القاص حسام المسكري |
سالم آل تويّه
أربع قصص قصيرة لحسام المسكري تكشف عن موهبة سيكون لها شأن في كتابة القصة في عُمان. إنها قصص –برغم حداثة سن كاتبها وقلة ما كتبه حتى الآن- تتخفَّف من إعادة أخطاء النشأة والبداية التي طالما ارتبطت بأغلبية كتاب القصة في عُمان: اللغة و"اللف والدوران" حول ما لا يمكن أن يكون له وجود في "بطن" الكاتب ولا في رأسه.
حيرة اللغة –إن صح القول، وبالمفهوم المكرر الذي تصنعه الشخصية الوحيدة التائهة العاطلة عن الفعل- لا وجود لها في كتابة حسام المسكري. هل تتعلق هذه الظاهرة بـ(مرحلة) و(جيل) أكثر من ارتباطها بكتَّاب؟. هذه ملاحظة عجول تحتاج إلى تحليل، لأن الظاهرة وشمت أغلبية لا تزال تراوح مكانها دون أن تدري بينما تعاقب جيلان آخران –إن صح القول في وسط بلا نقد ولا تأريخ للأدب- بنَفَسٍ آخر.
أحداث قصص حسام المسكري مكثفة توجز تفاصيل تقدم خلاصتها في سرد آسر ينم عن موهبة تتشكل بهدوء، وتبذل جهدها لتجنب الوقوع في الأخطاء المعهودة تلك، كما تبذل قصته جهدها لتجنب المفاجأة غير المفتعلة والزج بأفكار تعوق مجرى السرد. قصة المسكري تبدأ مثل بصيص، مثل ضوء خافت يقوم السرد بحمل القارئ نحو مصدره ليريه سطوعه لكن على نحو تحف به الغرابة والمفارقة والغموض، فعلى الرغم من شدة سطوع الضوء في نهاية القصة إلا أنها تتسم بتلقائية لا تتسرع ولا تنبهر ولا تتصنَّع، وفي الوقت نفسه تتسم بكونها نهاية مفتوحة على السؤال غير المجاب عن مغزاه. إن هذا أمر آخر يبدأ من نهاية القصة ويستمر بعدها، مثل ترجيع صدًى لا فرق بين كونه واقعيًّا أو متوهمًا، لأن مستوى سماعه لا يعلو ولا ينخفض ولا يتذبذب، إنه واقعي ومتوهم في الوقت نفسه، ولا يمكن الحسم بغير هذا!. التلقائية هنا تكتسب هذه الصفة بجدارة منبعها النقيض، أي الغرابة والمفارقة وغير المتوقع، ولذلك لا يبدو السرد مفتعلًا أو مقتحمًا بمفاجآت تُنصَب شِراكُها عَنوةً وبالإكراه ورغم أنف السرد. إن الأمور تحدث بتلقائية وتعقيد لأن النفس الإنسانية هكذا، فيها ما فيها من كوامن قصيَّة تعصى على التفسير المباشر الباتّ، في الأقلِّ في هذه الأثناء وبالنسبة إلى هذه الشخصيات.
تركز قصة المسكري على فكرة تولد أفكارًا، وتخلص إخلاصًا شديدًا لمفهوم القصة القصيرة من ناحية الإيجاز وتسليط الضوء على شخصية تقوم بفعل ما أو تنشغل به دون أن يتيح السرد للقارئ معرفة معلومات أكثر من ذلك تتعلق بتاريخ الشخصية. وأحيانًا تميل قصته إلى أن تنتهي إلى ما يشبه "الخلاصة" و"الأمثولة" و"العبرة"، إنما دون حسم نهائي يسمها بذلك.
ما يسترعي الانتباه في قصص حسام المسكري هو الغموض، أو تذبذب السرد بين عدم الوضوح والوضوح. كتبنا قبل قليل إن غموض هذه القصص ليس مفتعلًا، ولعله –من ناحيةٍ ما- سمة مشتركة بين أغلب القصص الأولى لأغلب الكتَّاب، فكلما قصر نص القصة استدعى ذلك (تعويضًا) يشحذ همَّة السرد بغرابة الفكرة أو تضليل القارئ في مسالك مغازٍ ونهاياتٍ تتعمَّد تحييره. على هذا النحو يبدو الأمر كأنه استبدال حيرة بأخرى، أي هروب من عدم القدرة على الإمساك بزمام النص إلى إشراك القارئ فيه لكن بمعنى مقلوب، فهكذا يصبح النص ملتبسًا وفي الوقت نفسه يعتور القصور القراءة أيضًا!. وفي نهاية المطاف –إن صدق التحليل- سيعني الأمر استبعاد مشكلة اللغة وإحلال مشكلة الفكرة مكانها.
ليس هذا رأيًا صالحًا لتقديم كاتب. إن الكاتب الجيد لا يحتاج إلى تقديم، كما هو الشأن الآن مع حسام المسكري، فما هذه الأسطر العجول إلا احتفاء به ومراهنة على نتاجه المقبل وتوقع بأن يشق طريقه في كتابة السرد بصبر وأناةٍ وجهد وتمكُّن وتميُّز.
حيرة اللغة –إن صح القول، وبالمفهوم المكرر الذي تصنعه الشخصية الوحيدة التائهة العاطلة عن الفعل- لا وجود لها في كتابة حسام المسكري. هل تتعلق هذه الظاهرة بـ(مرحلة) و(جيل) أكثر من ارتباطها بكتَّاب؟. هذه ملاحظة عجول تحتاج إلى تحليل، لأن الظاهرة وشمت أغلبية لا تزال تراوح مكانها دون أن تدري بينما تعاقب جيلان آخران –إن صح القول في وسط بلا نقد ولا تأريخ للأدب- بنَفَسٍ آخر.
أحداث قصص حسام المسكري مكثفة توجز تفاصيل تقدم خلاصتها في سرد آسر ينم عن موهبة تتشكل بهدوء، وتبذل جهدها لتجنب الوقوع في الأخطاء المعهودة تلك، كما تبذل قصته جهدها لتجنب المفاجأة غير المفتعلة والزج بأفكار تعوق مجرى السرد. قصة المسكري تبدأ مثل بصيص، مثل ضوء خافت يقوم السرد بحمل القارئ نحو مصدره ليريه سطوعه لكن على نحو تحف به الغرابة والمفارقة والغموض، فعلى الرغم من شدة سطوع الضوء في نهاية القصة إلا أنها تتسم بتلقائية لا تتسرع ولا تنبهر ولا تتصنَّع، وفي الوقت نفسه تتسم بكونها نهاية مفتوحة على السؤال غير المجاب عن مغزاه. إن هذا أمر آخر يبدأ من نهاية القصة ويستمر بعدها، مثل ترجيع صدًى لا فرق بين كونه واقعيًّا أو متوهمًا، لأن مستوى سماعه لا يعلو ولا ينخفض ولا يتذبذب، إنه واقعي ومتوهم في الوقت نفسه، ولا يمكن الحسم بغير هذا!. التلقائية هنا تكتسب هذه الصفة بجدارة منبعها النقيض، أي الغرابة والمفارقة وغير المتوقع، ولذلك لا يبدو السرد مفتعلًا أو مقتحمًا بمفاجآت تُنصَب شِراكُها عَنوةً وبالإكراه ورغم أنف السرد. إن الأمور تحدث بتلقائية وتعقيد لأن النفس الإنسانية هكذا، فيها ما فيها من كوامن قصيَّة تعصى على التفسير المباشر الباتّ، في الأقلِّ في هذه الأثناء وبالنسبة إلى هذه الشخصيات.
تركز قصة المسكري على فكرة تولد أفكارًا، وتخلص إخلاصًا شديدًا لمفهوم القصة القصيرة من ناحية الإيجاز وتسليط الضوء على شخصية تقوم بفعل ما أو تنشغل به دون أن يتيح السرد للقارئ معرفة معلومات أكثر من ذلك تتعلق بتاريخ الشخصية. وأحيانًا تميل قصته إلى أن تنتهي إلى ما يشبه "الخلاصة" و"الأمثولة" و"العبرة"، إنما دون حسم نهائي يسمها بذلك.
ما يسترعي الانتباه في قصص حسام المسكري هو الغموض، أو تذبذب السرد بين عدم الوضوح والوضوح. كتبنا قبل قليل إن غموض هذه القصص ليس مفتعلًا، ولعله –من ناحيةٍ ما- سمة مشتركة بين أغلب القصص الأولى لأغلب الكتَّاب، فكلما قصر نص القصة استدعى ذلك (تعويضًا) يشحذ همَّة السرد بغرابة الفكرة أو تضليل القارئ في مسالك مغازٍ ونهاياتٍ تتعمَّد تحييره. على هذا النحو يبدو الأمر كأنه استبدال حيرة بأخرى، أي هروب من عدم القدرة على الإمساك بزمام النص إلى إشراك القارئ فيه لكن بمعنى مقلوب، فهكذا يصبح النص ملتبسًا وفي الوقت نفسه يعتور القصور القراءة أيضًا!. وفي نهاية المطاف –إن صدق التحليل- سيعني الأمر استبعاد مشكلة اللغة وإحلال مشكلة الفكرة مكانها.
ليس هذا رأيًا صالحًا لتقديم كاتب. إن الكاتب الجيد لا يحتاج إلى تقديم، كما هو الشأن الآن مع حسام المسكري، فما هذه الأسطر العجول إلا احتفاء به ومراهنة على نتاجه المقبل وتوقع بأن يشق طريقه في كتابة السرد بصبر وأناةٍ وجهد وتمكُّن وتميُّز.
أربع قصص للقاص حسام المسكري
أجمل خبر في الغرفة
استيقظ والصداع الرهيب يعوي في رأسه. نهض متثاقلاً وذهب إلى البراد شبه الخاوي- مثل ما هو كل شيء في حياته- وتناول إفطاره اليومي: حبتي مهدئ. ومن ثم بدأ يتجهز للذهاب إلى العمل، عله يكمل نومه هناك.
وصل إلى مكتبه بعد أداء الطقوس اليومية: التوقيع وتحية الصباح.
أمجد متى ستنتهي من المعاملة التي طلبها المدير؟ - قال زميله متسائلاً.
- لا أدري، ربما غداً.
- المهم المدير يريدك أن تذهب إلى مكتبه.
- أفّ من الصباح!!.
- أي صباح هذا؟ إنها الساعة العاشرة والنصف.
- لا يهم.
ذهب وهو يحرث عقله بحثا عن عذر يقنع به المدير.
طرق الباب.
- ادخل.
- قال لي سامي إنك طلبتني.
أجل، تفضل اجلس يا أمجد - قال المدير بهدوء. حيره هدوء المدير.
- أمجد لقد صبرت كثيراً على غيابك المتواصل، وعندما تأتي إلى العمل تأتي متأخراً ولا تقوم بأي شيء. لم تكن هكذا. لقد كنت واحداً من أفضل الموظفين. ما الذي جرى لك؟.
- أعتذر يا سيدي. أعدك بأن هذا لن يتكرر. وبالنسبة إلى المعاملة التي طلبتها مني سوف أنهيها اليوم.
- الأمر لا يتعلق بالمعاملة. لقد اتخذت قراراً كان يجب أن أتخذه منذ زمن. وبصراحة لا أدري ما الذي جعلني أضيع وقتي في مساعدة شخص لا يريد أن يساعد نفسه. أمجد اعذرني أنا مضطر لأن أطردك.
- لماذ لم تقل هذا من قبل؟ كنت سأستقيل وأريحك من كل هذا العناء - قالها أمجد بهدوء حير المدير هذه المرة- أتعرف، هذا أجمل خبر سمعته منذ أن توظفت هنا وإن لم يبدُ عليَّ الفرح.
- هل جننت؟ ما الذي يفرحك بطردك من العمل!!!!.
- أنا فرح لانتهاء سنين الغربة لأنني لم أقضِ خمس سنوات من عمري في الدراسة لأعمل في مجال ليس بتخصصي.
خرج أمجد من المكتب. ولأول مرة منذ ثلاث سنوات لم يشعر بذلك الصداع الرهيب يعوي في رأسه.
سِرُّ العينين الحزينتين
إنه اليوم المنتظر. كل شيء يدل على أنهم سوف يقبلوني في هذه الوظيفة. لم يبق أمامي سوى اجتياز المقابلة. لم أستطع النوم، فقد تحالف الخوف والحماس لمحاربة النعاس. صلَّيت الفجر، وتوكلت على الله، واتجهت إلى مقر الشركة باكراً، لأن نار الانتظار عند مقر الشركة أرحم من نار الانتظار في المنزل.
وصلت إلى المقر، وهناك رأيته؛ إنه عامل نظافة عادي لكن عينيه كانتا تفيضان بحزنٍ غير عادي. كان جالساً أمام المدخل ينظر إلى الفراغ. نهض من مقعد البلاط البارد عندما رآني خشية أن أطرده منه لأجلس، أما أنا فتسمَّرت مكاني، فقد كانت عيناه تحويان حزناً رهيباً جعلني أتجمد في مكاني، حزناً مهما حاولت فلن أتمكن من وصفه.
حييته بلطف علّي أطرد الخوف والحزن منه. رد التحية بابتسامة مقدار الحزن فيها أكبر من الفرح بأضعاف. حاولت أن أحدثه لكني لم أستطع، لا أدري لماذا وقفت أنظر إلى الفراغ ناسياً كل ما حولي، ولم يدر بعقلي سوى سؤال واحد: ما سر الحزن في عينيه؟.
دقت الساعة الثامنة، وفتح باب الشركة. ذهب كل واحد منا في طريقه. لم أستطع أن أنسى تينك العينين، فقد شغلتا كل تفكيري حتى طغتا على سبب قدومي إلى هذا المكان.
يا ترى ما كان سر حزنه؟.
أهو أب مريض أم هم أطفال جوعى لا يجدون ما يأكلونه أم هم أخوة يتامى حمل همهم مبكراً أم تراه الحنين إلى الوطن؟.
تمازجت الأسئلة في رأسي مثيرة دوامة تدور دون أن تستقر على مكان. حاولت أن أنسج في رأسي قصة تجيب عن هذه الأسئلة.
تارة أراه ابناً ترك دراسته بسبب مرض أبيه وترك البلاد بسبب الفقر، وتارة أراه أباً لعشرة أطفال لا يجدون ما يطفئ نيران بطونهم، لذا ارتحل إلى ما وراء البحار ليطفئ نيرانهم ولكنه لم يجد ما يطفئ به نيران الشوق إلى ابتساماتهم.
وتارة أراه أخاً أخذ على عاتقه الاهتمام بإخوته اليتامى دون أن يجد من يهتم به.
الفقر والغربة كانا مزيجين يرفضان ترك جميع القصص.
وبقيت هكذا أقفز من قصة إلى أخرى أبحث عن ما يجعل عينيه حزينتين إلى تلك الدرجة، ولم أع بنفسي إلا وقد خرجت من الشركة.
ما الذي حدث؟ متى خرجت؟ ركضت مسرعاً إلى داخل الشركة، واتجهت نحو موظفة الاستقبال كالمجنون:
- عذراً ما الذي حدث لمقابلتي؟ هل تأخرت؟ هل ألغيت المقابلة؟ هل ضاعت الوظيفة؟.
نظرت إليَّ باستغراب وقالت:
- سيدي، لقد أخبرتك قبل قليل بأن موعد توقيع العقد الأسبوع القادم في نفس الوقت.
- ماذا؟! كيف حدث هذا؟ ماذا عن المقابلة؟
- سيدي، لقد كنت الوحيد الذي نجح بالمقابلة ونجحت بامتياز.
قالتها وهي تنظر نحوي باستغراب وخوف.
أدركت عندها أني دخلت المقابلة وجاوبت عن الأسئلة دون وعي.
طرت من الفرح، وعدت إلى المنزل وأنا أرقص وأغني، ناسياً كل ما يتعلق بعامل التنظيف وعينيه الحزينتين، ولم أتذكره إلا وأنا أتأرجح بين الصحو والنوم، وعادت الأسئلة تعصف برأسي عن سر تينك العينين الحزينتين.
ما ليس له
لوحة أولى:
الصمت يعم المكان. قطرات ماء تنزل بانتظام موسيقي غريب. برد الشتاء ينخر عظامه ليخبره بأن الدفء ليس له.
خطوات صغيرة تقترب بخجل. صوت ارتطام بالمياه. ابتعدت الخطوات مسرعة.
قال لنفسه: "لا بد أنه طفل يرمي الحجارة في البحيرة".
أخذت الأصوات تتصادم وأصداؤها تترجَّع وتمتزج وتتشكَّل لتكوِّن له ما ليس له.
إن شعرها طويل وناعم ويستطيع أن يسرحه بيديه بكل سهولة، أما بشرتها فناعمة وطرية تشعره بخدر لذيذ بمجرد ملامستها، وصوتها سماوي يشعره بأنها ملاك قادم من السماء، لذا سمَّاها "ملاك".
تعود من مدرستها راكضة إليه، يسألها: "ماذا فعلتِ اليوم؟"، فتخبره كيف تفوقت على جميع أقرانها، وكيف أثنت عليها المعلمة، تقبل جبينه وتقول له: أحبك يا با...
تعود الخطوات مسرعة بعدما ألقت بخجلها بعيداً، وتنتشله من أحلام يقظته.
ها هي ملاك تأتيه راكضة لتغفو بين أحضانه. وقف ليستقبلها. تتعثر الخطوات. صوت سقوط يتبعه صوت بكاء صبي صغير. قال لنفسه بحسرة: "إنه فتى"، ومن ثم عاد للجلوس في مقعد البلاط البارد.
صوت خطوات تقترب بهدوء وتناغم. مهما كثرت الأصوات وتعالى الضجيج من حوله يستطيع تمييز هذا الصوت العالي بكل سهولة.
"حبيبي أحمد هل تأذيت؟".
كان صوتها رقيقاً وناعماً، وأيقظ بداخله مشاعر حرَّمها على نفسه.
مرة أخرى تصادمت الأصوات وأصداؤها وامتزجت لتكوِّن له ما ليس له.
لقد كانت امرأة من الأحلام لذا سماها "أحلام".
أمسكت يديه، أخذت تداعب وجهه بلطف ورِقَّة، همست في أذنه: "أنا لك وحدك يا حبيبي". قبَّلها و...
"لنذهب يا عزيزتي أخشى أن تمطر". صوت خشن وغليظ هدم كل شيء وأعاده من أحلام يقظته إلى حيث لا شيء له.
عصفت المشاعر بصدره، فاقتلعت الماضي وبخَّرت المستقبل. "لماذا أخذهما مني؟ ألا يحق لي أن أكون كغيري؟ لم عليَّ أن أعاني بينما هم يتمتعون بكل شيء؟".
خطوات ثقيلة تقترب نحوه. شعر بأنه هو المقصود هذه المرة. صوت ارتطام معدني. في هذه اللحظة بالذات أصبح أحب الأصوات إلى قلبه أبغضها إليه.
أراد أن يقول له: خذ نقودك واذهب، خذ نقودك وأعد إليَّ "ملاك" و"أحلام"، أعد إليَّ زوجتي وابنتي. أراد أن يصرخ بكل قوته إلى أن تتشظَّى السماء وتسقط عليهم جميعاً، لكن صوته في هذه اللحظة بالذات قرر ألا يكون له.
لوحة أخيرة:
جميع القطرات الباردة تلسع جسمه، باستثناء قطرة واحدة دافئة، كانت تسير على خده بلطف وحنان. هذه القطرة، هذه القطرة فقط كانت له.
حلم
هناك في ذلك المكان الغريب رأيتهم يحملون أحلامهم مثلما حملت حلمي في ذلك اليوم الأسود، يحملونها دون أي حاجز، يحملونها بيد عارية لتلامسهم ويشعروا بها. ها هم يحفرون الأرض بيد وباليد الأخرى يضمون أحلامهم إلى صدورهم. هل ماتت أحلامهم مثلما مات حلمي؟.
أجل، إنهم يدفنونها. لقد تكررت المأساة مرة أخرى. لِمَ تموت الأحلام في صباها؟.
سيرحلون الآن عنها، وفي صدورهم ثقب أسود حل محل حلمهم، ثقب يبتلع كل المشاعر ليترك صدورهم خاوية فتغدو ملعباً للريح والأقدار تلقي بها حيث تشاء دون هدف.
لقد انتهوا من دفن أحلامهم. لماذا لا يرحلون عنها؟!.
ما هذا؟! ماذا يفعل؟!.
إنه يروي التربة بعرَقه!.
وتلك الفتاة لم تكتف بالعرق بل قامت بريِّها بالدموع.
وذاك شخص آخر يقف مواجهاً الشمس الحارقة لتستظل تربة حلمه.
هل يعقل ما أراه؟ لا أصدق! لم تكن تلك الأحلام ميتة بل هي بذور تزرع.
عندها تذكرت حلمي، هل لا يزال على قيد الحياة؟.
يجب أن أجده.
ذهبت لأبحث عنه في أراضي ذكرياتي، أبحث عن المكان الذي دفنته فيه.
لقد كان مكانه بعيداً، أبعد من أن أتذكر. سقطت متعباً وقد أنهكني البحث في صحراء ذكرياتي، وقبل أن أغلق عينيَّ مستسلماً سمعت ذلك الصوت، صوت نسيم هواء يداعب أوراق شجرة بخفة ورِقَّة؛ هل يمكن أن تكون هي مصدر الصوت؟. لأجد شجرة خضراء تكاد أن تلامس السماء. أجل، إنها هي، إنها بذرة حلمي قد نمت وكبرت. هممت أحضنها فإذا بالنسيم يتحول إلى ريح عاتية تمنعني من الوصول إليها.
- لماذا؟ لماذا تمنعينني من الوصول إلى حلمي؟.
- أنا من طلبت منها ذلك - قالت الشجرة بصوت غاضب.
- لماذا طلبت إبعادي؟ هل نسيت أنني أنا أنا صاحبك أنا من قام بزراعتك؟!.
- لا، لم أنسك، أنت من دفنني وتركني لأموت. تركتني في صحراء خاوية أبكي وحيدة، فبكى الغيم لبكائي وسقاني، وفي ليالي الصحراء الموحشة كان القمر يحكي لي قصصاً عن أجدادي النجوم ليؤنسني. كبرت وحدي بينهم لذا لا حاجة لي إلى قربك.
- وقتها لم أعلم بأنك بذرة يجب عليَّ أن أعتني بها. لقد كنت أظن أنك ميتة قبل أن أتركك.
- كاذب، لقد كنت أصرخ وأصرخ وأنت تجاهلت صوتي بكل سهولة موهماً نفسك بأنك لا تسمع شيئاَ وأن صوتي مجرد تخيلات في رأسك.
- لقد أخطأت، وها أنا اليوم قد أتيت لأصحح غلطتي، لا تحاسبيني على جهل الطفولة، فحياتي بدونك غدت خاوية.
- أتتوقَّع مني اليوم بعدما كبرت وغدوت مثمرة أن أتركك تأتي وتقطف ثماري هكذا دون تعب؟. لا لن يحدث هذا. عُدْ من حيث أتيت، عد إلى حياتك الخاوية، أما أنا فسأستمر بالنمو لأصل إلى السماء وأكون بين أهلي من النجوم، يومها سوف تنظر إلى السماء بحسرة وتقول: هذا كان حلمي.
هناك تعليق واحد:
مشاء الله ياحسام ولله يوفقك في كل شئ
إرسال تعليق