ملف تأبيني أعدَّه: سالم آل تويه
اليوم ذكرى وفاة فايزة اليعقوبي، الباحثة والمشرفة الثقافية وكاتبة القصة القصيرة والصديقة التي تخطَّفها الموت باكرًا قبل سنتين مع ابنها وزوجها في حادث سير فاجع.
في كتابها الصادر مؤخرًا أسئلة وتساؤلات وعلامات استفهام وموت.
هل علينا هنا أن نتجاهل تلك الإشارات؟
كثير من الناس يموتون، ولأننا لا نعلم بدنو موتهم ولا نرى أيَّ إشارة إليه فإننا سرعان ما نتساءل ونتذكر ونصاب بحنين ضاغط ثقيل حالما يُصبحون في عداد الأموات، وليس بعد زمن طويل فحسب، ولذلك نقول كما في القناعة الشعبية غير القابلة للتفلسف والاستعراض: كان يحس بقرب موته.
فرق شاسع بين الميت والحيِّ؛ إن ما نقوله عمَّن مات ربَّما ما كنَّا لنقوله عنه أبدًا لو أنه ما زال على قيد الحياة؛ الموت هنا هو المحرِّض والنَّابش والباعث والمنطلَق.
يتعطَّل النقد وتعمل طاقة الحنين، لكن هذا ليس صحيحًا حتَّى النهاية.
كتبت فايزة في نص "ارتطام": "ومَنْ حولي كانوا أشد ألما في الفترات السابقة، لأنهم لا يفهمون إلا لغة الدَّفن، لا يعلمون أن الميت إنسان يرتفع بين أيديهم ولكنه فوق رؤوسهم. لا يسمعون تراتيل السماء فلا يصلون إلى صدى الحقيقة المطلقة لأنهم يحملون أقنعة واقية عن تقرحات البشر وأصوات الاستغاثة التي تأتي من اللامتناهي".
يحضر الموت بقوة في "سغب الجذور"، ورغمًا عن الدعوة إلى الفرح وألوان البهجة التي تُصدِّر بها فايزة أوَّل نصوص مجموعتها التي رأت النور بعد وفاتها ("وإذا كان علينا أن نعيَ أن الحياة مليئة بالاختلاف والتغيير فإن ألوانها السبعة هي الأمل والحب والسفر والأماني والفن والطبيعة والعمل... فلماذا يا قريتي لا تعشقين الحياة فإن الحياة ألوان....")، رغمًا عن هذا، ورغمًا عن تذكر أصدقائها روحَها المرحة، ولقاءها بهم كلَّما جاءت من مسقط رأسها عبري إلى مسقط وفي يدها الحلوى، تبقى روح كتابتها مأسورة بالتساؤلات القلقة، ويبقى الموت ملحًّا: "تتردد فكرة الموت كثيرًا، وصار متخيلا في ذهني أكثر من أيِّ لحظة أخرى؛ إنه الاسم المضاد للأزلية، الموت في منتصف تشرين الأول أفقدني تلك الروح الباردة الجافة، الروح التي لا تستجيب للحب، الروح الخواء التي لا تستطيع الاحتفاظ بالأصدقاء؛ لأن الحب دائما يضيع في تلك اللحظات التي تشتد فيها حاجتنا إليه، ويحل مكانه الخوف".
السرد في "سَغَب الجذور" يأتي في هيئة لقطات أحيانًا، ويبتعد عن أن يكون قصة في أحيان أخرى ويتكثَّف كنصٍّ مفتوح ويقترب من البوح والإفضاء الحميمي. على القارئ أن يستدرك أحيانًا ويشارك في بناء المناخات والأجواء لأن النص يثير فيه ذلك بسبب عدم إفصاحه، وبسبب توقفه عندما يكون التوقف حرجًا، وكأن النصَّ أفضى إلى الواقع، كأنهما اسمٌ على مسمًّى!
في عام السخافة الذي مرَّ مرور اللِّئام ودَّعتنا فايزة للأبد. من حسن حظِّها أنها لم تقترب كثيرًا من الوسط السخافي المريض؛ من حسن حظها أنها لم تقترب كثيرًا من (الكبار) و(العمالقة) ومن حسن حظِّها أنها ظلت بعيدة عن "النخبة"!
في ذلك العام السيئ الذكر، وفي خضم رحيل فايزة كان تلفزيون سلطنة عُمان الملوَّن يبث برنامج "آفاق ثقافية" الذي تفتقت فكرته وانفجرت بعد توقيع عدد من الكتاب والمثقفين العُمانيين بيان تبرؤ من فعاليات مناسبة مسقط عاصمة السخافة العربية، فجن جنون بعض المسؤولين وسارعوا إلى استقطاب أكبر عدد ممكن من الكتاب للتعاون في إعداد البرنامج، وخاصة أولئك الموقعين على البيان، وذلك للحيلولة دون استفحال عدد الموقعين، ولتأكيد أن الأمور "تمام" عكس ما جاء في البيان! وقد مثَّلت وفاة فايزة صدمة لكل من عرفها عن قرب، وكمحاولة للقيام بتأبين لائق جرى إعداد فقرة موسعة في برنامج "آفاق ثقافية" بحيث تغطي الحدث في ما لا يقل عن عشرين دقيقة مع الاهتمام بتكثيف المادة المقدمة فنيًّا، إلا أن إدارة البرنامج رفضت ذلك، بل وتجاهلت الأمر من منطلق: من فايزة هذه!
إننا هنا لا نريد تثوير ما لا داعي له، لأننا أساسًا نعلم قدر الركاكة الكبير الذي يعمل أولئك الذين يمارسون الإقصاء والتهميش على قاعدته، ولا نستغرب صدور ذلك من التلفزيون الملوَّن إيَّاه الذي وضع لنا بندًا غريبًا عندما تعاملنا معه بالخطأ المقصود في عام السخافة عبر برنامجه ذاك، حيث نص ذاك البند على أن يلتزم "الطرف الثاني" بعدم إفشاء أسرار.... ولا ندري الآن هل كنَّا نتعامل مع منشأة نووية؟ أم مع وكالة استخبارات؟ في النهاية عرض البرنامج عن الراحلة فقرةً تأبينية مدتها عشر دقائق بإخراج سيئ ونص مبتور، بعد سلسلة إحراجات تعرَّض لها كاتب هذه السطور معدُّ تلك الفقرة مع أقارب الراحلة بسبب تجاهل طاقم التلفزيون الملون مراتٍ عديدةً مواعيد التصوير المتفق عليها وأماكنَها.
نريد أن نقول: إن القاعدة الدائمة هي تجاهل الإبداع وتهميشه في أفضل الظروف وأحلكها، وامتداد التجاهل سمة أخرى ت
طال المبدع حتى وهو في القبر، بحيث يكون إيفاؤه جزءًا ضئيلاً من حقَِّه أمرًا يستوجب المنَّ والأذى؛ ولنقرأ معًا ما جاء في تقديم المجموعة القصصية التي نُشرت للراحلة فايزة اليعقوبي بعد وفاتها بما يُقارب السنتين: "ونشكر مجلس إدارة النادي الثقافي على رعايته التي قدَّمها؛ لكي ترى هذه المجموعة القصصية النور، فالدعم الذي قدَّمه مجلس إدارة النادي كان كبيرًا جدًّا". وأسرة الكاتبات العُمانيات التي كتبت هذه المقدمة لم تتورَّع عن هذا المنّ وهذا الأذى بعد تأخيرها طباعة المجموعة فترة لا مبرر لها بالرغم من تسلُّمها لها مطبوعة وجاهزة بعد شهرين من الوفاة بذل خلالهما أخوة الراحلة قاسم وخديجة وسمية اليعقوبي والدكتور غالب المطلبي قُصارى جهودهما في البحث عن النصوص وتجميعها وطباعتها وتدقيقها، حتَّى إن حاتم الطائي صاحب دار "الرؤيا للنشر" بعد تلك التسويفات عرض على أهل الراحلة طباعة المجموعة وكذلك أرادوا هم أنفسهم سحبها من أدراج مماطلات النادي الثقافي ومسؤولي وزارة التراث والثقافة وطباعتها على حسابهم، فما هذا الدعم "الكبير جدًّا" الذي قُدِّم بعد سنتين؟ هل هو ألف ريال مثلاً؟ ما هو بالضبط؟
رحمة الله عليك يا فايزة. كل هذا لم يكن غريبًا عليك في الحياة والآن استرحت منه للأبد. ليتغمَّد الله روحَكِ الجنة، وادعي لنا نحن الأحياء الأموات!
اليوم ذكرى وفاة فايزة اليعقوبي، الباحثة والمشرفة الثقافية وكاتبة القصة القصيرة والصديقة التي تخطَّفها الموت باكرًا قبل سنتين مع ابنها وزوجها في حادث سير فاجع.
في كتابها الصادر مؤخرًا أسئلة وتساؤلات وعلامات استفهام وموت.
هل علينا هنا أن نتجاهل تلك الإشارات؟
كثير من الناس يموتون، ولأننا لا نعلم بدنو موتهم ولا نرى أيَّ إشارة إليه فإننا سرعان ما نتساءل ونتذكر ونصاب بحنين ضاغط ثقيل حالما يُصبحون في عداد الأموات، وليس بعد زمن طويل فحسب، ولذلك نقول كما في القناعة الشعبية غير القابلة للتفلسف والاستعراض: كان يحس بقرب موته.
فرق شاسع بين الميت والحيِّ؛ إن ما نقوله عمَّن مات ربَّما ما كنَّا لنقوله عنه أبدًا لو أنه ما زال على قيد الحياة؛ الموت هنا هو المحرِّض والنَّابش والباعث والمنطلَق.
يتعطَّل النقد وتعمل طاقة الحنين، لكن هذا ليس صحيحًا حتَّى النهاية.
كتبت فايزة في نص "ارتطام": "ومَنْ حولي كانوا أشد ألما في الفترات السابقة، لأنهم لا يفهمون إلا لغة الدَّفن، لا يعلمون أن الميت إنسان يرتفع بين أيديهم ولكنه فوق رؤوسهم. لا يسمعون تراتيل السماء فلا يصلون إلى صدى الحقيقة المطلقة لأنهم يحملون أقنعة واقية عن تقرحات البشر وأصوات الاستغاثة التي تأتي من اللامتناهي".
يحضر الموت بقوة في "سغب الجذور"، ورغمًا عن الدعوة إلى الفرح وألوان البهجة التي تُصدِّر بها فايزة أوَّل نصوص مجموعتها التي رأت النور بعد وفاتها ("وإذا كان علينا أن نعيَ أن الحياة مليئة بالاختلاف والتغيير فإن ألوانها السبعة هي الأمل والحب والسفر والأماني والفن والطبيعة والعمل... فلماذا يا قريتي لا تعشقين الحياة فإن الحياة ألوان....")، رغمًا عن هذا، ورغمًا عن تذكر أصدقائها روحَها المرحة، ولقاءها بهم كلَّما جاءت من مسقط رأسها عبري إلى مسقط وفي يدها الحلوى، تبقى روح كتابتها مأسورة بالتساؤلات القلقة، ويبقى الموت ملحًّا: "تتردد فكرة الموت كثيرًا، وصار متخيلا في ذهني أكثر من أيِّ لحظة أخرى؛ إنه الاسم المضاد للأزلية، الموت في منتصف تشرين الأول أفقدني تلك الروح الباردة الجافة، الروح التي لا تستجيب للحب، الروح الخواء التي لا تستطيع الاحتفاظ بالأصدقاء؛ لأن الحب دائما يضيع في تلك اللحظات التي تشتد فيها حاجتنا إليه، ويحل مكانه الخوف".
السرد في "سَغَب الجذور" يأتي في هيئة لقطات أحيانًا، ويبتعد عن أن يكون قصة في أحيان أخرى ويتكثَّف كنصٍّ مفتوح ويقترب من البوح والإفضاء الحميمي. على القارئ أن يستدرك أحيانًا ويشارك في بناء المناخات والأجواء لأن النص يثير فيه ذلك بسبب عدم إفصاحه، وبسبب توقفه عندما يكون التوقف حرجًا، وكأن النصَّ أفضى إلى الواقع، كأنهما اسمٌ على مسمًّى!
في عام السخافة الذي مرَّ مرور اللِّئام ودَّعتنا فايزة للأبد. من حسن حظِّها أنها لم تقترب كثيرًا من الوسط السخافي المريض؛ من حسن حظها أنها لم تقترب كثيرًا من (الكبار) و(العمالقة) ومن حسن حظِّها أنها ظلت بعيدة عن "النخبة"!
في ذلك العام السيئ الذكر، وفي خضم رحيل فايزة كان تلفزيون سلطنة عُمان الملوَّن يبث برنامج "آفاق ثقافية" الذي تفتقت فكرته وانفجرت بعد توقيع عدد من الكتاب والمثقفين العُمانيين بيان تبرؤ من فعاليات مناسبة مسقط عاصمة السخافة العربية، فجن جنون بعض المسؤولين وسارعوا إلى استقطاب أكبر عدد ممكن من الكتاب للتعاون في إعداد البرنامج، وخاصة أولئك الموقعين على البيان، وذلك للحيلولة دون استفحال عدد الموقعين، ولتأكيد أن الأمور "تمام" عكس ما جاء في البيان! وقد مثَّلت وفاة فايزة صدمة لكل من عرفها عن قرب، وكمحاولة للقيام بتأبين لائق جرى إعداد فقرة موسعة في برنامج "آفاق ثقافية" بحيث تغطي الحدث في ما لا يقل عن عشرين دقيقة مع الاهتمام بتكثيف المادة المقدمة فنيًّا، إلا أن إدارة البرنامج رفضت ذلك، بل وتجاهلت الأمر من منطلق: من فايزة هذه!
إننا هنا لا نريد تثوير ما لا داعي له، لأننا أساسًا نعلم قدر الركاكة الكبير الذي يعمل أولئك الذين يمارسون الإقصاء والتهميش على قاعدته، ولا نستغرب صدور ذلك من التلفزيون الملوَّن إيَّاه الذي وضع لنا بندًا غريبًا عندما تعاملنا معه بالخطأ المقصود في عام السخافة عبر برنامجه ذاك، حيث نص ذاك البند على أن يلتزم "الطرف الثاني" بعدم إفشاء أسرار.... ولا ندري الآن هل كنَّا نتعامل مع منشأة نووية؟ أم مع وكالة استخبارات؟ في النهاية عرض البرنامج عن الراحلة فقرةً تأبينية مدتها عشر دقائق بإخراج سيئ ونص مبتور، بعد سلسلة إحراجات تعرَّض لها كاتب هذه السطور معدُّ تلك الفقرة مع أقارب الراحلة بسبب تجاهل طاقم التلفزيون الملون مراتٍ عديدةً مواعيد التصوير المتفق عليها وأماكنَها.
نريد أن نقول: إن القاعدة الدائمة هي تجاهل الإبداع وتهميشه في أفضل الظروف وأحلكها، وامتداد التجاهل سمة أخرى ت
طال المبدع حتى وهو في القبر، بحيث يكون إيفاؤه جزءًا ضئيلاً من حقَِّه أمرًا يستوجب المنَّ والأذى؛ ولنقرأ معًا ما جاء في تقديم المجموعة القصصية التي نُشرت للراحلة فايزة اليعقوبي بعد وفاتها بما يُقارب السنتين: "ونشكر مجلس إدارة النادي الثقافي على رعايته التي قدَّمها؛ لكي ترى هذه المجموعة القصصية النور، فالدعم الذي قدَّمه مجلس إدارة النادي كان كبيرًا جدًّا". وأسرة الكاتبات العُمانيات التي كتبت هذه المقدمة لم تتورَّع عن هذا المنّ وهذا الأذى بعد تأخيرها طباعة المجموعة فترة لا مبرر لها بالرغم من تسلُّمها لها مطبوعة وجاهزة بعد شهرين من الوفاة بذل خلالهما أخوة الراحلة قاسم وخديجة وسمية اليعقوبي والدكتور غالب المطلبي قُصارى جهودهما في البحث عن النصوص وتجميعها وطباعتها وتدقيقها، حتَّى إن حاتم الطائي صاحب دار "الرؤيا للنشر" بعد تلك التسويفات عرض على أهل الراحلة طباعة المجموعة وكذلك أرادوا هم أنفسهم سحبها من أدراج مماطلات النادي الثقافي ومسؤولي وزارة التراث والثقافة وطباعتها على حسابهم، فما هذا الدعم "الكبير جدًّا" الذي قُدِّم بعد سنتين؟ هل هو ألف ريال مثلاً؟ ما هو بالضبط؟
رحمة الله عليك يا فايزة. كل هذا لم يكن غريبًا عليك في الحياة والآن استرحت منه للأبد. ليتغمَّد الله روحَكِ الجنة، وادعي لنا نحن الأحياء الأموات!
"سَغَبُ الجذور" وهاجس الهُوِيَّة والموت
زوينة آل تويه
بعد ما يقارب العامين من الرحيل المباغت والفاجع تصدر "سغب الجذور" المجموعة القصصية الأولى والأخيرة للصديقة والقاصة الراحلة فايزة اليعقوبي عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت بالتعاون مع النادي الثقافي، حدث ذلك الرحيل في 11 أبريل 2006م إثر حادث سيارة ذهبت فيه هي وابنها وزوجها. حدث ذلك بعد أسبوع واحد فقط من آخر حديث هاتفي بيننا، وكان حديثا صديقا ومكتنزًا بالخطط والأيام القادمة، فيه قالت فايزة أشياء كثيرة عن أحلامها، وعن رغبتها في إصدار مجموعتها في أسرع فرصة ممكنة، وعن إعدادها رسالة الدكتوراه في تونس والتي كانت قد بدأتها لتوِّها، وعن طفلها، وعن زوجها، وعن أصدقائها الذين تحبهم في مسقط، وعن، وعن...، حينها بدا العمر ممتدا وكافيا لإنجاز كل ذلك وللذهاب بعيدا في الحلم، لكن أسبوعا واحدا فقط بين ذاك الحديث الحالم وبين الموت المفاجئ يضع المرء عند أقصى تخوم الذهول والرفض والانصدام.
كثيرا ما تباغتني التفاتة لاإرادية ناحية مقهى هايبرماركت "اللّولو" كلما ساقتني قدماي إلى ذلك المكان حيث لن أنسى صورة فايزة ورضيعَها في آخر لقاء لنا قبل رحيلها بشهور قليلة في آخر زاوية في المقهى.
تضم مجموعة الراحلة خمس عشرة قصة (رسم على الظلال، الرجل الذي نسي وجهه في المرآة، الرُّوع، فصام، صخب، حجر من القمر، فتحة للعبور من القنينة، دفء، بوح نتوءات الرصيف، قضمة من زبد البحر، زنبقة بلا غصون، نجمة الليل، مداد الغضب، ارتطام، مكاشفة).
كثيرا ما تباغتني التفاتة لاإرادية ناحية مقهى هايبرماركت "اللّولو" كلما ساقتني قدماي إلى ذلك المكان حيث لن أنسى صورة فايزة ورضيعَها في آخر لقاء لنا قبل رحيلها بشهور قليلة في آخر زاوية في المقهى.
تضم مجموعة الراحلة خمس عشرة قصة (رسم على الظلال، الرجل الذي نسي وجهه في المرآة، الرُّوع، فصام، صخب، حجر من القمر، فتحة للعبور من القنينة، دفء، بوح نتوءات الرصيف، قضمة من زبد البحر، زنبقة بلا غصون، نجمة الليل، مداد الغضب، ارتطام، مكاشفة).
يتراءى لقارئ هذه القصص أن شخصياتها تنشغل كثيرا بالبحث عن هويّة تخصها، ففي كل قصة تبرز أزمة الهوية طاغية كسؤال وجودي مؤرق، وما عنوان المجموعة إلا وصف مكثّّف لعطش هذه الشخصيات إلى الانتماء إلى جذر ما، وكذلك عناوين بعض القصص تُسرِّب انفعالات شخصيات مأزومة تخشى الظِّلال وتتوسل الصخب والدفء والبوح والغضب، والمكاشفة أطواق نجاة لا توصلها في الغالب إلا إلى الموت بشكليْه المادي والرمزي، وقليلا ما تتدخل هذه الشخصيات في لحظة ما لتقرير مصيرها، لكن أكثر الشخصيات تأزما ويأسا من إيجاد شكل واضح لوجودها شخصية (الذيب) في قصة "فتحة للعبور من القنينة"، الذي لا يعرف أبا أو أمًّا، ويقطن بيتا متهالكا في ركن منزو من القرية، فضلا عن أنه يحمل اسمًا يُعمِّق شعورَه بالوحشة والقسوة، ولمَّا لا يجد (الذيب) إجابات لأسئلته الكثيرة يقرر مصيره بترك القرية وأهلها في عمق الفجر وبصمت، لأن لا جذور له فيها. وبينما يختار (الذيب) الهجرة آخذًا معه كل شيء، جسده وروحه وأشياءه، نجد شخصية قصة "فصام" مثلاً تتلمس خروجها بإطلاق صرخة مُدوِّية علَّها تنتشل صاحبها من وجود متذبذب ومشوَّه تسكُنُه ذكرى الموت.
قد يكون من قبيل المصادفة أو المبالغة حتى أنْ تأتي نهاية شخصية آخر قصص المجموعة "مكاشفة" شبيهة بنهاية كاتبتها، حيث تنتهي كلتا الحياتين في حادث سيارة، لكنَّ المفارقة الأعجب أن تنتهيا وهما في خضم تشبُّثهما بتفاصيل الحياة وانشغالهما بفك مفرداتها، كلُّ واحدة منهما كانت تفكر "ولكنها توقفت فجأة عن التفكير في كل هؤلاء عندما قذفتها سيارة قادمة إلى الجانب الآخر من الطريق" (مكاشفة) ص 100.
د. غالب المطَّلبي
رئيس قسم اللغة العربية وآدابها
كلية التربية بعبري
رئيس قسم اللغة العربية وآدابها
كلية التربية بعبري
إن طُلب مني أن أضع عنوانًا لهذه المجموعة القصصية فلن أختار لها سوى ذلك العنوان الذي نتجنبه عا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق