11 فبراير 2012

الربان.. لا القربان!

عبدالله خميس

إلى الشجاع الطائش معاوية الرواحي

    يقال إن الإنسان بحاجة أحيانا إلى الصدمة ليرى الحقيقة أخيرا. الصدمة، على أية حال، علاج يندر استخدامه، أو هو بمثابة "آخر العلاج الكي". لا أحد يلجأ لأسلوب الصدمة ليكشف الحقيقة أمام فرد آخر إلا بعد أن يستنفد كافة خيارات العلاجات الأخرى المتاحة. نفعل ذلك أحيانا مع أصدقائنا الذين نحبهم والذين يهمنا أمرهم. كما نفعله، وإنْ كان نادرا، مع أنفسنا. لا يفعل ذلك مع نفسه إلا الشجاع الصادق، وقلة مِن البشر مَن يتحلى بهذه الصفات النبيلة.
    في الحياة، يميل المرء أحيانا إلى رفض تصديق ما توحي به المؤشرات على أنه حقائق. الموظف يرفض التصديق أن مديره في العمل لا يحبه حقا، رغم أن هذا الموظف مثال للتفاني. الزوج يرفض التصديق أن زوجته تتصرف بما يخالف ثقته فيها، حتى ولو كان الأمر مجرد إخبارها لصديقة لها بحادثة صغيرة جَرَت بينهما مما يعده هو سرا عائليا. الصديق يرفض التصديق أن بعض رفاقه في السهرة كانوا يتندرون عليه ويتغامزون بخصوصه. لا بد أن كلا منا قد مر يوما بموقف مشابه. إننا نرفض أحيانا تصديق مؤشرات الحقيقة المغايرة لما اعتدنا تصديقه والتعايش معه، لأن الحقيقة دائما جارحة في اللحظة الأولى--لحظة انكشافها، حتى وإنْ جلبتْ معها تاليا تصحيحا للأمور وإرجاعا للمسار الصحيح. يحدث لنا ذلك تجاه المجتمع من حولنا. يحدث أن نستمرئ النظر بعين مغمضة حتى عندما تتاح لنا فرصة أن نفتح كلتا العينين لنرى النور. إنها عادة بشرية تسعى لترسيخ السلامة في العيش في تجاهل، فإرادة التغيير أمر صعب وجلل، لا يُلقّاه إلا أولو العزم من البشر. إن الأصعب من أمر تقبل حقيقة جديدة تختص بالمجتمع المحيط بنا، هو أن نتقبل حقيقة تخص أنفسنا، ولذا فإن العلاج بالصدمة هو ما يلجأ إليه أحباؤنا أحيانا ليساعدونا على الإدراك.
    لستُ واثقا أنّ العلاج بالصدمة ينجح دوما، لكني أثق بنبل الغاية من ورائه في كثير من الحالات، كما أثق أنه ربما ما كان للمرء خيار سواه أحيانا. وإذا كان العلاج بالصدمة ينجح في العلاقات الفردية رغم ما يحفه من مخاطر وآلام ناتجة -في اللحظة الأولى- من عملية الصدمة ذاتها، فإن فرصة نجاحه على صعيد العلاقة بالمجاميع البشرية الكبيرة قد تكون أصعب بكثير من فرص نجاحه مع الأفراد. تبني المجتمعات صورا معينة لنفسها، مغلفة غالبا بإطار بهي من الكمال والإيجابيات والصفات البراقة، ومن يسعى لخدش هذه الصورة -حتى إنْ كانت صورة وهمية تماما- فإنه يتحول إلى ضحية أو يتم تقديمه كقربان. لا ترغب المجتمعات في خلخلة أمانها "المتوهم" الناتج عن تصديق أضلولة الصورة البراقة التي صنعتها لنفسها، لذا تجدها تقاوم أي شيء يحاول أن يقدم لها صورة لنفسها غير ما اعتادت عليه. إنّ العلاج بالصدمة هنا، حتى وإن تكلل بالنجاح في ظروف موضوعية معينة، فإنه لا بد له من ضحايا وكِباش فداء، ويتشكل هؤلاء -غالبا- من أولئك الذين أحدثوا الشرخ في المرآة الصقيلة--مرآة الصورة الخادعة. هكذا تصنع المجتمعات ضحاياها من خيرة أبنائها الذين يدفعون ثمن أنهم كانوا الأكثر صدقا ورفضا للكذب والتزوير والصور الوهمية البراقة.
    حين تقع جريمة قتل في مجتمع ما، أو تُكتَشف قصةٌ شنيعةٌ عن استغلالِ أطفالٍ جنسيا أو ما شابه ذلك، فإن المجتمع بكامله يتصرف دائما كما لو كان مصدوما بما حدث، وما ذلك إلا نتيجة لإيغاله في تصديق الأكذوبة التي نسجها عن نفسه بنفسه وصدقها؛ ألا وهي أنه مجتمع النقاء الذي "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه". لكن ذلك المجتمع، في حقيقته، يعرف قصصا كثيرة مشابهة لتلك القصة التي تصدمه حاليا عن القاتل المتوحش أو المغتصب الدنيء. الجديد في الأمر فقط أن القصة الجديدة قد صعدت للعلن أكثر مما ينبغي. لعل وسيلة إعلامية استغلتها للشهرة أو لغير ذلك من الأسباب، بينما اعتاد المجتمع أن يعالج قضاياه الشبيهة بالطي والكتمان. هنا يَعتبِر المجتمعُ من أنار الحقيقة وكأنه قد افترى، فلا أحد يريد أن يُصدَم بحقيقة "جديدة" كان قد قرر عامدا متعمدا أن يتغافل عنها. كاشف الحق سيصبح متهما بزعزعة استقرار المجتمع، مع أنّ سعيه كان -على المدى البعيد- لصالح المجتمع؛ فهو قد كشف المفسدة لكي لا يتكرر حدوثها في الكتمان، لكنْ عندما يختار المجتمع أن يعيش تحت مظلة "صورة الفنان في شبابه" (أيْ التماهي مع صورة مشرقة دوما) فإن النتيجة هي تقديم قربان جديد للحقيقة. نحن نحب القرابين بطبيعتنا البشرية. نحب من يحترق ليقول ما لا نستطيع قوله. نرجم من نسميها الزانية فقط لأنها أمتعتْ غيرنا ولم تمتعنا نحن ثم نتحجج بأنها كانت فاسدة مارقة. "لا كرامة لنبي في وطنه"، هكذا عبّر الأقدمون عن فهمهم الواعي للكيفية التي تتعامل بها عقلية القطيع مع من يحاول أن يوقد شمعة لتبدد الظلام. نحن البشر نحب القرابين وكثيرا ما قدمناها لآلهتنا المزعومة وللأنهار وحرائق الغابات وغيرها من القوى التي تخيفنا، ومازلنا نقدم القرابين لتظل صورتنا الوهمية الجميلة عن أنفسنا هي الوحيدة المتاحة. إننا نقدم من يكشف لنا شرخا في هذه الصورة قربانا يكفر عن رفضنا الخروج من نفاقنا الاجتماعي. نصنع من مصححي أخطائنا وكاشفي عوراتنا ضحايا لغطرستنا ورغبتنا الدائمة في النوم في العسل، رغم أن العسل الأكثر لذة يوجد عندما نصفي عسلنا من شوائبه التي لا نرغب في رؤيتها. من يحترقون لإنارة الطريق لنا هم قرابين الحياة المعاصرة في مجتمعات ترفض التغيير وترفض النقد الذاتي وتفضل الحياة في سُندس الوهم على الكفاح في معترك الحقيقة. نطالب بسحب الجنسية عمن يسعى لبناء وطن أجمل لنا، فقط لأنه استطاع أن يرينا أن الوطن الذي اخترنا أن نتوهمه مثالا لم يكن كل شيء فيه مثاليا. نذهب للنصف الفارغ من الكأس فنتهم الرائي بالعمى، ولو ذهبنا للنصف الممتلئ لعملنا معه حتى يرى الجميع نفس الصورة المعتدلة التي طالما كنا نراها مقلوبة. نحب تقديم القرابين والضحايا لأننا اعتدنا فعل ذلك، لكننا -بكل أسف- نضحي بالأصدق فينا والأنبل منّا من أجل أن تحيا صورتنا المتوهمة برّاقة بريق الفالصو وليس بريق الذهب.
    أيها الضحية، يا رُبّان الأمل ومشعل الصدق.. نعلم كم تعذبتَ حتى تستطيع أن ترى، وكم تألمت كي تجعلنا نبصر. لتكن رُبان حريتنا، فنحن بك أحرار، ولن نتركهم يصنعون منك قربانا جديدا. لتكن الربان لا القربان، ولنتعلم منك أن نكون صادقين مع ذواتنا حتى نذوق طعم الحرية كما تذوقتها أنت أخيرا ولم تعد تخشى شيئا.. فهنيئا لك!

ليست هناك تعليقات: