12 أبريل 2011

إلى سعيد الهاشمي : لن يضيق بك وطنك

محمود الرحبي

       حين وصلنا إلى مستشفى خوله، كان بمعيتي القاص يحيى سلام والكاتب خالد عثمان والتشكيلي حسين عبيد، ثم التحق بنا الدكتور محمد الذهب وهو قارئ مهتم بالأدب ووكيل وزارة سابق، والأستاذ أحمد الفلاحي الأديب المعروف وعضو مجلس الدولة.
       تداخل المنسحبون والزائرون بصورة عفوية، حيث كان من ضمن المنسحبين ما أن وصلنا، والد الإعلامية باسمه الراجحي، كان قد وصل قبل وقت من دخولنا وكان حينها في لحظة انسحابه مودعا المريض وقد استطعت أن التقط من شفتيه عبارة حماسية وقادة يوجهها الى مسمع سعيد مشجعا : (( لا توجد حرية بدون ثمن )) .
      مكثنا قرابة العشرين دقيقة. في تلك الأثناء كان قد انسحب كثيرون قبلنا، وكان ثمة نساء كثر، ثم انضم فجأة من أسمو أنفسهم بوفد من معتصمي صور، يفور الحماس من جنباتهم،وقد قال ممثلهم لسعيد بأنهم قرروا أن يعتصموا من أجله، فشكرهم سعيد ثم أردف مبتسما: (( أرجو ألا يؤثر ذلك على حركة السير والحياة)).

     كان سعيد ملقى على سرير أبيض، تعلوه قنينة السيروم وهي تقطر بصمت وتغذي عروقه. لم أر سعيد يحرك سوى عضلات شفتيه وعينيه ويده اليسرى ا لتي يصافح بها ضيوفه ويدير بها كذلك دفة حديثه. لم أر شيئا من أجزاء جسده تتحرك سوى ماذكرت. ففهمت فيما بعد ومن خلال حديثه، بأن الضرب قد نال كل قطعة من مقاس جسده. ولكني اكتشفت كذلك بأن سعيد استطاع رغم تلك ا لأعضاء القليلة من جسده أن يعكس لنا خفقان روحه الحية، والتي يبدو أنها كانت بعيدة عن المتناول، حيث لم تصب بأدنى خدش. بل أحسست بها – أي روحه - وكأنها ترفرف من جديد وبصورة أكثر ألقا.

        كان كلامه مصففا ومنسجما وثغره باسما طوال مدة حديثه، وهو يشرح لك زائر جديد تفاصيل ماحدث له. فما أن ينضم زائر إلا ويعيد سعيد ماقاله، ويوصل ما انقطع من حديثه، وهكذا خلال قرابة ا لعشرين دقيقة، قضيتها واقفا إزاء سريره، الذي بدا أكثر الأماكن حيوية في تلك الغرفة.

       يحكي التفاصيل ويعيدها وبدون لعثمة أو ارهاق أو ا فتعال، وبلهجة الواثق من قضيته وسلامة مقاصدها:
(( عشرة ملثمين بملابس سوداء انقضوا علي وكسرو سيارتي، فقلت لهم إن السيارة مفتوحة فلاداعي لكسرها، أنا لا أملك غيرها)).

      جروه بعد ذلك إلى بطن مصفحة، شدوا الوثاق على رجليه ويديه،ثم غطوا وجهه كاملا وحجزوا الرؤية عن عينيه، ثم بدأ مسلسل الرعب ينهال على جسده. صفعوه، سبوه، ثم ضربوه بالحديد الذي وصل إلى جهة نخاعه الشوكي – جهة الموت المحتمل – وفي ساعتين ونصف، كانت مسافة الطريق، والضرب لا يتوقف، ثم شتموه وهددوه بالقتل ، وأحدهم مرر سكينا على عنقه، فانتظر سعيد الموت مستسلما لقدره : (( قلت لهم قتلوني، ولكن الرجولة تقتضي أن تفكوا وثاقي أولا )) .
      ثم سحبوه من رجله فوق الأرض الشائكة، وصرخ أحدهم في وجهه: ((انته باغي تنشر دين العلمانية)). فرد سعيد على مصدر الصوت : (( العلمانية ليست دينا. يا أخي فك وثاقي وحل عصبة عيني لأفهك)) . تركوه بعد ذلك في قلب العتمة، حافي القدمين، فمشى طويلا، وحيدا إلى أن وجد أضواء الشارع.

     هذا ما وصلني من حديث سعيد، حيث انقطعت فجأة تلك الدقائق القليلة بانسحابنا، وذلك لأن ضيوفا جددا بدأوا يفدون ويضيقون من مساحة الغرفة، فاستأذنا بالانصراف.
حين خرجنا سألنا في المستشفى عن باسمه الراجحية، فأخبرونا بأنها ذهبت لتصلي. انتظرناها، وحين هلت قادمة وهي تعرج قليلا ومسحة من شحوب تصبغ وجهها المرهق، ولكن صوتها الذي كان معبأ بالثقة، أفصح عن روحها السليمة والتي لم تصب كذلك بأدنى كسر أو خدش.

ملاحظات ضرورية لابد منها:

1- لا أحد استطاع حتى الآن تحديد كنه ا لفاعل الحقيقي. فسعيد يقول بأنها ( جهة أمنية) وجريدة الزمن قالت بأنها ( جهة مجهولة) . والادعاء ا لعام أمام محك حقيقي واختبار عسير.2- الأمن العماني ظل طيلة عقود، مضرب مثل في سعة صدره واستيعابه وحواريته لكل من يختلف معه. إلا إذا أراد بأن يوصم بالقسوة المفرطه، وإذا كان الأمر كذلك – على افتراضي بأنه الفاعل - فإنه من الصعب أن يطلق عليه أمنا بعد هذا الحادث ،إلا في حالة واحدة فقط وهي أن ينتزع هذه التسمية بالقوة، وذلك لأن ماحدث – وأكرر إذا ثبت الإتهام – لا يمكن أن يقوم به جهاز أمن مع شعبه. فظهورهم بمشهد الملثمين لا يمكن أن يكون طبيعيا إلا في حالتين، الأولى هو أنهم خائفين من أن يكشفوا، والثانية هو أنهم أرادوا أن يوصلوا رسالة واضحة بأنهم ليسوا رجال أمن.وفي كلا الحالتين تكون المصيبة أعظم. وذلك معناه بأن هناك عصابة تتنقل بحرية وتخطف من تشاء وتحكم عليه وتلقي به – بدون أدنى تحقيق - في ساحات الوغى والذئاب والوحشة والموت المحتمل. وهذا معناه باختصار بأن (( البلد ما فيها أمن بعد اليوم)).

      لذلك فإني استبعد تماما أن يكون الفاعلون هم من رجال الأمن، فلا يمكن للجهاز المعول عليه في حمايتنا أن يكون بهذه السذاجة ليصب الزيت على النار ويشعل ما كان على وشك أن يخمد، في وقت بدأت فيه ساحات الاعتصام تجنح نحو ا لهدوء.

     فأنا أقف مع هذا الرأي القائل بأن ( جهة مجهولة) هي من اختطف الكاتب النوعي سعيد الهاشمي والإعلامية والمعلمة باسمه الراجحية. لذلك فإن ا لأمر يحتاج الى أجوبة لابد منها، ومجهود أمني ضخم، وذلك لينكشف اللبس، وليشعر مواطنو بلدنا الحبيب بكل معاني الاطمئنان والأمان، وهو مكسب عمان الأول والذي نرفض أن يتعرض للخلل والتشويه...

ليست هناك تعليقات: