الدكتور علي خليفة الكواري
غياب الصديق خلدون النقيب، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، خسارة فادحة لأسرته الكريمة وأصدقائه وطلابه. عظم الله أجرهم وألهمنا وإياهم الصبر والسلوان.
كما أنها خسارة فكرية كبيرة على الساحة العربية بشكل عام وفي الخليج العربي على وجه الخصوص.
وهناك واجب إحياء ذكرى هذا المفكر والباحث والكاتب الرصين، بأن نجعل من فكره مدرسة تتولى رعايتها مؤسسة تحمل اسمه وتواصل رسالته، فرحيل أبي زيد يؤذن بمغادرة جيل من أصحاب العين البصيرة واليد القصيرة في الخليج العربي. جيل فكر وبحث وكتب باعتبار ذلك واجباً وطنياً تتطلبه الحالة الاستثنائية التي عاشتها المنطقة منذ منتصف القرن العشرين ومنذ سبعينياته على وجه الخصوص.
وقد كان هذا الجيل يظن أن ما يقدمه من تشخيص ويقترحه من حلول سوف يلقى آذاناً صاغية وتجاوباً مسؤولاً، ولكن الواقع المُستبد الفاسد جعل صرخة هذا الجيل في واد، لا لعيب فيها وإنما استقووا عليها بمال النفط والخلل السكاني والحماية الأجنبية.
وإذا كان بعض دُعاة جيلنا كتاباً، وربما باحثين، فقد كان خلدون إلى جانب ذلك مفكراً بامتياز، وكان جهده يتجه لرصد الواقع برصانة عالم الاجتماع الباحث الجاد. كما كان فكره الثاقب يقدم التشخيص ويقترح الحلول ويدفع باتجاهات الإصلاح ويتحمل في سبيلها التبعات.
وإذا كان المجال يضيق عن ذكر مُساهمات خلدون فإن كتابه حول الدولة والمجتمع في الخليج والجزيرة العربية، وكتاب الدولة التسلطية وبحثه في رواق النكسة، ستبقى مُساهمات عربية متميزة إلى جانب كتاباته وبحوثه الرصينة الأخرى.
وإلى جانب البحث والكتابة فإن جهد خلدون النقيب اتجه أيضاً إلى المُمارسات العملية، وقد زاملتُه عضواً بمجلس إدارة المجلة العربية لعلم الاجتماع عندما كان رئيساً لها في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ينهض بتلك المجلة العلمية العربية الرائدة لتكون مدرسة في العلوم الاجتماعية. وكذلك كانت مُساهماته في إطار مركز دراسات الوحدة العربية، وفي منتدى التنمية، تـُعبر عن تأكيد حقيقي بأن المفكر والمثقف الجاد لا يعيش في بُرج عاجي وإنما يكون جندياً أيضاً إذا تطلبت جدية الفكر أن يشارك في العمل والدعوة للإصلاح. وخلدون النقيب الذي عرفته عن قـُرب هو إنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وإنسان عادي لا يدعي لنفسه مكانة تفاخرية وأبهة، ولا يسعى لمنصب وإنما عاش مُتفاعلاً مع مجتمعه الصغير الكويت وامتداداته في الخليج والجزيرة العربية وفي الوطن العربي، وكان حاضراً دائما بفكره وإن غاب في كثير من الأحيان عن لقاءات يدعى إليها.
وعلى قلة تقاطع جهدنا العملي ومجالات حركتنا إلا أن جهودنا تقاطعت أكثر من مرة.
وفي هذه الحالات بدت جوانب إنسانية مرحة من شخصية أخي العزيز خلدون رحمه الله تبرُز لي، ففي أواخر الثمانينيات، وعندما كان دستور الكويت مُعطلاً والمطالبة الشعبية بعودة العمل بدستور عام 1962 وعودة انتخاب مجلس الأمة على أشُدها من خلال ديوانيات الاثنين في الكويت، كتب خلدون أن الأسرة الحاكمة في الكويت قد استحوذت على 5% من عائدات النفط قبل العمل بدستور 1962، فما كان من السلطة إلا أن اعتقلته وحققت معه فيما قال، فرد خلدون بأن الرقم قد أخذ مصدره رسالة علمية مجازة قدمها علي خليفة الكواري وذكر فيها أيضاً أن الأسرة الحاكمة في قطر قد استحوذت على أكثر من 50% من إجمالي عائدات النفط ولم يُسجن في قطر.
وقبل ذلك بسنوات أذكر أن المُنسق العام لمنتدى التنمية الصديق جاسم السعدون قد كلف الدكتور خلدون النقيب بكتابة ورقة اللقاء السنوي، وعندما اجتمعت اللجنة التنفيذية للمنتدى اشتكى جاسم من أن خلدون لم يكتب الورقة ولا يرد على اتصالاته ولا يضمن أن تكون الورقة جاهزة بعد شهرين، فاتصلنا بخلدون وحضر الاجتماع وأكد للجميع أن الورقة جاهزة وسوف يقدمها خلال أسبوع لجاسم، فسألنا جاسم هل انتهت المشكلة فرد قائلاً لو ربطتموني بقيد من حديد مع خلدون من هنا إلى موعد الاجتماع فإنني لا أضمن الورقة.
رحم الله الأخ والصديق المفكر والباحث والكاتب الجاد أبا زيد الدكتور خلدون النقيب وأسكنه فسيح جنات الخلد، وجعل لجيلنا في رحيله المفاجئ المبكر عبرة وموعظة لمن يتعظ.
الدوحة 1-5-2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق