16 أبريل 2008

قنبلة أحمد عبد الملك الصوتية!

رواية "القنبلة" للأديب القطري أحمد عبد الملك
رواية "القنبلة" للأديب القطري أحمد عبد الملك
محمد العباس

بعد أن يُخضع مجتمعه لقراءة تشريحية ساطية معرياً عيوب ومثالب الحياة/الهوية الخليجية الحديثة، يتراجع أحمد عبدالملك في نهاية روايته "القنبلة" عن كل ما استعرضه من مظاهر الاختلال الروحي والمادي في حياة عائلة قطرية، فيما يبدو إشفاقاً على تلك الذات من مكاشفتها بالحال والمآل اللذين انتهت إليهما، أو ربما لإبداء شيء من الأمل بإمكانية ترميم الخطأ، إذ يحيل كل عطالتها وبؤسها الحياتي إلى حالة فصامية، لا إرادية، ولا واعية، مردها مرض ازدواجية الشخصية (Double Personality ) التي تلبست بطلة الرواية "حياة" بمن هي - كامرأة - الصورة التصفيحية لمعنى وجدوى الحياة كما يحيل اسمها، وبما تستبطنه الرواية من دلالات في هذا الاتجاه، فكل ما تم سرده من تشوهات فادحة مجرد أعراض لوهن مجتمعي طارئ يمكن الشفاء منه، بمعنى أن الخراب الذي تولَّد عن عصر الثراء الذي أعقب اكتشاف النفط، بما هو نسق ناظم للحياة المادية واللامادية للإنسان الخليجي، لم يصل بعد إلى الحد الذي لا يمكن تفاديه.


وإذا ما تمت مساءلة ذاته التي أنتجت الرواية، التي تقيم هي الأخرى في حالة مزمنة من الإنكار كشكل من أشكال التماهي مع أبطال الرواية، يتبين أن ليس ثمة قنبلة اجتماعية حقيقية قابلة للانفجار، بل مجرد إنذار بإمكانية وجودها، أو ربما أرادها قنبلة صوتية لإثارة حالة من الفزع الاجتماعي، وتصعيد الإحساس بخطر فقدان الذات وضياع الهوية، إذ لم يغادر "ناصر" بيت الزوجية إلى امرأة أخرى على الرغم من اشتهاءاته وانحرافاته الواعية واللاواعية، ولم تسمح "حياة" لرجل آخر باقتحام مخدعها، على الرغم مما أبدته من شبق متأصل بسبب إقامتها في جسد أرادت به مناددة الحياة. ولا يعدو الأمر كونه وشاية من الخادمة "كاترين" أو مجرد شكوك ومراودات نتيجة فتور العلاقة فيما بينهما، والصقيع الذي يلف حياتهما وسط حاضن مادي يخلو من الدفء، حيث لم تقترف الخطيئة بشكل فعلي، وعليه فلا خوف من الكارثة كنتيجة حتمية حسب التصور الشكسبيري، أو هذا ما تعكسه طبيعة السرد من حيث تماهي الراوي مع المروي له والمسرود له في آن.

هكذا يبدو الأمر مجرد تمرين على التطهُّر، أو إعادة تمثيل طقس الخطيئة على الورق، حيث تقف "حياة" في مستهل الرواية قبالة الكعبة "في حضرة الله". ومن تلك الحافة الإيمانية يرتد إلى الوراء بسرد استذكاري ليعدد جملة من مظاهر التردي النفسي والجسدي والاجتماعي، ولكنه يتنازل عن معطيات الواقع، انتصارًا للعبة إيهامية، خوفاً من التجابه مع الحقيقة، أو ربما تلويحاً بخطر يمكن نزع فتيله، فالرواية المسرودة بصوت امرأة، ووعي ذات مثقفة وواعية بخطورة واتساع وعمق التحولات الاجتماعية، تعكس في شعورها ولا شعورها مأزق مثقف لم ينفصل كسارد عن شخوصه داخل السرد، إذ يعيش من خلال تورطه في الرواية إشكالية معلنة مع المجتمع، والموروث، والثقافة، والمؤسسة، والعقائد، والهوية، فهو- كمثقف- مريض في مجتمع مريض، حسب تحليل لوسيان غولدمان للعلاقة الاستبدالية بين الكاتب ومجتمعه في كتابه "الإله الخفي" حيث تكتسب الذوات العارفة عدوى علاتها من الحاضن الاجتماعي وتصارعه بمضاداتها في آن، كما يتوضح ذلك من انفصامه هو الآخر بما يبدده من رؤية إحباطية مركزية ناتجة عن سقوطه في اللاوعي الجمعي الذي قام مقام الوعي لحظة إنشاء نص "القنبلة" حيث يتجلى ذلك التيه فيما يدوِّنه في مفكرته الحمراء إزاء علاقته بحياة "هل أحب أنا هذه المرأة؟ أنا لا أستطيع تحديد مدى حبي أو كرهي أو عدم اهتمامي بها!".

ويبدو أنه قد اختار الجنس لتفسير التحول الدراماتيكي في حياتهما، على اعتبار أنه مفتاح الحقائق، بتصور ألبرتو مورافيا، فهو زاوية نظر مثل عدسة الكاميرا، وهو بمثابة اختيار زاوية للنظر إلى الأشياء، وعبر النظر إلى أشياء الجنس نرى كل الأشياء الأخرى. وهو الأمر الذي يتوضح بشكل أكثر صراحة أو بما يشبه الصدمة، ليس في استعراض مظاهر التفسخ الاجتماعي، واختلال الميزان القيمي وحسب، ولكن من خلال تعلُّقه وانئساره لزوجته "حياة" الموبوءة بنزق بوفاري لا شفاء منه، بالرغم من كل الأوجاع العاطفية التي خلَّفتها في روحه وجسده، كما يبدو ذلك جليًّا في عباراته التي تنم عن اعتناق عاطفي غير مشروط "لقد لوَّنت هذه المرأة حياتي بطلاء الشك. وقضينا خمسة وعشرين عاما نتلذذ ونتعذب بلعبة القط والفأر ... كم أحببت هذه المرأة؟ وكم تحملت أفكارها وتصرفاتها. كان هنالك رابط قوي بيننا لم تقطعه تصرفاتها وشكوكي بها ومواقفها المشينة أحيانا. لم أكن لأطيعها وأطلقها. من يطلق روحه؟ ومن يجتث يده أو عنقه عن جسده".

أن تحب امرأة مع رغبة ألا تخونك، حسب ألبرتو مورافيا، يعني أنك لا تحبها،
وإذ تحبها، يعني أن تحبها بكل رغباتها تجاه الآخرين، وبكل أخطائها، وهنا بالتحديد مكمن الانفصام الذي عاش على حافته "ناصر"، فزوجته حياة بنت الحاج عبدالرحمن زعيم القبيلة الكبيرة، وبكل ما فيها من إسقاطات تحيل إلى الاجتماعي، تعي تعلقه بها رغم كل زلاتها، كما توحي بذلك اعترافاتها "كان يضربني ويهجرني ويطردني من المنزل، لكنه من الداخل يحبني ويغار علي بشكل جنوني... أحيانا يتراءى لي أنني لا أعرفه! بل ولا تربطني به أي علاقة". وربما نتيجة ذلك اليقين المشوب بالاعتداد واليأس كانت تتعمد (فرنسة) طلتها، وتنتشي باختلاسات الآخرين لقوامها. وكانت تشتهي صديقه مشعل على وجه الخصوص، حيث افتعلت حركة غامضة لملامسة أصابعه بحجة مناولته فنجان القهوة "لقد جذبني شكله الأنيق وبشرته السمراء. زوجي أبيض البشرة وأنا أموت في السمر لأنني أصلا حنطية اللون".
أحمد عبد الملك
أحمد عبد الملك

حياة، التي أدمنت السهر عند "أم علي" مترنحة على أنغام الأغاني الراقصة، ومشاهدة المحطات الزرقاء في آخر الليل، فيما يعتقل ابنها منصور لارتباطه بنشاط محظور، يهجرها زوجها بالأسابيع ولا يلتفت إلى صدرها ولا إلى أعطافها المشتهية، ولا يشبع ارتجافاتها المخبوءة، ولذلك تفرح وتندهش في الآن نفسه من ضياع أناها، حين ينغرم بها سائق لا تكف عن التغني بأنفه الأفريقي وعينيه الواسعتين وأسنانه البيضاء، وطالما حلمت باتخاذه عبداً جنسياً، كما تتمتم باستيهاماتها "كانت أم علي ترسله لي ليأخذني إلى منزلها ويرجعني للمنزل بعد انتهاء السهرة. في بداية المشاوير كنت صامتة في السيارة وكانت عطوري دون أن أدري- تتحدث عني. كنت أغطي وجهي بغلالة رقيقة دون أن تخفي ملامحي. كنت أتعمد أن يراني رجل بكامل جمالي".

هكذا ينمو السرد من خلال جسد ظامئ تلوِّح "حياة" بسمرته ونعومته من وراء ملابسها الشفافة، لتغري أي رجل يمر بمحاذاتها، إذ لا تتصور مباهجها مدَّخرة أو منذورة لرجل واحد لا يأبه بها. وبمنتهى الجسارة والإغواء تدس ذلك الأقنوم الأنثوي داخل السرد ليترافع دفاعاً عن انحلاله، وعن حقه في الارتواء، حيث تحاكم- كأنثى- عقيدة ومسالك زوجها الذكورية، لتحمِّله جريرة إماتة حواسها "يأتي منهكاً من رحلة طويلة ولا يسمعني سوى قصص التجارة والصفقات. وأنا الثورة تشتعل تحت جلدي. يأتي يضاجع السيجار بدلاً مني، ويلثم الكأس بدلاً من شفتي!! رجل لا تفيد معه كل العطور الشرسة ولا الألبسة الفضائحية المغرية، ولا المكياج الصارخ ولا الحركات الابتذالية. لقد تجمد هذا الرجل جمود الجدران في المدينة العتيقة! وداهمته شيخوخة مبكرة رغم عدم تخطيه الخمسين".

هكذا يبدو الجسد لغة سرد محورية، فمقابل جسدها المحروم من التماس بقرينه الذكوري، العاجز عن تأجيج أنوثتها، الذي أودى بصاحبته إلى المصحات النفسية، ثمة جسد آخر يدافع هو الآخر عن برودة أطرافه وخبوء جذوته، جسد "ناصر" اليائس منها كوعي وكمكمن للذة، حيث اضطر إلى إشهار تذمره "أنا لا أستطيع أن أمارس الحب مع امرأة رددت أكثر من عشرين مرة طلقني.. طلقني.. طلقني... لا زالت هذه المرأة لا تفهمني. بل ولم تتثقف جنسياً. وهذا ما حدا بي إلى الخوف وتحاشي ممارسة الجنس معها لدرجة كبيرة. علماً بأنني سأكون من الفحول خارج الإطار الشرعي... عندما تستقر بجانبي ملحّة، يأخذني شوق جارف لاحتضانها واللعب معها. كان صدرها كريما مع شفتي. نظافتها تجعلني غير نظيف أمامها. كلها كانت تشكل وجبة شهية. لكن روح الاشتهاء ماتت بداخلي وجعلتني أصدق أن إحداهن قد عملت لي عملا!!".

إنه حوار شرسٌ بين وعيين وشعورين، وليس بين جسدين وحسب كما قد يبدو، فحياة مستعدة لإجراء عشرات العمليات التأهيلية للتقرب من ناصر، كما صارحته بذلك، لكنه كان يستشعر الخواء في مكان آخر، أي في الوعي والأحاسيس والشعور وليس في الجسد المكتظ بالرغبات، فبعد أن أجرت عملية إعادة تأهيل جنسي نتيجة إيماءة عابرة منه، كتب في مفكرته الحمراء "حاولت كثيراً التلميح لها بأن نجاح العملية ليس في ما بين الفخذين بل في داخل الجمجمة، لكنها تؤمن بمشاهد حفرتها الأيام في جمجمتها ولم تمحها حتى اليوم!" الأمر الذي لا تنكره حياة، وتقف حائرة ومقهورة أمام وضعهما المتفاقم "بعد خمسة وعشرين عاماً كان ناصر بعيداً عني بمقدار كلمات الكتب التي تتزاحم في مكتبته. كنت بعيدة عنه بطول خيوط الملابس التي أفصلها كل أسبوع، وبمقدار الأصباغ التي أضعها على وجهي".

قد يبدو نص "القنبلة" في شكله الانبساطي مجرد حكاية مجتمعية مزدحمة بذوات تحاول أن تجد مخرجاً لفتورها العاطفي، ولكن وراء هذا التجابه الجنسي الحاد دلالات اغتراب أعمق، حيث يستفز التأزم الحاصل مكوِّنات الهوية المادية والروحية، كالاعتداد بالجسد الأسمر مثلاً، الذي يتم التلويح به كعلامة جاذبة من علامات الشخصية المؤمكنة، تماماً كما تبالغ "حياة" في التباهي بأصلها القبلي، وقيم البداوة، حتى الإصرار على توظيف الحوار باللهجة القطرية فيه من دلالات التأصيل وتعزيم الهوية، حيث تستدعى كل تلك المركبات العضوية كأ

ليست هناك تعليقات: