هدى حمد
2012-06-22
'متى يجي دوري، لأزج في السجن'، الذي استقبل في الفترة الماضية عددا ممن أطلق عليهم الإدعاء العام، ومن ثم الإعلام 'المسيئين'، لا لشيء إلا لأنّ لهم رأيهم المختلف، وليسوا هم وحسب من دخل السجن، بل حتى أولئك الذين وقفوا بسلام مستندين على حقهم الطبيعي في الاعتصام، من أجل الإفراج عمن يعنيهم أمرهم، أُخذوا هم أيضا إلى 'سجن سمائل' بدعوى أخرى، أطلق عليها 'التجمهر' من دون أن يُوجه لهم اتهاما محددا أو مذكرة اعتقال أو قرار من محكمة، وكأننا نعيش زمن الدول البوليسية، وقد سلب منهم حتى حق تعيين محام للدفاع عنهم.
حسنا دعونا نُسلم ونقول إن هنالك من كتب بعض التجاوزات، وانتقد بعبارات لا تليق، وبأسلوب غير معتاد لدينا في عُمان.. دعونا نقول إن هنالك من كان استفزازيا بعض الشيء، وناسفا لمنجزات الاثنين والأربعين عاما التي بجّلها ولمعها الإعلام التنموي، وصنع منها أسطورة لا تنسى، ومن ثم أتى إعلام جديد لا تحده سماء ولا أرض ليقول إن الصورة ليست بذلك البياض الناصع، وأن زمن الأساطير انتهى .. بالتأكيد لم نكن نتوقع أن يُصفَّق لهؤلاء، وان يأخذوا بالأحضان.. وبغض النظر إنّ كنا مع ما كتبوا أو ضده، بغض النظر إنّ كان رأيا نزيها، أو تتخلله مطامع شخصية، بغض النظر إن كان قاسيا ومحبطا، أو عادلا وجوهريا.. بغض النظر عن كل شيء .. لا يمكننا أن نغض النظر عن ردة الفعل التي تعودنا أن تكون مدروسة وحكيمة ومقنعة كما هو حال سياسة عُمان المعروفة عالميا، إذ أننا تفاجأنا بأن يُسحب أحدُهم من مقهى، وآخر من على الحدود؟ وثالث ورابع وخامس.. وكأنهم مجرمون.
فهل هي محاولة لبث التخويف بين الناس لردعهم في توقيت حرج كهذا، يخرج فيه العالم العربي بصدور مفتوحة إلى الموت من أجل الحياة الكريمة .. هذا الشكل من أشكال المعالجة للمشكلة للأسف الشديد لا يؤدي إلا إلى تصاعد التوتر بين الناس، كما يخلق شكلا من أشكال انعدام الثقة بين الإنسان العماني والحكومة التي تدير الأمر برمته، وهذا ما لا ينبغي أن نصل إليه.. أعني لا يجب أن نصل إلى مرحلة أنّ كل من هو مختلف معنا بالرأي مستهدف ومراقب.
فهل ما تسعى إليه السلطات الآن هو إعادة البلد إلى عصور التخويف بقوانين بعضها مخالف للاتفاقيات الدولية؟ وهل هذا التوقيت صالح لذلك كما كان صالحاً من قبل بمعنى آخر: هل على أحدنا الآن أن يضع شُرطيا في ذهنه، وآخر على قلمه، وثالثا على لسانه، لكي لا يزل بكلمة يدفع ضريبتها الفادحة لاحقا على اعتبار أنّ هنالك من يترصد لنا، ولعقولنا، ولحقوقنا الطبيعية في الاختلاف وعدم التشابه مع الصورة التي كان عليها آباؤنا، وأجدادنا الذين ذاقوا حلاوة التغيير، وذاقوا طعم الحياة الجديدة، فشعروا بالامتنان، بينما نحن جيل جديد فقد القدرة على الانبهار، في ظل مشاهدتنا الأوسع للعالم، وفي ظل فهمنا الجديد الذي لا ينبغي أن يُحاصر ويكتف.
جاءت الاعتقالات بعد أيام قليلة فقط من تهديد ووعيد الإدعاء العام العماني بأنه سوف يتخذ كافة الإجراءات القانونية المناسبة ضد كل من يقوم بالكتابات 'المسيئة' والدعوات 'التحريضية' التي تصدر من بعض الأشخاص بحجة حرية التعبير عن الرأي.. جاءت في الوقت الذي تكشف لنا فيه أنّ الكثير من الوعود لا تزال على رف الانتظار، وأهمها تلك المتعلقة بتحسين مستويات المعيشة.
والسؤال الآن: هل المطالبة بالتعليم الجيد وخدمة الصحة، والوظيفة، واستكمال تنفيذ الامتيازات التي أمر بها السلطان في مراسيم صريحة يعود نفعها على الشعب.. هل يعد هذا تحريضا؟، وهل المطالبة بالقضاء على أشكال الفساد في البلاد يعد 'إساءة' مثلا؟.
أليس من حق الجيل الجديد أن يستيقظ مما خُدِّر به سنوات طوالاً بواسطة الإعلام التنموي..عندما لا يجد أحدنا المدرسة الحكومية التي تُحقق له طموحه، ولا يجد المستشفيات التي تستوعب آلامه وجراحه فضلا عن تخبطه بالأخطاء الطبية، أليس من حقه أن يستيقظ من سباته وهو ينجح في الشهادة العامة، ولا يجد جامعة ..كلية.. معهدا يحتويه إلا من رحم ربي من أبناء 'الهوامير' الذين سيدفعون جيدا لتعليم أبنائهم، ليزداد الفقير فقرا والغني غنى، لتتولد طبقية لم يألفها المجتمع العماني من قبل، عندما تغيب الطبقة المتوسطة القائمة بينهما.. فلا حيلة للفقير إلا أن يقبل بوظيفة متدنية، لأنه لم يتمكن من الدراسة، وقد تكون وظيفته في شركة.. والأغلب أنه لن يترقى، وبالتالي لن يتمكن من أن يكون له بيت وزوجة وأطفالا.. وقد يحقق أحلامه، ويدفع ثمن ذلك طويلا عندما تقصم الديون ظهره إلى آخر العمر.
فقد دربت العين العمانية على أن تقع مباشرة على الوظيفة الحكومية لأنها تعني الحوافز الأفضل، والضمان الأهم للحياة المقبلة. وما عداها فهو تحصيل حاصل، وكثيرا ما يقع تحت سلطة 'اللوبيات' الأجنبية، فيما يغيب المستثمر العماني أو يُغيَّب عن المشاريع المحلية.. إما بسبب العراقيل التي توضع في وجهه، أو ربما بسبب كسله.. وإن جئنا إلى سيرة الديون والفوائد المرتفعة، فهي قصة أخرى من قصص احتقان الشباب، فمن منا لم يكتوِ بنارها راغبا، أو مرغما، وعندما استبشرنا خيرا بتخفيض الفائدة..صدمنا عندما اكتشفنا أنّ التخفيض لم يتعدَ واحداً بالمئة.
والسؤال أيضا: إذا كان هذا هو حالنا الآن في زمن النفط..أعني أننا بلد بلا تعليم جيد، بلا خدمة صحية جيدة، بلا استثمار جيد للطاقة البشرية، وبتكدس كبير في عدد الباحثين عن عمل، بالرغم من أنّ الإحصاءات تشير إلى أنّ عددنا لليوم لم يـــــبلغ ثلاثة ملايين بعد، ونحن أيضا بلا استثمار جيد لمواردنا السياحية الخصبة، فيا ترى ما هو حالنا عندما ينفد النفـــــط؟ بماذا سنواجه العالم والحياة؟ وهل سنعود إلى ما كنا عليه قبل السبعين حقا، كما تكهن البعض السؤال الآن هو: لماذا يخــــرج الجيل الشاب إلى الشارع؟، وما هي طموحات الشاب العماني اليوم؟.. هذا ما يجب أن تطرحه الحكومة العمانية على نفسها.. إنّ طموح الشاب العماني، دعونا نقول الأغلبية لم يكن يتعدى الحصول على الحياة الكريمة، من تعليم وصحة ووظائف كما ذكرنا سابقا.. ولكن يمكن لهذه الأمنيات الصغيرة أن تتصاعد وأن تكبر كأن يطالب الشعب بضرورة وجود رئيس للوزراء من خارج الأسرة المالكة ينتخبه الشعب، وهذا حق طبيعي، كثـــيرا ما يرتبط بتطور الوعي، وتطور فهم الإنسان، فالمسألة أيضا أبعد مما يقـــال أنه تأثر سلبي أو عدوى بما يدور في الشارع العربي الذي يضخ الكثير من الحماسة في أرواح الشباب المندفعين نحو الحياة التي يفترضون أنها أجمل.
فالضغط النفسي والاعتقالات والمضايقات لن تُعيد الأذهان إلى أقفاصها مجددا، بل ستولد إنسانا عمانيا جديدا، يتعاطى مع فهم مختلف للحياة، وللعبة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية..
أتذكر الآن الكثير من المواهب العمانية التي فرت إلى الخارج، لتجد فرصتها الذهبية للتنفس.. من كُتاب، وإعلاميين، ولاعبين، وممثلين، وباحثين عن الرزق، وكأن هذا البلد طارد للمواهب بالرغم من اغتنائه بها، طارد لأشكال الاختلاف.. فالمسألة أبعد من مقياس 'من يدفع أكثر' كما يروج دائما بأنهم أشخاص يتبعون من يدفع لهم أكثر، وهذه المسألة تذكرنا دائما بأجدادنا الذين هاجروا إلى عوالم شتى من أجل العلم والرزق الذي لم يجدوه في بلادهم قبل السبعين، وكأن الدائرة تدور وتعود إلى نقطة بدايتها مجددا..
الغريب أننا وحتى في ظل الحيز الالكتروني الواسع نشعر بأنا مراقبون، بل إنّ الأمر يصبح قانونيا للغاية، وهو يستند على قانون تنظيم الاتصالات.
لكن أيعقل أنّ التغيير الذي صفقنا له عندما تولى زمامه من نثق به وبثقافته ورأيه، أن يصدمنا بالأفكار الكبيرة التي خرجنا أفواجا من أجلها في فبراير2011، وأن نكتشف أن التغيير لم يكن يتعدى تبديل وجه مله الناس بوجه آخر لن يلبث أن يمله الناس .. فلا سلطة لمن مسكوا المناصب، ولا حول لهم ولا قوة.
أيعقل أنّ المسألة برمتها لا تكمن في البشر الذين يعينون في المناصب، وإنما في التوجيهات التي تأتي من الأعلى.. وكأن الوزراء مجرد منفذين للأوامر، بلا صلاحيات إضافية فمن كان يقبل أن يشاهد في توقيت حرج كهذا على سبيل المثال- حلقة خاصة في تلفزيون سلطنة عُمان في برنامج 'شؤون الساعة' عن الاعتقالات، ولا نسمع فيها سوى صوت واحد، وهو الصوت الذي يأتي مع تقنين الحرية، ووضعها بمقاسات تلائم تكميم الأفواه في زمن الفيس بوك والتويتر والفضاءات المفتوحة، فلماذا لم تتم استضافة الكتاب ليعبروا عن وجهة نظرهم أيضا؟ على الأقل لذر الرماد في العيون كما يقال، ولماذا لم تُقدم الصحف هي الأخرى عبر المواضيع والمقالات رأيها، وتحليلها فيما يحصل الآن في البلاد؟ ترى هل كان علينا أن نقبل خدعة الخبر المحلي الذي يتصدر الصفحة الأولى من الصحف، والقضايا المحلية التي تبث في أخبار العاشرة لنخدع أنفسنا بحرية الإعلام التي بدأنا نقطف ثمارها.
أظن أنّه لولا التحرك الذي قامت به جمعية الكتاب والأدباء عبر البيان الذي تقدمت به، وتمريق بعض المقالات بصعوبة من هنا وهناك في الفضاء الالكتروني، لما كنا نعرف ما يحصل في بلدنا الآن.
والمضحك المبكي أن نقرأ في البيان الذي قدمه الإدعاء العام أنّ الكتاب لم يستخدموا الوسائل القانونية للتعبير، الأمر الذي يثير فضولنا بالتساؤل: 'ترى ما هي الوسائل القانونية للتعبير يا ترى التي كان يجب أن يعبر بها الكتاب ليصبحوا محميين من الاختطاف؟ والسجن؟ وهل الخطأ في الطريقة التي استخدموها، أم في المواضيع التي طرحوها؟.
وإلى جوار الرجال، فنحن بصدق نفخر بالنساء اللواتي وقفن بجرأة ليعبرن عن رأيهن من دون خوف أو نكوص في مجتمع يُجيد النهش والقيل والقال، ومن دون الخوف من الموت جوعا أو عطشا في السجن، وهن يعلن الإضراب عن الطعام والماء في جو حار كهذا.. إنه الإخلاص من أجل القضية التي يؤمنَّ بها، رغم كل ما يُشن ضد البعض منهن من حملات الكترونية تندس مباشرة في اللحم.. نعم.. إنّها الحرب النفسية التي شنت ضد البعض، لمحاولة وضعهن في إطار مضلل، وقد تكشف الأمر الآن، ولم تعد مثل هذه الحيل تنطبق على المتفحص في الأحداث المتتابعة..
حسنا لنكن أكثر صراحة مع أنفسنا.. كانت هنالك الكثير من القرارات الآنية التي طرحت كحل لاحتواء الاعتصامات العمانية، تلك القرارات التي لم تكن أكثر من ردة فعل آنية لاحتواء الغضب، ولإعادة الناس إلى بيوتها، لشراء صمتهم من جديد، وربما قدمت تلك الحلول الآنية بحسن نية، فليس لنا الحق في تقييم النوايا، إلا أنّ المخدر سرعان ما فقد مفعوله.. عندما رأى الطالب نفسه مجددا بلا موقع تعليمي، والباحث عن وظيفة بلا وظيفة، وأولئك الذين فرحوا بالمئة وخمسين ريالا لحين الحصول على وظيفة، وجدوا أنّ حسناتها تأتيهم مرة وتغيب مرات أخرى.. بالتأكيد لا يمكن أن نطلب من حكومتنا أن تكون فاضلة، وأن تكون بدون باحثين عن عمل، وبدون أخطاء، فمدينة أفلاطون غير ممكنة التحقق، وبالتأكيد لا يمكن أن نقول بأن بلدنا فارغ وبدون منجزات، ولم يقدم شيئا لنا.. ولكننا تعبنا من المباهاة بالمنجز، وبتلميع الصورة في الداخل والخارج، وقد آن الأوان لحكومتنا الموقرة اليوم أن تحلل، وأن تناقش وأن تراجع الاثنين والأربعين عاما بشكل جاد، كما نتمنى أن تفتح أذنيها قليلا للشباب وأن تأخذ بالسمين من آرائهم، وتترك الغث. لا أن تسارع في كبتهم، وتكييف القوانيين ضدهم.. لنسلم بأن الكتاب والمدونيين أخطأوا.. فلماذا لا يحلل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء ما يحدث على الساحة العمانية، بدلا من تقديم مصطلحات جاهزة من قبيل 'المسيئين؟.
المسألة الآن أصبحت أضيق من السابق.. أعني من فبراير 2011 حيت كان رجال الأمن يكتفون بالمراقبة عن بعد، ولم يتخذوا أي إجراء إذا ما بقي الاعتصام في حدوده السلمية، ولكن المسألة ضاقت الآن، وأصبح تدخلهم فجا، ومقلقا لا يحل المشكلة بقدر ما يجعلها تتفاقم.. وكيف نقول بأننا في بلد ننعم فيه بحق الاعتصام السلمي إذا كانت السلطات تقطع جميع الطرق المؤدية إلى مواقع الاعتصام، وتعمل على 'فركشة' التجمعات بحجة التجمهر.
لا يمكن اليوم أن يتم تجهيل الشاب العماني، وإغماض عينيه، إذ لا يمكنه أن ينحني بالشكر والعرفان كما فعل آباؤه من قبله، وعلى الحكومة أن تعي الزمن الجديد ومتطلباته، ولو استمرت هذه السياسة فذلك ينبئ عن أنّ سجن 'سمائل' سيمتلئ عن بكرة أبيه، إذ أنّ سياسة السوط لم تعد تجدي نفعا.
' كاتبة عمانية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق