بقلم: الكشَّاف
لا تزال المهزلة مستمرة، والمقصود بالمهزلة هنا ما أقدمت عليه وزارة الداخلية في سلطنة عُمان عبر اللجنة المنبثقة عنها والمسماة بـ"لجنة تصحيح مسميات القبائل والألقاب والأسماء" بإلغاء مسميات بعض القبائل، وإجبار المنتسبين إليها على التسمي بمسميات قبائل أخرى، في خطوة تنم عن الاستكبار والاستعلاء على فئة من أبناء الشعب تكريسًا لمبدأ "رعايا لا مواطنين"، وتأكيدًا لنزعة التمييز العنصري والإعلاء من قيم العصبية القبلية التي تنتهجها هذه الوزارة، في إصرار واضح لا مواربة فيه على إحداث شرخ في جسم الوحدة الوطنية، والتعدي الصارخ على حريات الناس وحقوقهم، من خلال طمس هويات بعض الفئات في المجتمع وتفتيتها وتذويبها باعتبارها- وفقًا لمخططات هذه الوزارة- مجرد أتباع يجب أن يتبعوا ويلحقوا القبائل التي ألغت قبائلهم كي يحملوا مسمياتها، وهو ما يؤكد الرغبة في تأكيد (فوقية) بعض القبائل و(تسيدها) على القبائل الأخرى، ما يعني بالنتيجة أن المعيار الذي تحتكم إليه هذه الوزارة في معاملة البشر والنظر إلى الناس هو (الانتماء القبلي)، الأمر الذي يتناقض ويتصادم مع مبادئ الشريعة الإسلامية السمحاء وغيرها من الشرائع، بالإضافة إلى تعارض ذلك مع القوانين والنظم ومن بينها (النظام الأساسي للدولة) ومواثيق واتفاقيات وعهود حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة وسائر المنظمات الدولية التي تُعد سلطنة عُمان عضوًا فيها، كما يدل هذا الفعل البدائي الرجعي على خلل في الفطرة السليمة لدى من يقفون وراءه، وينم عن قصور أخلاقي يتجسد في استباحة الآخر والحط من كرامته تحت تأثير تضخم الذات والشعور المفرط بـ(الأنا)!
ومن نافل القول التأكيد أن ذلك منافٍ لمبادئ الدين الإسلامي الحنيف ومناهض لتعاليمه السمحة التي تؤكد وحدة الأصل الإنساني مصداقًا لقول الحق سبحانه "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير"
(الحجرات:١٣)، وقوله سبحانه "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً" (النساء: ١)، وقد قرر سبحانه ذلك من أجل تحرير المجتمع الإنساني كله من الاحتكام الخاطئ إلى المعايير المصطنعة في النظر إلى فئات الخلق والحكم على أقدار الناس؛ يرى الدكتور مصطفى الرافعي في مقال له بعنوان "الإسلام والمساواة" منشور على الإنترنت، ويعد مبدأ المساواة- الذي ضربت به (وزارة الداخلية) ولجنتها سيئة الذكر عرض الحائط- من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الدين الإسلامي الحنيف، إذ إنه بعكس كل من ادعى أنه من نسل ملائكي نقي وكل من تصور أن دمه أزرق نبيل وهو أرقى من بقية الشعب- كما تصور أعضاء اللجنة الأشاوس- جاء الإسلام ليساوي بين جميع البشر في المنشأ والمصير، فإلى جانب الآيات المتقدم ذكرها والتي تفيد هذا المعنى، يقول تبارك وتعالى: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً" (الإسراء: 70)، والتكريم هنا يشمل جميع بني آدم وليس مسؤولي تلك الوزارة ولجنتها. وهناك الكثير من الآيات القرآنية التي تؤكد المساواة بين الناس وتنفي التمايز بينهم لأية اعتبارات سوى التقوى، وما التفسيرات المغلوطة التي يؤمن بها بعض أنصاف العقلاء وذوو الفهم الناقص لمقاصد الدين الحنيف من أن الناس درجات ومقامات كما جاء في بعض آيات القرآن من قبيل "ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات" (الزخرف: ٣٢) سوى قصور في الفهم الصحيح، إذ المراد بذلك هو ما يتعلق بأمور الدنيا المتمثلة في حض كل واحد من الرزق الذي وهبه الله إياه، بدليل أن قال الله تعالى في قرآنه "أَهُم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا ورحمة ربك خيرٌ مما يجمعون" (الزخرف:٣٢)، ومعنى ذلك أن الله قدر لإنسان أن يكون غنيًا وقضت مشيئته سبحانه أن يكون آخر فقيرًا، وأن يكون أحد صحيحًا وأن يكون آخر مريضًا...إلى آخره، أما التفاخر بالأنساب و(الدرجات) فذلك من دعوى الجاهلية، وقد تبرأ النبي- صلى الله عليه وسلم- ممن يفعلون ذلك، فأين أعضاء (اللجنة) الأشاوس بصنيعهم المتعجرف ذاك مما يقوله الله؟!.
وبدوره فقد بين رسول الهدى والعدل والإنسانية موقف الإسلام من هذه المسألة. وأكدت أقوال الرسول وأفعاله ذلك، فها هو (ص) يقول في خطبة حجة الوداع: "أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى". ويقول: "الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى". ويقول: "إن الله قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية وتفاخرهم بآبائهم، لأن الناس من آدم وآدم من تراب وأكرمهم عند الله أتقاهم". ويقول: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم". وبذلك يتأكد أن المساواة مفروضة فرضًا في الإسلام، إلا أنه وبدلاً من أن تضطلع وزارة داخلية سلطنة عُمان ولجنتها تلك بالدور الواجب اضطلاعهما به، وهو جمع المواطنين على كلمة سواء ونبذ أسباب الفرقة والتباغض بينهم، وتعمل بما أمر الله به مصداقًا ل
قوله تعالى "الذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور" (الحج: ٤١)، أو تستشعر مخافة الله القائل "ولا يجرمنكم شنئان قومٍ أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب"(المائدة: ٢)، وقال تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تتقون" (النحل: ٩٠)، إذا بها وفي إصرار فج تستبيح لنفسها الاستهتار ببعض المواطنين والاستهزاء بهم مشرعة الأبواب لحدوث الفتن وشيوع التنابز بالألقاب والمهاترات في مجتمع قبلي يقدس القبلية وتشكل القبيلة فيه قطب الرحى "كانت الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها".
وعوضًا عن تفادي مثل هذا الوضع الشاذ وغير السوي إذا بها تفعل العكس، ولا تكتفي بذلك وإنما تصر على السير في هذه الطريق، بالرغم من محاولات إثنائها عن ذلك، بحيث ينطبق على صنيعها هذا قول الحق تبارك وتعالى: "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد" (البقرة: ٢٠٥،٢٠٦)، والفساد والإفساد في الأرض غاية الظلم، والظلم فيه طرفان ظالم (وزارة الداخلية ولجنتها تلك وكل من له صلة بهذا الأمر من قريب أو بعيد) ومظلوم (معشر المجني علهم الذين تم إلغاء مسمَّيي قبيلتيهم القديمين والمعروفين قبل عدة عقود من الزمن والذين يملكون الوثائق والمستندات والحجج والبراهين المؤكدة لذلك والتي تدحض مزاعم وأكاذيب لجنة وزارة الداخلية ومن تم الاعتماد عليه في الإدلاء بتلك الأكاذيب والمزاعم). وظلم الإنسان للإنسان قد يكون فرديًّا أو جماعيًّا، ولكن الظلم الأخطر هو الذي تقف وراءه (جهة رسمية)، لأن المظلوم والمجني عليه والمسلوب حقه عندئذ لا يستطيع الدفاع عن نفسه ولا يمكنه التظلم، ويزداد الأمر سوءًا إذا كان هذا الظلم ممارَسًا من قبل (جهة سيادية) ترفع سيف (أعمال السيادة) في وجه المظلومين المعتدى عليهم. وقد حذر الله سبحانه من الركون إلى الظالمين بأي شكل من الأشكال "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تُنصرون" (هود: ١١٣).
وانطلاقًا من أن العدالة- التي لم تتحقق للمتضررين المجني عليهم بالرغم من لجوئهم إلى كافة الوسائل والإجراءات القانونية والمشروعة، بما في ذلك رفع دعاوى لدى القضاء- تعني- وفقًا لما أورده الدكتور مصطفى الرافعي في مقال له بعنوان "الإسلام والعدالة" منشور على الإنترنت- "القواعد القائمة إلى جانب قواعد القانون الأصلي مؤسسة على وحي العقل والنظر السليم وروح العدل الطبيعي بين الناس". كما أن الشرائع القديمة استقت مبادئ العدالة من هذا المصدر الذي هو العقل وشعور العدل في النفس، والعدل يعني تمكين صاحب الحق من الوصول إلى حقه من أقرب الطرق وأيسرها- وهو ما لم يتأت للمجني عليهم في حقهم- والعدل أو العدالة واحدة من القيم التي تنبثق من عقيدة الإسلام في مجتمعه، فلجميع الناس في مجتمع الإسلام حق العدالة وحق الاطمئنان إليها، عملاً بقول الله تعالى "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نِعِمّا يعظكم به إن الله كان سميعًا بصيرًا" (النساء:٥٨).
والعدل في الإسلام لا يتأثر بحب أو بغض، فلا يفرق بين مسلم وغير مسلم، كما لا يفرق بين حسب ونسب، ولا بين جاه ومال.. بل يتمتع به جميع المقيمين على أرضه من المسلمين وغير المسلمين مهما كان بين هؤلاء وأولئك من مودة أو شنآن، يقول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قومٍ على أن تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبيرٌ بما تعملون"(المائدة: 8)، فالعدل في الإسلام ميزان الله على الأرض، به يؤخذ للضعيف حقه وينصف المظلوم ممن ظلمه، وفي الحديث القدسي "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا"، وأبواب السماء مفتوحة أمام الإمام العادل وأمام المظلوم على السواء؛ يقول عليه الصلاة والسلام: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم"، فالله سبحانه وتعالى يجيب دعوته، وينصف من يستغيث به، ويدفع عنه مظلمته. بل أباح للمظلوم فوق ذلك الدعاء على الظالم والتشهير به وقول السوء في حقه حتى يرجع عن ظلمه، مصداقاً لقول الله تعالى "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا مَن ظُلم وكان الله سميعاً عليما" (النساء: ١٤٨).
لقد دعا الإسلام إلى عدالة اجتماعية شاملة ترسيخًا لفكرة العدل كمبدأ، وتنمية لها كسلوك، لأن العدل هو أهم الدعائم التي يقوم عليها كل مجتمع صالح، فالمجتمع الذي لا يقوم على أساس متين من العدل والإنصاف مجتمعٌ فاسدٌ مصيره الانحلال والزوال". (انتهى الاقتباس من المقال المشار إليه للدكتور مصطفى الرافعي).
وقد كان رسول العدل والرحمة والمساواة أعدل الناس وأرحمهم بعباد الله، وبعد أن انتقل (ص) إلى الرفيق الأعلى اقتفى أصحابه نهجه وساروا على سنته في تثبيت دعائم العدل وأركان المساواة، فها هو التاريخ يحدثنا عن (الفاروق) عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه تقد
م له في مجلس القضاء الإمام علي- رضي الله عنه وكرم وجهه- مع خصم يهودي وقعت خصومة بينهما، فنادى عمر عليًّا قائلاً له: "تكلم يا أبا الحسن"، بينما نادى اليهودي باسمه المجرد من الكنية، فإذا بعلي يغضب، فقال له عمر: "أتغضب يا علي لأني أسوي بينك وبين خصمك؟" فأجابه علي قائلاً: "كلا، ولكني غضبت لأنك كنَّيتني فعظَّمتني ولم تفعل ذلك مع خصمي"!.
إن المرء عندما يتوقف عند هذه الحادثة، ذات المغازي والدلالات العميقة، وتمر بخاطره أطياف العنصريين لا يملك إلا أن يردد وراء شاعر الأندلس الكبير (ابن عبدون) وهو يهزأ مما وصل إليه حال "ملوك الطوائف" من تشرذم وتسابق على تحقيق (المصالح الخاصة) على حساب الوطن الواحد:
سحقًا ليومك يومًا ولا حملت ....... بمثله ليلة في مقبل العمر
كما أن قصة جبلة بن الأيهم ملك بني غسان معروفة ومشهورة مع الأعرابي الذي داس على طرف ثوبه غير متعمد، فلطمه جبلة، فحكم عمر بأن يقتص الأعرابي من جبلة تحقيقًا لمبدأ المساواة، ولكن جبلة وهو الملك لم يرض بهذا الحكم خاصة وأن خصمه شخص عادي، ولم يكن الإسلام قد تمكن من قلب جبلة بعد، ففر هاربًا من تنفيذ الحكم وعاد إلى النصرانية مرتدًّا عن الإسلام.
ولكن قرارات وزارة الداخلية الجائرة والظالمة لا يمكن إبطالها حتى من قبل القضاء الموكل إليه تطبيق العدالة والمساواة بين الخصوم، وضمان مراعاة الطرف الأضعف في الخصومة، بسبب تحصين أعمال وأفعال هذه الوزارة وإسباغ صفة (أعمال السيادة) عليها، وهو مبدأ- في ظل إساءة استخدامه من قبل من أعطيت له هذه الميزة في ظلم الناس وسلب حقوقهم وانتهاك كرامتهم والتعدي على حرياتهم تمامًا كما فعلت (وزارة الداخلية) ولجنتها سيئة الذكر- يغدو أمرًا "باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب"، وما (أعمال السيادة) إلا كلمة حق كثيرًا وكثيرًا جدًّا ما أريد بها باطل، و"من يأمن العقوبة يُسئ الأدب"!.
والظلم مرتعه وخيم ومصير الظَّلمة هو الخسران المبين، لاسيما إذا استعان من وقع عليه الظلم بجبار السموات والأرض وخير الناصرين، وجأر بالدعاء مستنزلاً السماء لعنات ومستمطرًا إياها نقمات ضد من ظلمه مصداقًا لقول الحق تعالى: "ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنًا كبيرًا"(الأحزاب:٦٨).
ولنتدبر ونمعن التفكير في هذه الحادثة من التاريخ، إذ لا تخلو من العبرة والعظة، وتتلخص الحادثة في أن "الفضل بن يحيى البرمكي" وهو أخو هارون الرشيد من الرضاعة ومُؤدِّب الأمين، وقد تُوفِّيَ سجينًا بالرّقة سنة 808م، وكان مقربًا كثيرًا من البيت العباسي وله حظوة كبيرة عند هارون الرشيد، وكان يأمر وينهى ويستشار في كل صغيرة وكبيرة، وقد حقق شأوًا عظيمًا بحكم المنزلة التي نالها لدى البلاط العباسي، وتمر الأيام وتمضي إلى أن كان يوم وجد فيه (الفضل بن يحيى) نفسه مع ابنه سجينًا في قعر زنزانة رطبة معتمة، ومن خلف القضبان ووسط الظلمة الموحشة يناجي الابن أباه بصوت باكٍ حزين: يا أبتِ أبَعْدَ الأمر والنَّهي صرنا إلى هذه الحال؟! فيرد الأب بصوت متحشرج ينم عما يعتمل في صدره من أسًى وفجيعة: يا بُنيَّ لعلها دعوةُ مظلومٍ سرتْ بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله!.
فهل يتعظ الظلمة والعنصريون من موقف كهذا أم أنهم معصومون من الوقوع في مثل هذه المآزق والمواقف؟ ما الذي يدعوهم إلى الاطمئنان بحيث يظلون في غيهم سادرين "وقالوا لن تمسّنا النار إلا أيامًا معدودة قل أتخذتم الله عهدًا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون" (البقرة: ٨٠).
أنتم يا هؤلاء بفعلتكم الشائنة هذه مَنْ ظلمتم الناس وأثرتم الفتنة "كانت الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها". ولا يغرنَّكم المناصب التي تحميكم والكراسي التي أنتم تتيهون بالجلوس عليها، فلستم إلى الله أقرب!.
إن المناصب لا تدوم لأهلها إن كنت في شكٍّ فأين الأوَّلُ؟!
وحتى إن تطاول بكم الزمن وعشتم زمنكم وزمن غيركم، فلا بد يومًا أن تغادروا هذه الحياة حتى وإن لم تضعوا ذلك في حسبانكم:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته لا بد يومًا على آلة حدباء محمولُ
ثم ماذا سيكون وضعكم ومصيركم هناك عند رب العزة وأعناقكم تنوء بدعوات المظلومين والمقهورين، هل ستشفع لكم مناصبكم؟ وهل ستغني ("أعمال السيادة") التي استبحتم بها ظلم الناس وغمط حقوقهم من الله شيئًا؟ وهل ستنفعكم انتماءاتكم القبلية وأوضاعكم الاجتماعية التي بموجبها سخرتم من عباد الله وأنكرتم عليهم حقهم في الحياة الحرة الكريمة؟ "فإذا نُفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون"(المؤمنون:١٠١). يقول الرسول (ص): "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر. قالوا: وما الكِبْرُ يا رسول الله؟ قال: الكِبْرُ بَطْرُ الحقِّ وغمطُ النَّاس"، وبطر الحق أي إنكار الحق وجحده، وغمط الناس أي ظلمهم، وهو تمامًا ما فعلته (وزارة الداخلية) ولجنتها سيئة الذكر. ويقول (ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، و"الدين المعاملة"، وهؤلاء رأوا في أنفسهم الكمال والأفضلية- بالرغم من بشريتهم- وأنكروا على المتضررين حقهم في أن يكونوا أنا
سًا موفوري الكرامة كما أمر الله ودعا الرسول، ويقول النبي (ص) أيضًا: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقصون من أجورهم شيئًا، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقصون من أوزارهم شيئًا".
ويعد ما أقدم عليه هؤلاء العنصريون الاستئصاليون من الأفعال المستهجنة ذات الآثار السلبية المتوالدة والمتناسخة التي عقَّدت حياة من تعلقت بهم من المجني عليهم، بحيث تعطلت مصالحهم وتوقفت شؤون حياتهم، بل إنه حتى (الموتى) من هؤلاء لم يسلموا من النتائج المأساوية لهذه الفعلة، وكأن لسان هؤلاء يقول: "حتى على الموت لا أخلو من الحسد".
إن ما أقدمت عليه تلك الوزارة ولجنتها ليس له تفسير سوى شعور من يقف وراء ذلك بالتفوق العرقي على سواهم من البشر، واعتبار الآخرين- بدعوى ادِّعاء التفوق العرقي و الإيمان بنزعة التمييز العنصري والعصبية القبلية- مجرد حشرات تدب على الأرض، وبالتالي- وفقًا لهذه النظرة- يجب تقرير مصير هذا الآخر نيابة عنه عبر وضعه اجتماعيًّا في منزلة يجب عليه ألا يتخطاها حتى لا يتساوى مع من وضعه في تلك المنزلة "... النظريات التي تنادي بتفوق عرق على بقية الأعراق يمكن تسكينها تحت الخانة التي يقيم في أعلاها الشيطان، لأن نظرة الجنس المتفوق في أصلها الديني نشأت على أن الشيطان رأى نفسه أعلى شأنًا من مخلوق آخر وتعالى عليه وتكبر، ومن هذا المنطلق نشأت نظرية ثقافية تدعو أو تدَّعي أن عرقًا من الأعراق يعد متفوقًا، كما كان مثلاً لدى الفكر النازي الذي رأى أن العرق الآري عرق نقي ومتفوق ويجب أن يسود، ولا يكفيه أن يسود فقط بل من حقه إبادة غيره من الأعراق الأقل شأنا. نفس النظرية تلقى رواجًا في الفكر الديني المتطرف عند الصهاينة الذين يعتقدون أنهم شعب الله المختار وأنهم "أبناء الله وأحباؤه"، وبقية الأجناس البشرية لا شأن لها، بل لا حاجة لها أن تكون أصلاً موجودة على سطح الكوكب، وهذه ثقافة أهم عنصر من عناصرها له بعد ديني تمَّتْ أدلجته وإلباسه القداسة التي تحميه من أن يعرض على الحوار العقلي، وبالتالي تحصنه من أن ينكشف زيفه أمام الآخرين، فهي- أي هذه الثقافات التي تقوم على اعتبار الآخر حشرة يجب سحقها- تعاني عقد نقص وشعورًا بالفوقية تستبيح من خلاله كل المحرمات، متخذة لنفسها مبررات عقائدية، وعلى هذا المنحى نشأت الطبقية حتى تحت هرم الثقافة الواحدة التي قسمت المجتمع كما هو عند الرومان مثلاً إلى سادة لهم كل شيء، وعبيد ليس لهم أي شيء سوى السياط تلهب ظهورهم والسيوف تطيح برؤوسهم بسبب أو بغير سبب.
ولعل كل الحضارات التي قسمت المجتمع إلى طبقات على هذه الشاكلة تكون بذرت بذلك بذور موتها، لأن أية ثقافة تقوم على ازدراء الآخر وإلغائه هي ثقافة كراهية مصيرها الموت إن عاجلاً أم آجلاً... وإذا استمرت ثقافة الكراهية تعمل عملها فإن حركة التاريخ لن تكون في مصلحة الأقليات، وذلك هو دأبها، ولهذا فإن ما يجب الترويج له وإحياؤه هو العناصر الإنسانية للثقافة التي تكون قادرة على التواصل والحوار بعيدًا عن الإلغاء والتعالي وادعاء التفوق" (سيف محمد المري- مجلة دبي الثقافية- العدد (27) أغسطس 2007م).
إن فعلة (وزارة الداخلية) الشائنة تعد خطيئة بكل المقاييس، فمن شأن ما فعلت تشويه سمعة عُمان في المحافل الدولية والإساءة إلى سجلها في مجال حماية واحترام حقوق الإنسان، كما أن الإصرار على هذه الممارسات العنصرية بذريعة (أعمال السيادة) كفيلٌ بأن يدعو إلى التساؤل عن مدى حقيقة ما يصوره الخطاب الرسمي من أن كل شيء في البلاد بالنسبة إلى معاملة الإنسان على ما يرام، ومن ذلك ما تحدث به أحد كبار المسؤولين يومًا عندما قال ما مفاده لن تجد حرية أو احترامًا للفرد كما هو موجود عندنا، وإنه لا يوجد مكان في العالم تحترم فيه خيارات الفرد مثلما عليه الحال في عُمان، ولكن فعلة تلك الوزارة ومن مالأها تدعو إلى الشك في مدى حقيقة ذلك، ولا يملك المرء إزاء وضع كهذا إلا أن يتساءل عما إذا كانت هذه الوزارة- جراء ما تفعله بحقوق الناس وحرياتهم وكرامتهم- في حد ذاتها (دولة) داخل الدولة! وما إذا كانت لها أجندتها الخاصة في رسم سياسة البلاد؟! وإن كان الجواب بأن الأمر كما يتم التصريح به رسميًّا، فإنه يتوجب عندئذ محاسبة ومعاقبة من يريد تلويث سمعة البلاد وإهالة التراب على الإنجازات المتحققة.
متى يبلغ البنيان يومًا تمامه إذا كنت تبني وغيرك يهدمُ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق