07 مارس 2012

في رثاء عبدالله أخضر ..أفول بدر ألف ليلة وليلة

محمد الحضرمي


الكاتب الراحل عبدالله أخضر.. غياب مفاجئ في ريعان الشباب
صَباح كئيبٌ، حمل إليَّ خبر وفاة الكاتب والقاص عبدالله بن أحمد الحارثي، والمعروف أدبيا: "عبدالله أخضر"، فتحت الرسائل التي تدفقت فجأة في جسد هاتفي الإلكتروني، حاملة نعي صديق الكُتَّاب، والبُداة، والجمال، والصَّحاري، صَديق السُّياح الأجانب من جنسيات العالم وألوانه وأعماره، صديق العالَم، حيث كان يعيشُ في مخيمه "ألف ليلة وليلة"، المزروع كشجرة خضراء، في وسط صحاري بديَّة، هناك لفظ عبدالله أخضر أنفاسه الأخيرة، حيث هاجمه الموت، بضراوته، وشراسته، دون أن يمهله لحظة قصيرة، ليودع شقيق روحه: محمد الحارثي، أو ابنته "وصال"، أو أصدقاء المخيم الجميل، المزروع في وسط الصحراء الذهبية، ودون أن يقول للعالم كلمة وداع أخيرة، ينامُ عبدالله في سريره، لتطول نومته إلى الأبد، ويعيش مع نفسه العشاء الأخير في مائدة الحياة، وهو الذي حوَّل حياة أصدقائه إلى ألف ليلة وليلة، باذخة بالدعابات، والحكايا، والقصص، والضحك، والاشراقة التي تشع من عينيه.
مات عبدالله أخضر، الاسم الأدبي الجميل الذي اختاره بمحض إرادته، موقعا به نصوصه القصصية، وملونا به حكاياته، وتفاصيل أسراره، لماذا اخترت يا عبدالله هذا اللون؟، سؤال لطالما احتفظت به في نفسي، ولم اسألك عنه، رغم معرفتي بك منذ ما يزيد عن عقدين من السنين، رغم اللقاءات بك، التي تسمح بها الحياة، وكلما التقيتك نثرت عليك عنائي من الحياة، وتقابلني بابتسامة دافئة، وكأنك تقول: وماذا عن عنائي أنا!.
ذات مرة، باركت مشروعه، ولكنه كما وصفه: "شغل مكدَّة"، بحاجة إلى عزيمة وإصرار حتى ينجح المشروع، لقد نجح، وتقافلت على المخيم الوفود الأجنبية، من كل حدب العالم وصوبه النائي البعيد، في تلك البقعة الصحراوية، المسورة بحزام ذهبي من الرمال الناعمة، والتي تبدو كقصيدة غزل تتلفظ بها شفاه الربع الخالي، هناك بقعة ملونة بالخيام الدافئة، خيام ألف ليلة وليلة، خيام فندق من فئة خمسة نجوم، أقامه خيمة خيمة، وأثثه كراسي وأسرَّة، وهيَّئه لاستقبال كبار السواح العاشقين للصحراء، ولنسمات الكوس وهي تهب من أعالي رمال بدية، في الأسحار الباردة.
هناك نصب الناسك خيمته، ودار حول دائرته الروحانية، فقرأ عزيمة الجَذب، ليأتيه العالم من كل حدب وصوب، الجَميلات من مختلف الجنسيات، الأدباء، الشعراء، الفنانون، عشاق الألق والحَياة، البُداة الأنقياء، الأصدقاء، والفضوليين، كلهم حجوا على مخيم ألف ليلة وليلة، وطافوا على أرائكه، واستراحوا في أسرَّته، وغاصوا في الرمال، وامتطوا ظهور الجمال، واكتحلت عيونهم بألوان الشفق، بعد أن تجرَّ الشمسُ خيوطها الحريرية، وتغوص في الأفق، ثم يفيقون مبكرين، لتشرب عيونهم الفجر، وهو يرسل أنواره الفسفورية.
عرفتك أيها الأخضر الجميل، ألقا واعدا، وشجرة مثمرة بالمَحبَّة والضحكات والكرم، وأياديك البيضاء لم تضمها على من تعرفه، لم تكن يدك مغلولة إلى عنق البخل والتقتير، بل كانت مبسوطة كل البسط، متناهية السخاء، بامتداد الصحراء الفسيحة التي خبأتها في قلبك.
عرفتك من قريب ومن بعيد أيضا، فكنت في القُربِ والبُعد واحِد، وكانت لياليك كلها بيض، لأنك كنت فيها البدر المنير، والقمر الذي لا تتكدر لياليه، وفي روحك انطوت المنازل.
- هل تنشر لي نصا؟
- نعم سأنشره يا عبدالله، ولك مساحات الحب مفتوحة قبل صفحات شرفات.
- سأرسل لك نصا جديدا..
- أرجوك لا تتأخر، كي أحتفي به.

لماذا انقطع هذا الحوار الأخوي فجأة؟، وأين أخذتك الأيام بعيدا عن محبيك وقرائك، أعرف أن أحبابك هم ذاتهم أحباب الشاعر الشنفرى، طريد المدينة، وعشيق الصحراء، أعرف أنك لا تكتب الشعر، لكنك تكتب القصة المُقطرة كقصيدة شِعر، وأعرف أيضا أنني أتذكرك كلما طاف في خيالي بيتا الشنفرى: (فقد حُمَّت الحاجات والليل مقمرٌ .. وشدت لطيات مطايا وأرحل .. وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى .. وفيها لمن خاف القِلى متعزل)، أعرف أنك نأيت بعيدا، في معتكفك الصَّحرواي، ومعبدك الرملي، وأنت تتجاذب أطراف الحديث مع أصدقائك، وزوارك، وسمارك، وكائنات الليل اللامرئية.
أخضر بروحك المحبة للآخر، وبشقائك بالحَياة، وبتشاقيك عليها، أخضر بروحك الآسِرة، وبنصوصك القصصية، أخضر بسَخاء يدك، ورحابة صدرك، ودفء مشاعرك، أخضر بقلمك، الذي قررت ان تغمده في "تلبيسته"، وتضع النقطة بعد الكلمة الأخيرة، في أول ليلة مقمرة من ليالي البيض، لتستريح أخيرا في رحم أمك الأرض. ستفقدك الليلة الثانية والثالثة، ليالي الهجوع والوصال، في مخيم ألف ليلة وليلة، وستفتقدك الشمس في مزرعة "نهار"، وعليك رحمة الله وغفرانه.

ليست هناك تعليقات: