سالم آل تويّه
ولا واحد في حارتنا صدَّق
السالفة، لكنَّا بعدين صدقنا واحنا خايفين من اللي صار، ولمَّا وصلنا بيت ميمونة
العاقر تشاهدنا على وجوهنا. سبحان الله؛
كان كل شي بينتهي، وكلنا كنا بنموت وما يبقى أحد ولا يبقى شي: لا في حارتنا ولا في البلاد كلّها. سبحان الله.
كنت مع أبوي ماشيين السوق،
ويوم اشترينا سمك قالِّي أبوي: يا ولد روح
جيب كرتون وشلّ الصيد خلِّيه في دبّة السيارة. ورحت واشتريت كرتون بميتين بيسة من ولد أصغر مني كان جالس تحت سمرة حيت
دكاكين بياعين الخضار، وما صدقت يوم سمعت واحد يقول: أحسن لكم تروحوا، تراها الدنيا بتحتشر. قلت في نفسي: أكيد هذا واحد مخرّف، ودفعت فلوس الولد، وشليت الكرتون وسحبت عمري، ولما
وصلت عند أبوي شفته واقف وفي يدينه سمكتين وكيسة قاشع. خلّيت الكرتون على الأرض، وخلّى أبوي السمكتين
والكيس داخل الكرتون، وقالِّي: خلِّي الكرتون في
دبة السيارة. وبعد ما وصّلت الكرتون وسكّرت
عليه الدبَّة سمعت أبو مرهون راعي دكّان البن يخرّف سليّم بو يبيع القت وعندهم
حمود الشّحّامة راعي سمك المالح وناس ثانيين ما أعرفهم أظنّي جايين يطحنوا بن،
انزين سمعت أبو مرهون يقول: الله بحسن
الخاتمة. وقال واحد شايب: لا تعاقبنا يا رب. والحلاق الهندي كان يكلّم باكستانيين وكلّهم
خايفين بس الحلاق قال انه اليوم بيحلق بلاش حال كل حدّ، وانه ما يبغى شي في الدنيا إلا انّه يرجع الهند ويشوف ولاده وحرمته مرة ثانية.
وبعد هذا حتى أنا خفت، ومشيت
بسرعة، ودورت أبوي، ويوم حصّلته قلتلّه:
يقولوا انه علامات الساعة قامت وانه الدنيا بتحتشر! قال لي أبوي وهوّه يدحّر عيونه فيّ: وهيش نابه بعد؟ تو بعدك عمرك خمسة عشر سنة ومنسبّ كرتون فيه
سمكتين بتحتشر الدنيا؟ الخطرة بشلّ الصيد وحدي. أنا أحب أبوي بس هوّه شويّه قاسي ويهايني أمزح ولَّا ما عاجبنّي أجي معه
السوق. قلتلّه: يا أبوي تراه كل النّاس في السوق يقولوا انه الدّنيا بتحتشر.
غلا أبو حجاجينه وضيق عيونه
مستهزي: "يا الله خلا" صرخ في،
وتبعته، وركبنا السيارة، وفي الطريق بان عليه أكنّه ناسي شي ولا انّه تذكّره؛
قال: حميد! أظني كلامك فيه شي من الصدق! وشاف
على السّما وقال: عسى ما يقسّوا علينا، ولا
أقولّك أحسن يقسّوا علينا فهالسّوالف ولا يكون كلامهم صحّ. ورن تلفونه رنَّة رسايل، وعطاني تلفونه وقالِّي
أقرا بومكتوب في الرسالة، وقريت: إعصار
مدمّر في طريقه إلى عمان. وبديت أفهم خوف
الناس في السوق، وكلامهم عن الدنيا اللِّي بتحتشر.
ولمّا وصلنا البيت ما واحينا
نخلّي بوشتريناه إلا والخبر منتشر في الحارة كلّها، وبعد يومين قالوا لنا لازم
نخلي المنطقة لأن حارتنا ما بعيد عن البحر، وقاموا الناس يلمّوا أغراضهم ويودّروا
بيوتهم وكل حدّ يروح مكان، بو راح المدارس يتخبّا وبو روح البلادين، واحنا رحنا
البلاد، لأنهم قالوا انه الإعصار يجي حال المناطق القريبة من البحر بس.
كان الجو خلاص بادي يتقلّب؛ مرة
أسود، مرّة رمادي، والسحاب يزيد أكنّه تو بيطيح السيل، ودرجة الحرارة نزلت، وزادت
سرعة الرّيح وصار صوت أوراق الأشجار ينسمع من بعيد مثل موج البحر.
2
يومين في البلاد كنا نتابع
التلفزيون. الحمد لله كنا بعيد عن الخطر
لكن بوشفناه في التلفزيون كان أكنّه فيلم. أبوي وامّي وخوتي الكبار قالوا انّه بوستوى ما استوى.
رجعنا مسقط وشفنا البيوت مدمرة
والشوارع منقلعة والوديان مسويّه بحر ثاني. ورحنا نطّمّن على أقاربنا وجيرانا ومعارفنا، وشفنا العجب، والأعجب انّه قصّة
النبي موسى استوت مرّة ثانية في حارتنا! وقالوا رعاة الحارة انّه ميمونه العاقر حرمة عبدالرحمن الإنسان الطَّيب
اللِّي يصليبنا في مسجد الحارة، قالوا انّه الله مدّها بالكرامات من خشعتها وقوة
إيمانها.
كانت ميمونة ورجلها من الناس
اللّي ما ودّروا بيوتهم وقالوا ان الحياة وحدة بو يموت اليوم ولا بويموت باكر
تراها حياة وحدة، وأظني قالوا كذاك لانهم ما عرفوا هين يروحوا وأقاربهم بعيد وما
حد يسأل عنهم.
ويوم اشتدّت العاصفة وزاد المطر
وعرفوا الناس انه فيه إعصار اسمه جونو جاي سلّموا أمرهم إلى الله. كانت ميمونة وزوجها عبدالرحمن جالسين يحرصوا
المجهول ورا جدار المطبخ، وقامت أصوات الريح تكبر وتعسف بكل شي، لا بقى خشب ولا حديد
ولا شجرة. "شفنا نخل يطير"، قالت ميمونة، "ربع ساعة ولا نصّ ساعة وخلاف حلّت ظلمة سبعه
وعشرين". "وما خزنا من
مكانّا"، قال عبد الرحمن. ومن التعب
وعدم التصديق والخوف ناموا في مكانهم، ويوم حلّ الصّبح شافت ميمونة منزّ في وسط حوش
بيتهم، يسبح فوق الماي مثل القارب، وخاضت الماي اللي وصل إلى خاصرتها، وخافت في
البداية، لكنها يوم شافت طفل راقد في المنزّ تشاهدت على وجهها.
وراحت أيّام وجات أيّام، وما
حدّ سأل عن الطفل، وكلّهم قالوا انّه أهله كلّهم قتلهم الإعصار، وان الله أرسله
إلى ميمونة وزوجها حتّى يكون آية وعبرة وعظة لأهل الحارة. وإلى يومنا هذا وبعدنا أكنّا تو قايمين من
النوم واكنّه شي خطف قدّامنا شروى شيفة الحلم.
ولا واحد في حارتنا صدَّق
السالفة، لكنَّا بعدين صدقنا واحنا خايفين من اللي صار، ولمَّا وصلنا بيت ميمونة
العاقر تشاهدنا على وجوهنا. سبحان الله؛
كان كل شي بينتهي، وكلنا كنا بنموت وما يبقى أحد ولا يبقى شي: لا في حارتنا ولا في البلاد كلّها. سبحان الله.
مارس 2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق