًا عليك في الحياة والآن استرحت منه للأبد. ليتغمَّد الله روحَكِ الجنة، وادعي لنا نحن الأحياء الأموات!


"سَغَبُ الجذور" وهاجس الهُوِيَّة والموت

زوينة آل تويه
بعد ما يقارب العامين من الرحيل المباغت والفاجع تصدر "سغب الجذور" المجموعة القصصية الأولى والأخيرة للصديقة والقاصة الراحلة فايزة اليعقوبي عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت بالتعاون مع النادي الثقافي، حدث ذلك الرحيل في 11 أبريل 2006م إثر حادث سيارة ذهبت فيه هي وابنها وزوجها. حدث ذلك بعد أسبوع واحد فقط من آخر حديث هاتفي بيننا، وكان حديثا صديقا ومكتنزًا بالخطط والأيام القادمة، فيه قالت فايزة أشياء كثيرة عن أحلامها، وعن رغبتها في إصدار مجموعتها في أسرع فرصة ممكنة، وعن إعدادها رسالة الدكتوراه في تونس والتي كانت قد بدأتها لتوِّها، وعن طفلها، وعن زوجها، وعن أصدقائها الذين تحبهم في مسقط، وعن، وعن...، حينها بدا العمر ممتدا وكافيا لإنجاز كل ذلك وللذهاب بعيدا في الحلم، لكن أسبوعا واحدا فقط بين ذاك الحديث الحالم وبين الموت المفاجئ يضع المرء عند أقصى تخوم الذهول والرفض والانصدام.
كثيرا ما تباغتني التفاتة لاإرادية ناحية مقهى هايبرماركت "اللّولو" كلما ساقتني قدماي إلى ذلك المكان حيث لن أنسى صورة فايزة ورضيعَها في آخر لقاء لنا قبل رحيلها بشهور قليلة في آخر زاوية في المقهى.
تضم مجموعة الراحلة خمس عشرة قصة (رسم على الظلال، الرجل الذي نسي وجهه في المرآة، الرُّوع، فصام، صخب، حجر من القمر، فتحة للعبور من القنينة، دفء، بوح نتوءات الرصيف، قضمة من زبد البحر، زنبقة بلا غصون، نجمة الليل، مداد الغضب، ارتطام، مكاشفة).
سغب الجذور
سغب الجذور

يتراءى لقارئ هذه القصص أن شخصياتها تنشغل كثيرا بالبحث عن هويّة تخصها، ففي كل قصة تبرز أزمة الهوية طاغية كسؤال وجودي مؤرق، وما عنوان المجموعة إلا وصف مكثّّف لعطش هذه الشخصيات إلى الانتماء إلى جذر ما، وكذلك عناوين بعض القصص تُسرِّب انفعالات شخصيات مأزومة تخشى الظِّلال وتتوسل الصخب والدفء والبوح والغضب، والمكاشفة أطواق نجاة لا توصلها في الغالب إلا إلى الموت بشكليْه المادي والرمزي، وقليلا ما تتدخل هذه الشخصيات في لحظة ما لتقرير مصيرها، لكن أكثر الشخصيات تأزما ويأسا من إيجاد شكل واضح لوجودها شخصية (الذيب) في قصة "فتحة للعبور من القنينة"، الذي لا يعرف أبا أو أمًّا، ويقطن بيتا متهالكا في ركن منزو من القرية، فضلا عن أنه يحمل اسمًا يُعمِّق شعورَه بالوحشة والقسوة، ولمَّا لا يجد (الذيب) إجابات لأسئلته الكثيرة يقرر مصيره بترك القرية وأهلها في عمق الفجر وبصمت، لأن لا جذور له فيها. وبينما يختار (الذيب) الهجرة آخذًا معه كل شيء، جسده وروحه وأشياءه، نجد شخصية قصة "فصام" مثلاً تتلمس خروجها بإطلاق صرخة مُدوِّية علَّها تنتشل صاحبها من وجود متذبذب ومشوَّه تسكُنُه ذكرى الموت.

قد يكون من قبيل المصادفة أو المبالغة حتى أنْ تأتي نهاية شخصية آخر قصص المجموعة "مكاشفة" شبيهة بنهاية كاتبتها، حيث تنتهي كلتا الحياتين في حادث سيارة، لكنَّ المفارقة الأعجب أن تنتهيا وهما في خضم تشبُّثهما بتفاصيل الحياة وانشغالهما بفك مفرداتها، كلُّ واحدة منهما كانت تفكر "ولكنها توقفت فجأة عن التفكير في كل هؤلاء عندما قذفتها سيارة قادمة إلى الجانب الآخر من الطريق" (مكاشفة) ص 100.



د. غالب المطَّلبي
رئيس قسم اللغة العربية وآدابها
كلية التربية بعبري


إن طُلب مني أن أضع عنوانًا لهذه المجموعة القصصية فلن أختار لها سوى ذلك العنوان الذي نتجنبه عا

سغب الجذور

11 أبريل يوم ماتت على عتبات مدينتها

06 أبريل 2008

عُمان.. جنة التمييز العنصري وجهنم حقوق الإنسان

 

بقلم: الكشَّاف

 

صادف يوم (الجمعة) الموافق 21 مارس الفائت ذكرى "اليوم العالمي لمكافحة التمييز العنصري"، وقد مرت هذه الذكرى مرور الكرام على البعض الذين لم يعلموا بها إلا من خلال الفضائيات أو الصحف، ولكن ثمة أناسًا في عُمان وفي بعض الدول توقفوا كثيرًا عند هذه الذكرى، إذ تعني لهم الشيء الكثير، فهي تحل عليهم كل عام لتفجر في نفوسهم ذكريات أليمة فتحيل حياتهم إلى مرارات ومعاناة.
عندما يتردد اسم (عُمان) يتبادر إلى أذهان بعض المخدوعين أن (جميع) أهل عُمان يعيشون في (يوتوبيا) أو مدينة فاضلة من كثرة ما جملت الصورة وزوقت بوضع مختلف المساحيق والألوان عليها، وقد لعب الإعلام الرسمي دورًا بارزًا وكبيرًا في هذا الشأن، ولكن الواقع لا سيما على صعيد معاملة البشر ومدى (صيانة حقوق الإنسان) يدعو إلى الحزن والأسى الشديد، ومن هنا فإن (ذكرى اليوم العالمي لمكافحة التمييز العنصري) تعني الكثير بالنسبة إلى فئة مضطهدة ومنبوذة من العُمانيين في وطنهم، فسجل (حقوق الإنسان في عُمان) مليء بالانتهاكات والإساءة إلى بعض البشر على نحو ممنهج وممارس بشكل رسمي من قبل بعض مؤسسات الدولة، تارة باسم مقتضيات حماية الخصوصية العُمانية وصون هذه (الفرادة) التي تميز المجتمع العُماني عما عداه من مجتمعات أخرى!، ومرة باسم المذهبية الدينية التي يدعي أتباعها بأنهم (أهل الحق والاستقامة) و(الفرقة الناجية)، وتارة أخرى باسم القانون والقضاء الذي يطبق النصوص بحذافيرها تكريسًا للعدالة القائمة على تطبيق القاعدة القانونية الشهيرة "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص"!.
وحتى لا يكون ما تقدم إيراده من قبيل القول المرسل أو إلقاء الكلام على عواهنه، كما يقولون، فإن ما سيرد ذكره تاليًا من باب بالمثال يتضح المقال.

 

 مقبرة المجتمع المدني.. قلعة التمييز العنصري

مقبرة المجتمع المدني.. قلعة التمييز العنصري

 

- عُمان والتمييز العنصري:

يتبدى التمييز العنصري والتفرقة بين الناس في عُمان لاعتبارات الأصل والفصل والعرق واللون والقبيلة وطبيعة العمل الذي يمارسه الإنسان بشكل بارز وواضح للعيان، حيث إنه وبالرغم مما نص عليه "الكتاب الأبيض" أو ما اصطلح على تسميته بـ"النظام الأساسي للدولة"، وهو الدستور الذي يعد في جميع دول العالم بمثابة (أبو القوانين)، بالرغم مما نص عليه هذا من مبادئ وجيهة ومرتكزات نبيلة تساوي بين الناس وتؤكد كثيرًا من الحقوق التي يتمتع بها المواطنون بلا استثناء تحت حماية الدستور ومتابعة ورعاية السلطة القضائية والتنفيذية تطبيقًا للقوانين واللوائح والقرارات والأوامر والتعليمات التي يجب ألا تتعارض مع "النظام الأساسي للدولة" بأي حال من الأحوال، وإلا فإن عدم وجود هذا النظام يعد خيرًا من وجوده، إذ لا يتصور بحال أن يسمو أي قانون أو تعليمات على هذا النظام أو تكون لما عداه من نصوص وضعية ومكانة تعطل إعمال نصوصه.
غير أن الممارسات على أرض الواقع من قبل بعض مؤسسات الدولة ذاتها تطيح بهذه المبادئ وتسيء إلى هذه المرتكزات بشكل يجعل مما ورد في "النظام الأساسي للدولة" حبرًا على ورق، الأمر الذي من شأنه أن يهدد الوحدة الوطنية ويجعل من بعض التوجهات والرؤى الشخصية القاصرة ذات النزعات الضيقة الأفق البوصلة التي تحدد الاتجاه الذي يجب أن تسير نحوه البلاد، وذلك في تعدٍّ صارخ على النهج العام المفترض فيه تغليب المصلحة العامة والمتصور تحرره من إسار الرؤى الأحادية والمصالح الشخصية التي دلت التجارب ووقائع التاريخ على أنها ما أفضت إلا إلى الخراب والضياع.
كما أن هذه الممارسات، التي سيتم التطرق إليها، تهيل التراب على الجهود المبذولة لتجميل صورة البلاد في الخارج، لاسيما بعد إدراجها من قبل بعض مؤسسات المجتمع الدولي وكذلك الخارجية الأمريكية في القائمة السوداء التي تحوي الدول التي لم تتخذ الإجراءات الكافية والكفيلة بمنع ممارسات "الاتِّجار بالبشر"، والجميع يذكر تلك الجهود المحمومة التي تنادت مختلف مؤسسات الدولة للقيام بها لدفع تلك (الفرية) وإلقاء الكرة في ملعب الآخرين وتأكيد أن عُمان "جنة الله في أرضه" ولا اتجار بالبشر فيها!، ولا تزال هذه الحملة متواصلة فصولاً حتى الآن، ولا ينتظر أن تهدأ وتيرتها حتى يتم الحصول على (شهادة البراءة) و(صك الغفران) من المؤسسات الدولية إياها التي صدرت عنها الإدانة!.
إن من أكثر مؤسسات الدولة في عُمان ضربًا بالمبادئ السامية والمثل العليا عرض الحائط وركلاً لحقوق الإنسان وممارسة لأفعال التمييز العنصري بين المواطنين (وزارة الداخلية) التي ابتليت بمسؤولين لا يفقهون تبعات ومسؤولية (المواطنة الحقة)، إذ ما زالت تسكن أدمغتهم الصدئة وتقيم في عقولهم المريضة نزعات الإقصاء والإلغاء والتبعية، ولو كان ثمة خير في هذه الوزارة لما انهار مبناها دونًا عن جميع مباني الوزارات الأخرى السابقة عليها واللاحقة في حي الوزارات بالخوير.
وأما عما يستوطن ه
ذه العقول المتخلفة عن ركب المدنية والتحضر فحدِّث ولا حرج، وما خبر التزويرات التي حصلت في انتخابات (مجلس الشورى) الأخيرة عنا ببعيد رغم استماتة مسؤولي هذه الوزارة قبل الانتخابات وبعدها في الترويج لـ"مدى النزاهة" التي اتسمت بها هذه العملية، وتعكس هذه التزويرات في جانب منها مدى الفساد الذي يعشش في هذه الوزارة، وما هذه الواقعة إلا مثال فقط على حجم التضليل وطمس الحقائق في إحدى مؤسسات الدولة (السيادية)، وهو ما يعد في حد ذاته كافيًا وزيادة للإطاحة بمن يقف وراء ذلك ويعد سببًا وجيهًا لمغادرته منصبه قياسا بما يجري في الدول المتمدنة والمتحضرة من مكافأة المبدع ومحاسبة المقصر، ولكن إن عاجلاً أم آجلاً سيأتي الوقت الذي ستُكتشف فيه الحقائق وستفوح الروائح التي تزكم الأنوف!.
وفي الوقت الذي كان يتوجب فيه أن تسعى هذه الوزارة إلى الإعلاء من قيم التسامح والتعاضد وتقوية أواصر المواطنة واللُّحمة بين المواطنين تعزيزًا للوحدة الوطنية كما نص على ذلك "النظام الأساسي للدولة"، وكما تقضي بذلك اعتبارات قيام الدول واستمرارها واستقرار المجتمعات وتحضرها، إذا بهذه الوزارة تكرس لواقع أليم مختلف تمامًا يصب في اتجاه "التمييز العنصري" وإحياء النعرات والعصبيات القبلية عبر الإقدام على إلغاء مسميات بعض القبائل التي تعد أكثر قدمًا وعراقة من دهاقنة ما يسمى بـ"لجنة تصحيح مسميات القبائل والألقاب والأسماء" التي تتبع هذه الوزارة ويشارك في عضويتها ممثلون لبعض الجهات النافذة في الدولة والتي تتجلى مهمتها الأساسية في "تنقية الأصول والأعراق العُمانية" وصولاً إلى إيجاد "عرق نقي" يكرس ما يتسم به المجتمع العُماني من "خصوصية"!.
إن ما يدمي القلب ويبعث على التقزز والغثيان هو أن تنصب هذه ("اللجنة") من نفسها (حاكمة بأمرها) فتصدر ("توصيات") تنال مباركة وزير الداخلية تتضمن إلغاء مسميات قبائل قائمة ومعروفة منذ أمد بعيد بزعم (تصحيحها) وإجبار من ينتمون إليها إلى حمل مسميات قبائل أخرى رغم إرادتهم ورفضهم واستنكارهم الشديد لذلك، بل إن الأدهى في الأمر هو استناد هذه (اللجنة) عبر توصياتها إلى أكاذيب وأباطيل ومزاعم لا حقيقة لها أبدًا.
ورغم تفنيد وتكذيب المتضررين من هذه التوصيات الكاذبة، ورغم تقديمهم ما يدحض أكاذيب هذه الوزارة ولجنتها، "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون"، ومع أن الكذب والتزوير ممارس وبشكل رسمي هنا من قبل هذه الوزارة ولجنتها "أيتها العير إنكم لسارقون"، بالرغم من ذلك لا يلتفت إلى صراخ وصيحات المتضررين الذين تم الاستفراد بهم وظلمهم والتضييق عليهم اعتصامًا بـ"أعمال السيادة"، وكأن ما يصدر عن هذه (اللجنة) أمر لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكن الله سبحانه وتعالى تكفل بالدفاع عن المظلومين ورد كيد الظالمين في نحورهم "ستكتب شهادتهم ويسألون".
إذا كانت (وزارة الداخلية) استنادًا إلى العقليات المريضة التي تُسيِّر شؤونها تنتهج مثل هذا النهج الفاشي، فقد كان يجدر بالجهات الأخرى الممثلة في تلك (اللجنة) وهي جهات متنفذة في الدولة أن تعترض على هذا الأسلوب المتجني والظالم، وأن تقول كلمتها لا أن يكتفي ممثلوها بالتوقيع على محاضر الاجتماعات بصرف النظر عما تتضمنه من تقرير لمصائر الآخرين عبر إساءة معاملتهم وتطبيق معايير لا إنسانية بحقهم تكرس نزعة التمييز العنصري، لا سيما وأن من بين هؤلاء الأعضاء من يعرف حق المعرفة أشخاص من تعلقت بهم تلك (التوصيات) سيئة الذكر، وأنه لا صحة على الإطلاق للمبررات التي استندت إليها هذه اللجنة البائسة في إلغاء قبائلهم!.

- التفرقة بين الناس في عُمان والتمييز العنصري بينهم باسم الدين:

لقد أكرم الله أمة العرب بالدين الإسلامي الحنيف الذي جاء به من عند الله الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والذي بفضله أخرج الله العرب من ظلم وجور الجاهلية إلى عدل ونور الإسلام، ولكنَّ تَفرُّق المسلمين شيعًا ومذاهب "كل حزب بما لديهم فرحون" أساء في بعض الجوانب في فهم الإسلام كدين سماوي خاتم جعله الله للعالمين والإنسانية جمعاء يساوي بين الناس ويحصر مجال التفاضل والتمايز بينهم في تقوى الله فقط "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم..."، ولكن عوضًا عن ذلك فإن الدين في عُمان يُجيَّر للتفريق بين المرء وزوجه ولتكريس (عدم التكافؤ بين الناس لاعتبارات النسب)، حيث إنه وتعويلاً على حديث منسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أورده مسند الإمام الربيع بن حبيب والذي ينظر إليه باعتباره "أصح كتاب بعد القرآن الشريف"، ونص الحديث الوارد في (كتاب النكاح، 24- "باب في الأولياء) هو: 315 " أبو عبيدة عن جابر قال....، وقال صلى الله عليه وسلم: " الأحرار من أهل التوحيد كلهم أكفاء إلا أربعة: المولى، والحجَّام، والنَّسَّاج، والبقَّال"، وتطبيقًا لهذا الحديث فقد أخذ بذلك "قانون الأحوال الشخصية" العُماني الذي نصت إحدى مواده على ما مفاده أنه يرجع في قضايا الزواج إلى الدين ثم العرف، وبذلك فإنه إعمالاً لهذا الحديث وتطبيقًا لما يسمى بـ"عدم الكفاءة في النسب" فإنه يمكن التفريق بين المرء وزوجه وتطليق زوجته منه بحكم القضاء والقانون إذا ما طلب ذلك أحد أولياء الزوجة يزعم أنها "تعلو في نسبها نسب من تزوجها" تطبيقًا لمبدأ "عد
م التكافؤ في النسب". ويمكن القول باطمئنان إنه وفي ظل فهم وإدراك المقاصد الكلية للدين الإسلامي الحنيف التي تؤكد عدالة الله سبحانه وتعالى ومساواته بين خلقه فيما يتصل بالخلق والأفضلية عنده، أما ما يتعلق برفع بعضهم فوق بعض درجات فإن ذلك مقتصر على مجال العلم والمال والرزق ولا شيء آخر، وتبعًا لما جاء به الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- وعمل به من مبادئ، وما جاهد في سبيل إقامته والحفاظ عليه وهو القائل "المسلمون تتكافأ دماؤهم"، يمكن القول باطمئنان إن هذا حديث مكذوب، وهو من الأحاديث التي يُبرَّأ ويُنزَّه رسول الحق والهدى والخير والإنسانية عن قولها، ولا يعد بأيِّ حال من الأحوال إنكار حديث مشكوك فيه كهذا من قبيل إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة حتى تثور ثائرة بعض المتنطِّعين فترتفع عقيرتهم وكأنه تم انتهاك حرمة من حرمات الله عز وجل، مع الأخذ في الاعتبار بأنه لا يوجد إجماع بين المذاهب الإسلامية وعلماء المسلمين على ما يسمى بـ"الكفاءة في النسب"، كما ينبغي عدم إغفال أن الكذب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونسبة أحاديث كثيرة إليه هو بريء منها، يعد حقيقة واقعة، وهو القائل "من كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوأ مقعده من النار". كما ينبغي ألا يفوتنا أن السنة النبوية الشريفة لم يبدأ تدوينها إلا بعد قرنين من وفاة الرسول في ظل امتناع الصحابة رضوان الله عليهم عن تدوينها حتى لا تختلط بالقرآن الكريم، وقد اجتهد بعض العلماء في القرنين الثاني والثالث للهجرة في تدوين السنة الصحيحة وتنقيتها من الأحاديث الموضوعة والأقوال المنسوبة إلى رسول الله والخالية من السنة، بل يسيء بعضها إلى مقام النبوة.
وتأسيسًا على ذلك فإن الحديث المشار إليه الذي أورده الربيع في مسنده المنوه عنه مردود وينبغي عدم الأخذ به وإن تنطع بعضهم، وفي أسوأ الأحوال يجب ألا يتعدى وجوده تضمُّن ذلك المسند إليه دون العمل به وإشهاره سلاحًا ضد "حقوق الإنسان"، وحتى لا يكون العمل به سببًا في استمرارية التطبيق السيئ لتعاليم وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومنعًا من أن يؤدي ذلك إلى المقارنة بشكل جائر بين دين الله الخالد والصادر عن رب العزة على نحو لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وبين مواثيق وعهود حماية حقوق الإنسان ومنها "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" الصادر عن منظمة الأمم المتحدة، بحيث يخلص من يجري هذه المقارنة وكأن هذه المواثيق والعهود أكثر عدالة من دين الله، وحاشا لله ولدينه أن يكون الأمر كذلك!.
ومن هنا تبرز مسؤولية من يوصفون بـ ("العلماء") في البلاد والذين تقع على عاتقهم مسؤولية تنقية ممارسات الدين من أية شوائب، وإن امتنعوا عن ذلك فما أقاموا شرع الله ولا أدوا رسالتهم كما يجب؛ إن على هؤلاء (العلماء!)، لا سيما أولئك الذين تلقوا دراسات في الخارج ونالوا شهادات علمية وبلغات غير العربية كـ"الإنجليزية" و"الألمانية" وغيرها، حتى يمكنهم الدعوة إلى دين الله والتحاور مع غير المسلمين من غير الناطقين بالعربية أن يوجهوا عنايتهم إلى مثل هذه المسائل التي تُحدِث الشرخ في بنيان الأمة، وأن يضعوا في اعتبارهم أنه إذا كان الحوار والتلاقي على كلمة سواء بين المسلمين وغيرهم في ظل "حوار الحضارات" يعد أمرًا مهمًّا وضروريًّا في الوقت الراهن، فإن الحوار ومد جسوره مع أهل الملة الواحدة، وصولاً إلى لملمة الصفوف وتقوية اللُّحمة، يعد أولَى وأكثر إلحاحًا، مع الأخذ في الاعتبار أن من ركائز الحوار الاعتراف بالآخر وعدم إصدار الأحكام الجاهزة والمعلبة كالتجهيل والتكفير والإقصاء ومصادرة فكر الآخر.
وندعو الله أن نكون في غنى عن أن نردد وراء القائل:
أيها العلماء يا مـلــــــح البلــــدْ من يُصلِحُ المِلْحَ إذا المِلْحُ فسدْ؟
بالملح نصلح ما نخشى تغيُّرَهُ فكيف بالملح إنْ حلَّتْ به الغِيَرُ
ولكننا واستشعارًا لثقل المسؤولية ورغبة في إبراء الذمة هذه دعوة لكم لتغيير هذا الوضع الشاذ وغير الطبيعي والمشوه للوجه الإنساني للإسلام، وإن لم تفعلوا فلا نملك عندئذ إلا أن نرفع صوتنا مرددين:
هذا إبلاغ لــــكم والبعث مـــوعدُنا وعند ذي العرش يدري الناس ما الخبرُ

- القانون والقضاء وحقوق الإنسان في عُمان:

إلى جانب صدور أحكام قضائية من قبل المحاكم في عُمان بالتفريق بين بعض الأزواج وزوجاتهم لاعتبارات "عدم التكافؤ في النسب" بينهم تطبيقًا لما نص عليه "قانون الأحوال الشخصية" الذي بدوره يستند إلى الحديث الوارد في "مسند الربيع بن حبيب"- كما سلفت الإشارة- فإن هناك بلية أخرى ابتُلي الناس بها في عُمان وهي ما يسمى بـ"أعمال السيادة"، ومضمونها أن ثمة أعمالاً وإجراءات تدخل في اختصاص بعض الجهات، ومنها (وزارة الداخلية)، إذا لم تتعلق هذه الإجراءات بالموظفين العاملين في هذه الجهات فإنها تعد أعمال سيادة، وبذلك فإنه وحتى إذا ما تم الاعتراض عليها من قبل المتضررين منها عبر لجوئهم إلى القضاء لإبطال مفعولها، فإن القضاء بموجب ذلك يحكم بـ"عدم الاختصاص".
لقد قام المتضررون من إجراء (وزارة الداخلية) الظالم والجائر والشائن والقائم على أكاذيب ومزاعم باطلة برفع دعوى لدى "محكمة القضاء الإداري" مفندين تلك الأكاذيب والمزاعم بالوثائق والأدلة والبراهين، وهم بقيامهم برفع تلك الدعوى قد استندوا إلى ما جاء في "النظام الأساسي للدولة" من أن حق التقاضي م
كفول للجميع، وأن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، وأخذًا في الاعتبار أن "القضاء لا سلطان عليه"، وأن "اللي يروح للقاضي يرجع راضي"، لكن مع كل أسف جاء حكم القضاء مخيبًا للآمال، حيث أصدرت محكمة القضاء الإداري حكمها في القضية بعدم الاختصاص، ومع التسليم بأن "العدالة عمياء"، بمعنى أنها تحكم بنصوص القانون بصرف النظر عما إذا كانت هذه النصوص محققة للعدالة أم لا، إلا أنه من المعلوم أن من واجبات القضاء تقدير ما إذا كانت القرارات والإجراءات المطعون فيها تعد من أعمال السيادة أم لا وتبعًا لذلك إصدار الحكم المناسب- خاصة وأنه لا يوجد تعريف أو تحديد لـ"أعمال السيادة" على سبيل الحصر- وليس اعتبار كل ما يصدر عن الجهة المصدرة لتلك القرارات والإجراءات "محصَّنة"، وبالتالي فإن ما يصدر عنها يعد "أعمال سيادة"، وبصرف النظر عما إذا كان قد روعي من خلال تلك القرارات والإجراءات "المصلحة العامة" من عدمها، علمًا بأن مراعاة وصيانة هذه المصلحة هما الرئيس وراء وجود ما يعرف بـ"أعمال السيادة".

المتضررون يتطلعون إلى ما سيُسفر عنه حكم الاستئناف

المتضررون يتطلعون إلى ما سيُسفر عنه حكم الاستئناف


لطالما أساءت "وزارة الداخلية" استخدام "صلاحية أعمال السيادة" في ظلم الناس والإساءة إليهم، مشهرة بذلك هذا السيف في وجوه أصحاب الحق، ضاربة عرض الحائط بكل مبادئ العدل والحق والخير والإنسانية والمساواة، وما كان لها بالطبع أن تلجأ إلى هذه الصلاحية لو أن مسؤوليها واثقون من أنفسهم ومطمئنون إلى أن ما يفعلونه هو الخير والصلاح، ويظهر من خلال استخدام هذا ("الفيتو")، وهو إن عبر عن قوة ظاهرة لدى من يُشهره في وجه غيره إلا أن باطنه يدل على مقدار الضعف و"حيلة العاجز"، وما "أعمال السيادة" إلا كلمة حق كثيرًا ما أريد بها باطل.
إن المشرع عندما أعطى صلاحية وميزة "أعمال السيادة" لبعض الجهات افترض استخدام هذه الصلاحية في إحقاق الحق وإبطال الباطل وتحقيق المصلحة العامة، وليس الإضرار بالناس وظلمهم والتعدي على حرياتهم وسلب حقوقهم. ومن هنا فإن على المشرع أن يضع الآليات والإجراءات الملائمة للتحقق من "عدم التعسف في استعمال السلطة" و"عدم إساءة استعمال الحق" من قبل هذه الجهات، خاصة وأن الأحكام الصادرة والمعولة في صدورها على أن القرارات والإجراءات المطعون فيها تعد "أعمال سيادة" تصدر باسم المُشرِّع، وبالتالي فإنه في حال عدم توخِّي هذه الأحكام تطبيق العدالة تحقيقًا للمصلحة العامة فإن من شأن ذلك أن ينطوي على إساءة بالغة إلى المشرع والزَّجِّ باسمه في صدور أحكام ليست عادلة.
كثير من دول العالم المتحضر والمتمدن تجاوزت ما يعرف بـ"أعمال السيادة"، إذ يتجه الفقه القانوني إلى أن المحاكم هي صاحبة الاختصاص في تقدير ما إذا كان العمل المعروض أمامها يعد عملاً من أعمال السيادة أم لا، فمن الحكم الصادر بتاريخ 29 يونيو 1963م قررت المحكمة الإدارية العليا في مصر أنه من المُسلّم به أن "للمحاكم سلطة تقرير الوصف القانوني للعمل المطروح عليها وما إذا كان يعد عملاً إداريًّا عاديًّا أو عملاً من أعمال السيادة". (انظر كتاب وسيط القضاء الإداري للدكتور أنور أحمد رسلان- عميد كلية الحقوق- جامعة القاهرة).
وإلى جانب ما نصَّت عليه القوانين من "كفالة تقريب جهات القضاء من المتقاضين وسرعة الفصل بالقضايا" فإن "كفالة حق التقاضي لكافة المواطنين، وذلك بأن يكون لكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي". (انظر كتاب القضاء الإداري والرقابة على أعمال الإدارة للدكتور محمود سامي جمال الدين- عميد كلية الحقوق في عُمان حاليًّا).
وبناءً على ذلك يحق للمرء أن يطرح تساؤلاً على "محكمة القضاء الإداري" وهو: إذا كان حكمك هو عدم الاختصاص فإلى أين يذهب المرء كي يرفع دعواه؟، أم أنه لا سبيل أمامه حينئذ إلا تمثُّل قول القائل:
إذا حُمَّ القضاء على امرئ فليس له بَرٌّ يقيه ولا بحرُ!
وقد "هاجم الفقه المصري نظرية أعمال السيادة منذ زمن بعيد، خصوصًا القرارات أو الأعمال التي كانت بعض القوانين والقرارات الجمهورية بقانون تنص على اعتبارها من أعمال السيادة، ولقد استجاب المشرع الدستوري لنقد الفقه، فنص في المادة (68) من دستور 1971م على ".. حظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء"، "وقد جرى قضاء المحكمة العليا على الحكم بعدم دستورية أي نص قانوني يحرم المواطنين من حق التقاضي".
وبهذا أصبح القاضي هو المرجع الأول في تقرير ما إذا كان العمل المعروض عليه عملاً من أعمال السيادة أم لا. (انظر كتاب رقابة القضاء على أعمال الإدارة للدكتور محمد محمد بدران- كلية الحقوق- جامعة القاهرة).
وإذا كان الأمر كذلك فإن الأمر بالنسبة إلينا في عُمان يتطلب إعادة النظر سواء على صعيد إعادة النظر في التشريعات والقوانين بتعديلها أو على مستوى وظيفة القضاء بأن تكون له كلمة في هذا الأمر تأ

المتضررون يتطلعون إلى ما سيُسفر عنه حكم الاستئناف

هنا مقبرة المجتمع المدني.. هنا عبقريات الأصل والفصل والعرق النقي