22 أغسطس 2008

"أهلاً وسهلاً في مقهى زيزينيا"

مقهى زيزينيا- النادي السّياحي- أبوظبي
مقهى زيزينيا- النادي السّياحي- أبوظبي
 
 

 

 

نصّ:  سالم آل تويه

تصوير:  محمد المزروعي

     من مكانٍ ما- لعله سيَّارة أو شَقَّّة أو دكَّان- تصل أغنيةُ "أبوبكر سالم" بأقدامِ مصادفةٍ متمهِّلةٍ تُضفي ألقًا محايدًا- لا يبدو ذلك أبدًا!- على وجوه الغرباء، تجلس مثلهم على كرسيٍّ بلا طاولة:
"والزّمن ما تغيّر بسّ
أهل الزّمنْ ويلاه
متغيّرين...
رحمتك رحمتك
يا رحمتك يا رحيم
ويلاه متغيّرين".. وتستمرُّ على نحو يتمرأى في كثافة الدُّخان وقرقرة الأراكيل، تُحوِّل ضيق هذه الفسحة عالمًا موحشًا يفتعل الهدوء افتعالاً.
     ولأنَّ ما نُحبُّه كثيرًا ما يؤلم، كثيرًا ما ينأى، قليلاً ما يكترث بالغموض وآلات القتل، لهذا ربَّما توقَّفتِ الأغنية قبل تمامها؛ أصبح كرسيُّها فارغًا- ربَّما تحرَّكتِ السَّيَّارة أو تعكَّر مزاج من في الشَّقَّة، أو انشغل الدُّكان بالزَّبائن.
لن تعرف قطُّ من أين انبعث الصَّوت وفي أيِّ ناحية اختفى سوى أنَّك تلهو في معتركِ ما لا طائل منه.
     "الزَّمن طفلٌ يلهو بالنَّرد"، وفي أيِّ لحظة قد يفعل ما لا يعيه؛ هذه الرَّميةُ صائبةٌ، تلك خائبة، ولن يشفع اللَّهو للبراءة ولا المجهول للخطر.
      قبل ثلاثين عامًا- إن شئنا مطَّ الزَّمن (يُمكننا بعجه وتقبيحه وتزيينه وفقدانه)- ذرَّتِ الرِّيحُ الرِّمالَ في عيون المستقبل فعرك عينيه، ولا يزال، وسيتخصَّل بهذه الخصلة- لأنَّ اللَّهو عواقبه ليست مأمونة- ونظر بعيون مخضلَّة بالأسى والدَّمع وانعدام الأفق، إذ ما من زمن أبعد منه:  تعالى البنيان وتعلَّب النَّاس في علب لا تُشبه أقفاص الحمام التي كلَّما لها الزَّمن اندثرت من بيوتنا.
      "مازال بطن الأرض ممتلئاً بالبيض":  من متن سفينة تمخر عُباب المعرفة وعُباب بحر إيجه كتب نيكوس كازنتزاكيس ذات يوم في رسالة إلى حبيبته، لكنَّ البيض فقس سُمًّا وانفجر بطن الأرض بقيءٍ أسود.
      والآن:  هنا مقاعد وطاولات وجمر وعُنَّاب وغرباء وأصدقاء ونبتات في أُصص وباب على مصراعيه تنفرج ستارة بلاستيكيَّة متَّسخة تحجب نصف وجه الممثِّل محمود عبد العزيز؛ "أهلاً وسهلاً في مقهى زيزينيا".
***
 
      كيف حالكم؟.  نفتح حتَّى منتصف اللَّيل، في الرَّمضانات نفتح بعد الإفطار ونغلق ونختفي في ضباب الفجر.  إنْ كنتم مهمومين فالـ"كركديه" تُهدِّئ التَّشنُّج، تُخفِّف ضغط الدَّمّ.  إذا كنتم ستذهبون مباشرةً إلى الأسرَّة فلا أحلى من كأس عُنَّاب باردة (إذا قُدِّمتْ ساخنةً تُسمَّى كركديه وإذا قُدِّمتْ باردةً تُدعى "عُنَّاب") .  تعالوا والعبوا "الورق".  لدينا جمر يُدفِّئكم في أوقات الحرِّ- أو حين يهبُّ هواءٌ بشدَّة- نُغطِّيه بطربوش من حديد كي لا نزعجكم.  كلَّما أتيتم على الرَّحب والسِّعة، تعالوا مرَّتين، ثلاثًا، وبعدها اجلسوا على مقاعدكم وسيصلكم التُّفَّاح، الزَّغلول، القرفة، الحلبة، وكلُّ ما تشتهون بمجرَّد جلوسكم فلن تكونوا بحاجة إلى نداء في المرَّة الرَّابعة.
 
 المعلّم شوقي
المعلّم شوقي مدير المقهى
 

      النَّاسُ غادينَ جائينَ بين طاولتين يشقُّون طريقهم السَّهل.  ستعتادون هذه الإلفة كلَّما سحبتْ رئاتكم دخانًا أكثف.
أمهلونا دقيقة فهذا زبون جديد نأمل أن يُصادقنا مثلما يُصادق الكاتب القلم، مثلما يعشق القارئُ الكتب، مثلكم، مثلما تتفشَّى الأغاني كالأكاذيب، ونعرف- حتمًا- أنَّ الحياةَ طائرٌ:  انظروا إنَّه هناك يُزقزق على ركن الشَّجرة.  "يا أحمد كمان واحد قهوة سادة للباشا".
       حين يصل بسيَّارته من الخالديَّة- في اللَّيل فقط يدخل ويخرج منسلاً من العين پالاس- حين يصل، وقبل أنْ يستقرَّ على مقعده، يكون أحمد قد فحص خرطوم أركيلته فيُقدِّمها له مع فنجان القهوة الأوَّل ودفتر الحسابات.  أمَّا البُكْم الأربعة فقد تعلَّمنا منهم لغةً أخرى أصبحت حاجتنا ماسَّة إليها، وهكذا- كلَّ يوم- يأتون ويذهبون ونحن هذا عالمنا، لا نعمل في الحكومة كي نستريح يومين كلَّ أسبوع.  ثيابنا، جلودنا، ممتقعة بالدُّخان، لذلك لا نرى الحياة مغبرَّة، وكأنَّ الطَّريق يَشُقُّ نَفْسَه لنا عبر أنفاقٍ تتوالد، ونصعد بعيوننا إلى شرفات المباني ونش

ليست هناك تعليقات: