25 سبتمبر 2010

عن الثورة والوطن وأوهام أخرى


محمد السناني

       في قاعة الشرقيات بالجامعة الأمريكية بالقاهرة كان لنا موعدٌ مع الوطن، الوطن الذي كان على مرمى رصاصةٍ من الوجود، والذي تبخَّرَ حلمُهُ كما تبخرتْ أحلامٌ وأوطانٌ كثيرةٌ. كنتُ رفقةَ صديقين صعلوكين أحدهما عجوزٌ بفعل الخمرة والنساء والسفر الطويل، والآخر شابٌ جامحٌ يدير ظهره للنساء والمدن، مكتفياً بحقيبة ظهرٍ وحذاء مهترئ، قاطعاً المسافات بروحٍ تتشرَّبُ الموسيقى والعالم. استوينا على مقاعدنا، محاطين بوجوهٍ أكاديميةٍ لا تعرف من الإيحاء سوى الصقيع واللامبالاة الأوروبية تجاه ما نحمله من غبارٍ زمني وخناجرَ لامرئية. المخرجة اللبنانية تتداخل اللغتان الإنجليزية والفرنسية مع لغة أخرى نعرفها، في حديثها المتقطع والعابر مع الحاضرين الذين يتناولون الغداء قبل عرض الفيلم الذي يحكي عن ثورةٍ غابرةٍ في أرضٍ غابرةٍ لأناسٍ لم يبق منهم سوى العظام والنميمة السياسية.

       حالما يبدأ العرض مع صوت مغني الثورة تبدأ المخرجةُ الترجمةَ الفوريةَ للحاضرين الجاهلين بكل ما خلف الشاشة من تراجيديا عمانية لم يمنحْها الزمنُ فرصتها في التداول. نحن، الصعاليك الثلاثة، في أشد حالاتنا الحسية إنصاتاً وتيقظاً، نفهمُ ما لن يفهمه الآخرون. ونبتسم ونبكي أرواحاً هائمةً على مكاننا المنزوي والقابع في الخارطة بين لونين، أزرق يمتدُّ شرقاً نحو الشرق البعيد، وأصفر يمتدُّ إلى ما وراء الربع الخالي من خواء. وحده اللون الأحمر هو جديد هذا المشهد الجغرافي المتكرر. الجنوب الأحمر. آهٍ على الجنوب. ألم يقل محمد علي شمس الدين: كلُّ الجهاتِ الجنوبُ.
******
       يجلس الزمنُ، حذائي، محدودباً ضعيفَ السمع والبصر. يسألني إعادة جملةٍ فاتته عمّا كانت الأيام عليه، أيامُ شبابه الأحمر, حيث الكتف الأنثوي المحزوز من أثر البندقية، والعَرَق الإيروسي الناشف على البزة العسكرية، والنهدان اللذان ما زالا مكوَّرين ومشدودين في حالة تأهب دائمة، والمضاجعات الليلية العابرة في الجبال الجرداء، هم كلُّ ما تبقى للثوري الحالم، حيث تجتمع الأضدادُ هنا كيوم حسابٍ مرتجلٍ، والزمن يستنكف من نداء أيامه القادمة مع صورة أيامها الماضية كي لا يستقيمَ للتاريخ معنى كان مغيَّباً وأصبح منسيَّاً ومشوَّهاً.
********
       الأحلام تكتب بمداد الغريزة. والعناصر الأربعة تصبح في يد الحالم مادةً أولى لخلق الكون الجديد. والريح التي صادقت أسلافَنا في البحار والصحارى ما زالت طوع بنان الفتى الراغب بتطويق الكرة بذراعيه كحبيبة مفقودة.
*******
       السلطان الجديد يتسلم زمام الزمان والمكان السابحين في هيولى العزلة، مُعزَّزاً بكتائبَ من المرتزقة المسلوخة جلودهم في كوابيسَ أبديةٍ تنتابهم. الجثث المكدَّسة كالأسلحة المصادرة لا تتسع لها الأجداث المرتجلة. من ضد من في هذه الحرب الموسومة بأثر الهباء. وحده النفط سيد اللحظة، يعتلي عرشَ الرمال بُسلَّمٍ من ظهور عبيده المنحنية، أبداً، لسيدٍ من غبارٍ وورق.
********
       الثوّارُ المتحولون هياكلَ ونجوماً تحت سماءٍ تشققت من جفاف الصلوات ومَحْل الرجاء ينهضون فجراً في حلم الشاعر الراغب بكتابة رواية تستضيف اللامعقول. أياديهم ما زالت تفتح أو تسدُّ طريقاً خلّفه الغزاةُ. وصرخاتهم تملأ الوهاد كطيورٍ لامرئيةٍ تحوّم حول جثة الوقت المطعون بحربة النفاد.
*********
       الأطفال الأربعمئة في مدرسة لينين وحده الله يعلم أيَّ رياحٍ مباركةٍ ملعونةٍ حملتهم لجهات النسيان، حيث لم يبق منهم سوى نشاطهم المتخيل وحديثهم اليومي عن أمور المدرسة والمعسكر. ترى هل كان الواحد منهم يرى، برؤية الطفل الثاقبة، مصائر طائراتنا الورقية وهي ترفرف عالياً في سمائنا المفتوحة على الملائكة والأعداء؟؟
********
       مرةً أخرى تُحكى الحكاية، وأنت كعصفورٍ في قفص الفضاء الأزلي، يخرج صوتك، مُشقَّقاً خشناً كأيدي بحارة غرباء. وفيما الكهنة يمسحون جثمان الفرعون المسجى بمواد غامضة في الحجرة الملكية، استعداداً لبلوغ أبديةٍ متخيلة، تُفرغُ، أنتَ، ما في جوفك من أحلام وبراءة، اشمئزازاً من الخلود المتفسخ.
                                                            
2/8/2010م
    مسقط

ليست هناك تعليقات: