يوسف حطيني
يطلّ العُمانيّ سالم آل تويّه على القارئ العربي برواية عنوانها «أيوب شاهين»؛ ليقدّم نموذجاً جيداً لرواية الشخصية، لا كما يشير عنوانها فقط، بل كما تشير أحداثها وعلاقاتها التي تتمحور حول أيوب، ولا تتيح للحكايات الصغيرة فرصةَ الظهور إلا بمقدار ارتباطها به.
أيوب اللامنتمي بالقوّة: البحث عن الجذور:
على مدى صفحات الرواية، حتى تلك التي تمتد عميقة في الماضي، يجتهد أيوب في الانتماء إلى بيئته عبر أقنومين إنسانيين خالدين هما الحب والإيثار، غير أنه لا يجني في أكثر الأحيان إلا الخيبة، يعمل حارساً للعيادة، كما يعمل خيّاطاً ليجني رزقاً يدّخره للآخرين، ويصوم عن الآخرين رغبة في تطهير النفس، وفي السمو بها إلى مصافّ الوجد الإنساني.
وحين يخوض أيوب تجربة الحب مع حميدة، يكتشف أنه يخوض معركة، هو فيها الطرف الأضعف، في مواجهة أهلها، فأصله من (مكران)، علماً أنه لم يرها في حياته، بينما ينتمي أهلها إلى سلالة شريفة (!!) يكشف السرد لاحقاً أنّها ليست كذلك.
ولعل طوفان النسيان الذي عاناه أيوب بالتزامن مع مرضه، مترافقاً مع ضعف الإدراك، أتاح لأيوب أن يعلن عن موقفه تجاه قضية الانتماء التي واجهته بقسوة قبل سنوات عديدة، لتقضي على مستقبل علاقته بحميدة، فقد «رفض يحيى بن صقر رفضاً قاطعاً مهيناً خطبته لابنته حميدة. كان على أيوب الإصغاء لتذكير يحيى بن صقر بأنه من مكران، وأنه ليس عربياً، ويجب أن يلتزم حدوده، ويعرف أن مقامه أضأل من أن يقترن بواحدة من هذه القبيلة النقية العرق».
وفي مواجهة هذا الاقتلاع من الجذور، وتحديداً في ذلك اليوم الذي تعرّض فيه أيوب ووالده لاحتقار يحيى بن صقر؛ إذ عيرهما بأنّ أصلهما من مكران، تولدت في نفسه رغبة في حرق العلم، وعلى الرغم من أن لا يعرف لنفسه وطناً آخر سوى الذي ولد فيه ونشأ.
مثل هذا العجز في بيئة طاردة، ولّد لديه لاحقاً (بعد أن أخذ المرض مداه في جسمه وروحه) حنيناً نحو جذور لم يكن يشعر بها، جذور تتسرب إلى (لا وعيه)، وتبرز في أوقات التجلّي، حيث تدفع التهيؤات ما استتر من المشاعر والدوافع في الباطن إلى ساحة الظاهر.
وفي مثل تلك الأوقات نرى أيوب، اللامنتمي بالقوة، يفزع إلى مكران، حيث يمكن أن يكتسب الانتماء بالفعل، وحيث يمكن أن يتزوج حميدة، في خياله فقط، ذلك أنه عجز عن القبول بعرضها حين اقترحت عليه الهرب الذي بقي يداعب لا وعيه، بوصفه فكرة حالمة للاجتماع بمن يحبّ.
وحين يخوض أيوب تجربة الحب مع حميدة، يكتشف أنه يخوض معركة، هو فيها الطرف الأضعف، في مواجهة أهلها، فأصله من (مكران)، علماً أنه لم يرها في حياته، بينما ينتمي أهلها إلى سلالة شريفة (!!) يكشف السرد لاحقاً أنّها ليست كذلك.
ولعل طوفان النسيان الذي عاناه أيوب بالتزامن مع مرضه، مترافقاً مع ضعف الإدراك، أتاح لأيوب أن يعلن عن موقفه تجاه قضية الانتماء التي واجهته بقسوة قبل سنوات عديدة، لتقضي على مستقبل علاقته بحميدة، فقد «رفض يحيى بن صقر رفضاً قاطعاً مهيناً خطبته لابنته حميدة. كان على أيوب الإصغاء لتذكير يحيى بن صقر بأنه من مكران، وأنه ليس عربياً، ويجب أن يلتزم حدوده، ويعرف أن مقامه أضأل من أن يقترن بواحدة من هذه القبيلة النقية العرق».
وفي مواجهة هذا الاقتلاع من الجذور، وتحديداً في ذلك اليوم الذي تعرّض فيه أيوب ووالده لاحتقار يحيى بن صقر؛ إذ عيرهما بأنّ أصلهما من مكران، تولدت في نفسه رغبة في حرق العلم، وعلى الرغم من أن لا يعرف لنفسه وطناً آخر سوى الذي ولد فيه ونشأ.
مثل هذا العجز في بيئة طاردة، ولّد لديه لاحقاً (بعد أن أخذ المرض مداه في جسمه وروحه) حنيناً نحو جذور لم يكن يشعر بها، جذور تتسرب إلى (لا وعيه)، وتبرز في أوقات التجلّي، حيث تدفع التهيؤات ما استتر من المشاعر والدوافع في الباطن إلى ساحة الظاهر.
وفي مثل تلك الأوقات نرى أيوب، اللامنتمي بالقوة، يفزع إلى مكران، حيث يمكن أن يكتسب الانتماء بالفعل، وحيث يمكن أن يتزوج حميدة، في خياله فقط، ذلك أنه عجز عن القبول بعرضها حين اقترحت عليه الهرب الذي بقي يداعب لا وعيه، بوصفه فكرة حالمة للاجتماع بمن يحبّ.
المنتمي بالفعل: شبكة العلاقات الصغرى
إذا كانت قضية الانتماء قد وجدت في الحنين إلى مكران بديلاً روحياً في نفس أيوب، فإنّ شبكة العلاقات الصغرى شكّلت بديلاً مادياً، لم يبدُ في نطاق مواجهته مع ظرفه القسري الذي حرمه من حبيبته، ولكنه بدا متأخراً بعد مرض أيوب، إذ استطاع هذا الشاب من خلال طيب أفعاله أن يجمع حوله كثيراً من المحبين والأقارب الذين ازدحم بهم المستشفى، ليكون ذلك «جائزة ترضية» له قبل الوفاة. وإذا كانت اللطمة التي تلقاها الطبيب موهن من قبل دوست (زوج الخالة سكينة)، جزاء إهماله في علاج أيوب، أمراً لا تقرّه الأعراف الاجتماعية، فقد جاءت تعبيراً صارخاً عن مدى الحب الذي يحمله دوست في قلبه تجاه أيوب، وعن مدى الغضب الذي يحمله دوست، ومن معه، تجاه الإهمال والفساد اللذين أخّرا علاج أيوب، وأدّيا من ثم إلى وفاته.
لقد كان أيوب على علاقة طيبة مع الجميع، مع المعلّمة زمان، ومع الدكتور حسن الذي كان يتعاطف معه ويعالجه، ومع الخالة سكينة، ومع الأصدقاء، وقبل ذلك مع حبيبته حميدة، ومع أبيه وعمّه، ومع أمه التي لم يكن حضورها بارزاً، لا في سرده، ولا في حياته.
لم يبخل الأب بحضوره طيفاً، بعد غيابه واقعاً عن حياة أيوب، إذ ما زالت عينا أيوب «ترنوان إليه منذ أن لم يستيقظ لصلاة الفجر، ووجده ميتاً على فراشه في دعن الحوش»، وكذلك يحضر معه كل من الأم والأخ، في أكثر اللحظات صفاء وقدسية. ويطرح الروائي من خلال شخصية لقمان مراد عم أيوب نموذجاً ينتمي إلى شبكة العلاقات الصغرى في حياته، هو نموذج «الثائر المتمرد» الذي يعدّ أحد نماذج الشخصيات الجاذبة في السرد، ومن الطبيعي أن يجتذب لقمان ابن أخيه إلى أفعاله وأفكاره، فهو ينتمي إلى جبهة ثورية، وهو مثقف يتحدّث بلغات متعددة، وحريص على نقل تجربته وأفكاره إلى الآخرين؛ لذلك يتحدث أمام أيوب الصغير بالعربية الفصيحة التي يتقنها إلى جانب الإنكليزية والفارسية والأوردية؛ ولأنّ الروائي يدرك أبعاد هذه الشخصية الجاذبة، وأثرها في أيوب، فقد جعل مصيرها غامضاً، يليق بمحافظتها على ذلك الجذب، من خلال صوغ ثلاثة أخبار متناقضة حول نهايته، الأول يشير إلى أنه سجن خمسة عشر عاماً، ثم تم إعدامه بالرصاص، والثاني أنه أخلي سبيله بعد هذه المدة، والثالث أن تم إعدامه بالرصاص بعد أن تم اعتقاله بثلاثة أيام.
أما حميدة التي تنتمي إلى تلك الشبكة الصغرى من علاقاته، فقد بقيت على الرغم من زواجها الأقرب إلى التأثير في قلب أيوب وفي روحه، لأنها كانت أكثر منه جرأة، على مدى علاقتهما، وثمة إشارات سردية متعددة إلى جرأة حميدة، مقابل انكفاء أيوب، فهي تعطيه صورتها حين يأتي إلى بيتها حاملاً دشداشتي أرشد ومحمود، وهي تعرض عليه في آخر لقاء بينهما، بعد الرفض المهين لخطبته من قبل أبيها، أن يهربا معاً إلى صحار أو البريمي أو حتى مكران، وهي تنتقم من زوجها لاحقاً بإقامة علاقات جنسية متعددة، لأنه أخذها من حبيبها، وليس فقط لأنها صُدمت حين اكتشفت أنه شاذ جنسياً، وقد بقي حبّ أيوب يحفر عميقاً في قلبها، فهي حين تراه من دون أن يراها، وهو مريض، بينما كانت ترافق ابنة عمها نسرين التي خافت من هذا المجنون ذي الرأسين.
لقد كان أيوب على علاقة طيبة مع الجميع، مع المعلّمة زمان، ومع الدكتور حسن الذي كان يتعاطف معه ويعالجه، ومع الخالة سكينة، ومع الأصدقاء، وقبل ذلك مع حبيبته حميدة، ومع أبيه وعمّه، ومع أمه التي لم يكن حضورها بارزاً، لا في سرده، ولا في حياته.
لم يبخل الأب بحضوره طيفاً، بعد غيابه واقعاً عن حياة أيوب، إذ ما زالت عينا أيوب «ترنوان إليه منذ أن لم يستيقظ لصلاة الفجر، ووجده ميتاً على فراشه في دعن الحوش»، وكذلك يحضر معه كل من الأم والأخ، في أكثر اللحظات صفاء وقدسية. ويطرح الروائي من خلال شخصية لقمان مراد عم أيوب نموذجاً ينتمي إلى شبكة العلاقات الصغرى في حياته، هو نموذج «الثائر المتمرد» الذي يعدّ أحد نماذج الشخصيات الجاذبة في السرد، ومن الطبيعي أن يجتذب لقمان ابن أخيه إلى أفعاله وأفكاره، فهو ينتمي إلى جبهة ثورية، وهو مثقف يتحدّث بلغات متعددة، وحريص على نقل تجربته وأفكاره إلى الآخرين؛ لذلك يتحدث أمام أيوب الصغير بالعربية الفصيحة التي يتقنها إلى جانب الإنكليزية والفارسية والأوردية؛ ولأنّ الروائي يدرك أبعاد هذه الشخصية الجاذبة، وأثرها في أيوب، فقد جعل مصيرها غامضاً، يليق بمحافظتها على ذلك الجذب، من خلال صوغ ثلاثة أخبار متناقضة حول نهايته، الأول يشير إلى أنه سجن خمسة عشر عاماً، ثم تم إعدامه بالرصاص، والثاني أنه أخلي سبيله بعد هذه المدة، والثالث أن تم إعدامه بالرصاص بعد أن تم اعتقاله بثلاثة أيام.
أما حميدة التي تنتمي إلى تلك الشبكة الصغرى من علاقاته، فقد بقيت على الرغم من زواجها الأقرب إلى التأثير في قلب أيوب وفي روحه، لأنها كانت أكثر منه جرأة، على مدى علاقتهما، وثمة إشارات سردية متعددة إلى جرأة حميدة، مقابل انكفاء أيوب، فهي تعطيه صورتها حين يأتي إلى بيتها حاملاً دشداشتي أرشد ومحمود، وهي تعرض عليه في آخر لقاء بينهما، بعد الرفض المهين لخطبته من قبل أبيها، أن يهربا معاً إلى صحار أو البريمي أو حتى مكران، وهي تنتقم من زوجها لاحقاً بإقامة علاقات جنسية متعددة، لأنه أخذها من حبيبها، وليس فقط لأنها صُدمت حين اكتشفت أنه شاذ جنسياً، وقد بقي حبّ أيوب يحفر عميقاً في قلبها، فهي حين تراه من دون أن يراها، وهو مريض، بينما كانت ترافق ابنة عمها نسرين التي خافت من هذا المجنون ذي الرأسين.
في إطار البيئة الروائية: الزمن والفضاء ووظيفة الهامش:
لقد قدّمت رواية «أيوب شاهين» أحداثها، بشكل عام، بطريقة تعاقبية، بدءاً من ظهور أعراض المرض على أيوب، وحتى وفاته، مع رصد تطور حالته، وانتقاله من عيادة البلدة إلى مستشفى إبرا، ثم إلى ديار الحق، يكتشف الطبيب الورم، ويشك به، فيحوّل أيوب إلى المستشفى، ولا يصل أيوب إلى المستشفى إلا بعد مئة صفحة (ص126 بالتحديد)، وإذا كان الروائي قد نجح في ملء تلك الصفحات عبر أحداث واستذكارات وإضاءات لها أهميتها ومسوّغاتها الفنية، فإنه بعد ذلك، خاصة بعد الزيارة الثانية للمشفى، يصبح السرد بطيئاً جداً، ويصبح كل استرجاع، على أهميته، معوّقاً لحكاية ينتظر القارئ إتمامها، ويصبح كل تفصيل من تفاصيل الفساد الإداري والروتين، على الرغم من ضرورة كشفه، عالة على السرد، ومبعثاً للسأم لدى القارئ.
على أن ما يحسب للروائي هو إفادته الذكية من نسيان أيوب وهذياته وتداعياته وتداخلاته، ليجعل من كل ذلك متّكأ فنياً ودلالياً لكثير من استذكاراته، إضافة إلى بعض الاستذكارات التي ألفنا أشباهها في السرد.
أما ما يتعلّق بالفضاء الجغرافي، فيلفت النظر أنّ الروائي كان مهتماً بتأثيث البيئة الصغرى المحيطة بأيوب، أكثر من اهتمامه بالبيئات الكبرى التي تحيط به، وهذا أمر طبيعي في رواية الشخصية، فنحن نقرأ تأثيث الغرفة التي يعيش فيها، حيث يهتم الروائي بوصف المذياع والمائدة والدراجة وغير ذلك.
وعلى صعيد الفضاء الطباعي استخدم الكاتب لغات متعددة في نصّه الروائي تعطي، بعيداً عن دلالتها، فضاء بصرياً مختلفاً عمّا ألفه القارئ العربي، كما استثمر الهامش استثماراً فعّالاً، وأناط به وظائف تفسيرية وسردية. وقد قدّم ذلك السرد عبر لغة تفيد من البعد الاجتماعي فيستخدم لغة عربية مكسّرة، نسمع بها، أو حتى نستخدمها في بعض الأحيان، من مثل الحوار الذي يجري بين أيوب والطبيب الهندي، ويستثمر الكلمات الشعبية في صياغة لغة وجدانية تلامس المجتمع المحلي، وينقل التقاليد المعروفة في مجتمع الرواية.
على أن ما يحسب للروائي هو إفادته الذكية من نسيان أيوب وهذياته وتداعياته وتداخلاته، ليجعل من كل ذلك متّكأ فنياً ودلالياً لكثير من استذكاراته، إضافة إلى بعض الاستذكارات التي ألفنا أشباهها في السرد.
أما ما يتعلّق بالفضاء الجغرافي، فيلفت النظر أنّ الروائي كان مهتماً بتأثيث البيئة الصغرى المحيطة بأيوب، أكثر من اهتمامه بالبيئات الكبرى التي تحيط به، وهذا أمر طبيعي في رواية الشخصية، فنحن نقرأ تأثيث الغرفة التي يعيش فيها، حيث يهتم الروائي بوصف المذياع والمائدة والدراجة وغير ذلك.
وعلى صعيد الفضاء الطباعي استخدم الكاتب لغات متعددة في نصّه الروائي تعطي، بعيداً عن دلالتها، فضاء بصرياً مختلفاً عمّا ألفه القارئ العربي، كما استثمر الهامش استثماراً فعّالاً، وأناط به وظائف تفسيرية وسردية. وقد قدّم ذلك السرد عبر لغة تفيد من البعد الاجتماعي فيستخدم لغة عربية مكسّرة، نسمع بها، أو حتى نستخدمها في بعض الأحيان، من مثل الحوار الذي يجري بين أيوب والطبيب الهندي، ويستثمر الكلمات الشعبية في صياغة لغة وجدانية تلامس المجتمع المحلي، وينقل التقاليد المعروفة في مجتمع الرواية.
*كاتب فلسطيني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق