27 ديسمبر 2018

نشكو إليكَ

إلى صديقي العزيز كامل شيَّاع الذي اغتيل في بغداد في 23 أغسطس 2008م

م. ج. حمَّادي

(2014-1964)

الفنان الراحل  في أثناء زيارة لمسقط  (تصوير: سالم آل تويّه)
أبطالُ كاتماتِ الصَّوتِ
يتربَّعونَ فوقَ عُرُوْشٍ
مهترئةِ الجذورِ مِنَ الجفافِ وشَحَّةِ المطر
وعلى الضِّفافِ من نهرِ الفُراتِ حيثُ تَجمَّعَ الأطفالُ الحُفاةُ
وحيث يَلتهِمُ الصَّمتُ بقايا التَّذكُّرِ ويَزحَفُ كسلاحِفَ أزمانٍ غابرةٍ
جَلَسَتِ الأُمَّهاتُ بسوادِ اللَّيلِ يَنْدِبْنَ
من آماقٍ مشدودةٍ.. تفوحُ بحرارةِ الدَّم
ما حلَّ بنا من فواجِعَ
ونكوصٍ في رِقَّةِ المعنى وعودةِ الإنسانِ
يَرْشُشْنَ الماءَ على قبورٍ تتراصُّ كلَّ صباحٍ مثلَ فيالقَ راقدةٍ
ينشُدْنَ تراتيلَ معابدَ ممزَّقةِ الأردانِ والأزياقِ
يتواصلنَ في نُواحِهِنَّ عن رجالٍ شجعانٍ.. عَنِ القتلى في الطف وشوارعِ بغداد
فكأنْ لا لُقيا تَحدُثُ عَقِبَ المنافي
إلا مع هذه الرَّملةِ التي تحتجِزُ الكونَ بالصُّفرةِ ورائحةِ القبرْ
فمَنْ يُريدُ أنْ يتغيَّرَ
ويسمو بروحِهِ الثَّكلى كأغصانِ زيتونةٍ محترقةْ
فليَمُدَّ الجسدَ قريبًا.. وأكثرَ ممَّا يتصوَّرُ
في العدمِ الكُلِّيِّ
أين ترتَعُ أرتالُ الصُّمِّ البُكْمِ.. متغيِّري الوجوه.. أقلّ من عضايا مجاعةٍ قاهرةْ
أين يُجْمَعُ دُخانُ فوَّهاتِ البنادقِ
داخلَ كهوفِ آرائهم المختمِرَةِ على تراكُمِ الدِّماءِ
من أجلِ البسالةِ وتاريخِ المجدِ الضَّائع
أبطالٌ مسومونَ بالخناجرِ وكاتماتِ الصَّوتِ
يُهيِّئونَ مجدَ هولاكو على أهراماتٍ تسيلُ دِماؤها كخيوطِ العناكب
وتسطُعُ عليها شمسُ غروبٍ مُرْهَقٍ بالنَّحيب
إذْ تَصْفِرُ خَلَلَ المحاجرِ الفارغةِ كرُعْبٍ كونيٍّ لا تتمثَّلُهُ الأرض
رياحُ الجهاتِ الأربعْ
وضمن مَيَلانِ الضِّياءِ بألوانٍ قانيةْ
تمتدُّ الظِّلالُ وتسكُنُ على الصَّرائفِ والبيوتِ الخَرِبَةِ
كأنَّ كلَّ هذه المتشبِّثةِ إحداها بالأخرى بسلاسلَ صدِئةٍ
تمائمُ يُعلِّقُها الضِّياءُ على الهواءِ
فلنتباركْ إذنْ مثلَ أشجارِ الأثْلِ وقوفًا
ما بين القُطْعَانِ وهي ترعى أفكارَ أحزابٍ موهومةْ
وترعى أعلافَ الجرائدِ والصَّديدِ الأهوجِ
بعدَ أنْ صُبَّ عليها زيتُ القرونِ ومُخلَّفاتُ التَّتر
كذلك على هدايا مُسيِّري طاقمِ القَتَلَةِ
يحلُمُونَ مُجدَّدًا بدولتِهم، البدو الفاشست، والعالمُ
يتفتَّتُ.. يحترِقُ في أروقةِ التِّيهِ البيضاءَ، ومَنْ لا يُدرِكُ هذا؟
يحلُمُونَ بالقيادةِ والقائدِ المُعمَّدِ بأصنافِ جحافِلِهِ
على الحدودِ وممرَّاتِ الهواءِ في "الأهوار وحلبجة"
يحلُمُونَ ببائعي الأعلافِ "والجت" ضِدَّ مجاعاتِ الأغنامِ والماعز
ثمَّ نأتي إليكَ مُطأطِئي الرّؤوس
يا صديقًا باعَدَتْهُ عنَّا
مسافةٌ مِنَ الرَّملِ والحجارةِ النَّديَّةْ
مسافةٌ لا يَختَرِقُها العويلُ ولا صدى التَّفجيراتِ المُتكرِّرةِ
مُكلَّلين بما لا نعرِفُ كحيواناتِ الغابِ والنُّسورِ الجائعةِ
نشكو إليك الغدرَ وسياسةَ الوجهين
وبقايا حُثالَةِ القَتَلَةِ وما جرُّوا من قبلُ ومن بعد
من مآسٍ على الشَّعبِ المسكين
نشكو إليكَ الأخوين على المقاعدِ من مدنٍ مُسوَّرةٍ
بعيدًا عن المشاعِلِ الجوَّالةِ كوَضَحِ النَّهار
يتقاتلون على أطنانِ الزَّيتِ والزِّفتِ
على ما تأكُلُهُ الطَّيرُ من قِحافِ الجماجِمِ
يتباركون كالممسوسينَ بانتظارِ الجولَةِ القادمة
نأتي إليكَ لنُصحِّحَ أخلاقَ المُلثَّمينَ بخناجِرِهِم المعقوفةِ إلى الوراء
ونُنقِذَ ما تبقَّى قبلَ أنْ يَتِمَّ الالتهامُ العظيمُ لكيانِ البساطة
فجلستَ أنتَ مثلَ مُعلِّمٍ قديمٍ لا يُعَدِّدُ أمجادَهُ أمامَ تِلالِ الرِّمال
جاء عبرَ الخِلافِ والزَّمنِ
يَضَعُ حِجارةً فوقَ أخرى
مُتأبِّطًا الأوراقَ وبطاقاتِ التَّموينِ
في شوارِعِ "الوركاء" و"أريدو"، و"أُوْر"
جالسًا في هَمِّهِ المُغرِقِ خلف الضِّياءِ
مثلما جَلَسَ السَّومرِيُّ على أعتابِ السَّماءِ
يَخُطُّ للآلهةِ جُمَلَها الأُولى على الغَرين
يُرَتِّبُ أحجارَ الطِّينِ واليقينِ الأرضيِّّ
إشارات على خُطى تقدُّمِهِ داخِلَ الذِّكرى
بينَ العوسجِ وأعذاقِ النَّخيلِ والقصبِ والبَرْدي
لكنَّنا جئنا بلا حُظوظٍ في مواطنِ الأعرابِ الأقْحاح
يأكُلوننا من أربعمئةٍ وألفِ عامٍ كثمرِ الطَّلْعِ
وما زالوا يستثمرون على أطرافٍ عاريةٍ فوقَ الرَّمل
يَشْغَِلوننا في القتلِ
واللُّصوصُ منشغلون بحَفْرِ الأرض
وما يَعترِفُ به النَّاسُ: الدَّمُ الأسودُ
يستلقي وسطَ البحرِ النِّيليِّ تنوحُ عليه الأساطيلُ
قُرْبَ أُمَّةٍ تَستعْبِدُ نفْسَها طوعًا من طولِ زمنِ الخوف
تنامُ بانتظارِ بزوغِ القمر
***
وخلْفَ الأسوارِ تُمْطِرُ السَّماءُ:  هذا هو الصَّيفُ الماحِلُ ينزِلُ.. عندَ أسفلِ النَّافذةِ، وكانتِ الأعشابُ تنمو، خضرةٌ يانعةٌ، بهجةٌ حقًّا، تَهَبُ الرُّوحَ نصيبًا آخر. واكتشفتَ- يا محاربًا نادرًا- أنَّ هناك موازينَ أخرى مِنَ الفهمِ الدِّمُقراطيِّ.. يتحوَّلُ فيها العدوُ بعيدًا عَنِ المُناكَدَةِ، إلى صديقٍ هَمُّهُ أنْ يُصْلِحَ أخطاءَهُ، ضِمْنَ روحِ العراقِ القديم، ضِمْنَ التَّسامحِ العظيم.. ضِمْنَ "سومر"؛ فكأنَّ هذا الفعلَ الإنسانيَّ الخطيرَ ما يَشْغَلُ بالَ العُتاةِ، أحفادِ جموعِ البدوِ؛ فقرَّروا أنْ يقتلوكَ، أنْ يمسُّوا جسدًا، يُطْلِقوا روحَكَ، حُرَّةً إلى الأبد. تَشارَكْنا تَبَدُّلَ السَّاعاتِ والنُّواحَِ تحتَ رحمةِ الغَسَقِ، فلن يَقلعوا الذَّاكرةَ؛ الملايينُ تنتظِرُ. لن يقلعوا الصُّورةَ التي تشرَّبها الماءُ، وجَرَى بها هناك بعيدًا.  أين النَّخيلُ والمُدُنُ العتيدةُ، ينابيعُ المطر.
***

جلستُ أرقُبُ خاتمةَ المساءِ
لا قلبَ لي ولا عقلَ، فأنا في شحوبٍ "كامل"
جسدي ينحَلُّ في عمقِ رائحةِ التُّرابِ
وتَخِفُّ روحي من وطأةِ الألم
أُحاوِلُ أنْ أغفِرَ
فكلُّ هؤلاءِ الخُطاةِ بأرواحٍ متخشِّبة
سوف تلتهِمُهُمُ الأرضُ
رأفةً وغفرانًا لإبعادِ كيانِهِم الزَّائلِ
وفي الأُفُقِ البعيدِ
حيثُ يتصاعَدُ اللَّهبُ كان قلبي
قلبَ فتًى عاشقٍ
تَشُبُّ فيه النَّار
ويضيعُ في منفى السَّماء
رمادًا قانيًا
يغورُ في الامتزاجِ
السَّحيقِ الدَّائم
***

انْظُرْ.. آهٍ انْظُرْ
البُلْبُلُ العراقيُّ يُنْشِدُ خلفَ أسوارِ الشَّوكِ هناك في اكتظاظِ خضرةِ النَّخيلِ وسِدْرَةِ المُنتهى
يُسْمِعُ غناءَهُ مُهَجًا قد نَسِيَتْ
أنَّ هناكَ قادمًا ثانيًا.. سيأتي.. ويأتي بعدَهُ أيضًا..
سيقِفُ مليًّا واللَّيلُ يتغلغلُ في ثنايا الثِّيابِ
يستمِعُ إلى الغناءِ الهيمانِ الصَّادحِ كيف سيَطوي القِفَارَ
مُتعجِّبًا من هذهِ الأجسادِ المريرةِ والرَّمادُ
يتأمَّلُ في اتِّساعِ خيالِهِ:
أنَّ تغيُّرَ العالَمِ احتمالٌ قائمٌ
وعرائشَ الرَّبيعِ تصطفُّ كراقصي حفلٍ
يتنعَّمون فوقَ الشُّرفاتِ بمرورِ الهواءِ
وبوقوفِ الأحِبَّةِ تُشِعُّ في أقداحِهِمْ ينابيعُ الضِّياء.

فنان وشاعر عراقي

01 فبراير 2016

قصة قصيرة بالعامية العُمانية: أمّ موسى

سالم آل تويّه


ولا واحد في حارتنا صدَّق السالفة، لكنَّا بعدين صدقنا واحنا خايفين من اللي صار، ولمَّا وصلنا بيت ميمونة العاقر تشاهدنا على وجوهنا. سبحان الله؛ كان كل شي بينتهي، وكلنا كنا بنموت وما يبقى أحد ولا يبقى شي: لا في حارتنا ولا في البلاد كلّها. سبحان الله.
كنت مع أبوي ماشيين السوق، ويوم اشترينا سمك قالِّي أبوي: يا ولد روح جيب كرتون وشلّ الصيد خلِّيه في دبّة السيارة. ورحت واشتريت كرتون بميتين بيسة من ولد أصغر مني كان جالس تحت سمرة حيت دكاكين بياعين الخضار، وما صدقت يوم سمعت واحد يقول: أحسن لكم تروحوا، تراها الدنيا بتحتشر. قلت في نفسي: أكيد هذا واحد مخرّف، ودفعت فلوس الولد، وشليت الكرتون وسحبت عمري، ولما وصلت عند أبوي شفته واقف وفي يدينه سمكتين وكيسة قاشع. خلّيت الكرتون على الأرض، وخلّى أبوي السمكتين والكيس داخل الكرتون، وقالِّي: خلِّي الكرتون في دبة السيارة. وبعد ما وصّلت الكرتون وسكّرت عليه الدبَّة سمعت أبو مرهون راعي دكّان البن يخرّف سليّم بو يبيع القت وعندهم حمود الشّحّامة راعي سمك المالح وناس ثانيين ما أعرفهم أظنّي جايين يطحنوا بن، انزين سمعت أبو مرهون يقول: الله بحسن الخاتمة. وقال واحد شايب: لا تعاقبنا يا رب. والحلاق الهندي كان يكلّم باكستانيين وكلّهم خايفين بس الحلاق قال انه اليوم بيحلق بلاش حال كل حدّ، وانه ما يبغى شي في الدنيا إلا انّه يرجع الهند ويشوف ولاده وحرمته مرة ثانية.
وبعد هذا حتى أنا خفت، ومشيت بسرعة، ودورت أبوي، ويوم حصّلته قلتلّه:  يقولوا انه علامات الساعة قامت وانه الدنيا بتحتشر!  قال لي أبوي وهوّه يدحّر عيونه فيّ: وهيش نابه بعد؟ تو بعدك عمرك خمسة عشر سنة ومنسبّ كرتون فيه سمكتين بتحتشر الدنيا؟ الخطرة بشلّ الصيد وحدي. أنا أحب أبوي بس هوّه شويّه قاسي ويهايني أمزح ولَّا ما عاجبنّي أجي معه السوق.  قلتلّه: يا أبوي تراه كل النّاس في السوق يقولوا انه الدّنيا بتحتشر.
غلا أبو حجاجينه وضيق عيونه مستهزي: "يا الله خلا" صرخ في، وتبعته، وركبنا السيارة، وفي الطريق بان عليه أكنّه ناسي شي ولا انّه تذكّره؛ قال:  حميد! أظني كلامك فيه شي من الصدق! وشاف على السّما وقال: عسى ما يقسّوا علينا، ولا أقولّك أحسن يقسّوا علينا فهالسّوالف ولا يكون كلامهم صحّ. ورن تلفونه رنَّة رسايل، وعطاني تلفونه وقالِّي أقرا بومكتوب في الرسالة، وقريت: إعصار مدمّر في طريقه إلى عمان. وبديت أفهم خوف الناس في السوق، وكلامهم عن الدنيا اللِّي بتحتشر.
ولمّا وصلنا البيت ما واحينا نخلّي بوشتريناه إلا والخبر منتشر في الحارة كلّها، وبعد يومين قالوا لنا لازم نخلي المنطقة لأن حارتنا ما بعيد عن البحر، وقاموا الناس يلمّوا أغراضهم ويودّروا بيوتهم وكل حدّ يروح مكان، بو راح المدارس يتخبّا وبو روح البلادين، واحنا رحنا البلاد، لأنهم قالوا انه الإعصار يجي حال المناطق القريبة من البحر بس.
كان الجو خلاص بادي يتقلّب؛ مرة أسود، مرّة رمادي، والسحاب يزيد أكنّه تو بيطيح السيل، ودرجة الحرارة نزلت، وزادت سرعة الرّيح وصار صوت أوراق الأشجار ينسمع من بعيد مثل موج البحر.

2

يومين في البلاد كنا نتابع التلفزيون. الحمد لله كنا بعيد عن الخطر لكن بوشفناه في التلفزيون كان أكنّه فيلم. أبوي وامّي وخوتي الكبار قالوا انّه بوستوى ما استوى. 
رجعنا مسقط وشفنا البيوت مدمرة والشوارع منقلعة والوديان مسويّه بحر ثاني. ورحنا نطّمّن على أقاربنا وجيرانا ومعارفنا، وشفنا العجب، والأعجب انّه قصّة النبي موسى استوت مرّة ثانية في حارتنا! وقالوا رعاة الحارة انّه ميمونه العاقر حرمة عبدالرحمن الإنسان الطَّيب اللِّي يصليبنا في مسجد الحارة، قالوا انّه الله مدّها بالكرامات من خشعتها وقوة إيمانها.
كانت ميمونة ورجلها من الناس اللّي ما ودّروا بيوتهم وقالوا ان الحياة وحدة بو يموت اليوم ولا بويموت باكر تراها حياة وحدة، وأظني قالوا كذاك لانهم ما عرفوا هين يروحوا وأقاربهم بعيد وما حد يسأل عنهم.
ويوم اشتدّت العاصفة وزاد المطر وعرفوا الناس انه فيه إعصار اسمه جونو جاي سلّموا أمرهم إلى الله. كانت ميمونة وزوجها عبدالرحمن جالسين يحرصوا المجهول ورا جدار المطبخ، وقامت أصوات الريح تكبر وتعسف بكل شي، لا بقى خشب ولا حديد ولا شجرة. "شفنا نخل يطير"، قالت ميمونة، "ربع ساعة ولا نصّ ساعة وخلاف حلّت ظلمة سبعه وعشرين". "وما خزنا من مكانّا"، قال عبد الرحمن. ومن التعب وعدم التصديق والخوف ناموا في مكانهم، ويوم حلّ الصّبح شافت ميمونة منزّ في وسط حوش بيتهم، يسبح فوق الماي مثل القارب، وخاضت الماي اللي وصل إلى خاصرتها، وخافت في البداية، لكنها يوم شافت طفل راقد في المنزّ تشاهدت على وجهها.
وراحت أيّام وجات أيّام، وما حدّ سأل عن الطفل، وكلّهم قالوا انّه أهله كلّهم قتلهم الإعصار، وان الله أرسله إلى ميمونة وزوجها حتّى يكون آية وعبرة وعظة لأهل الحارة. وإلى يومنا هذا وبعدنا أكنّا تو قايمين من النوم واكنّه شي خطف قدّامنا شروى شيفة الحلم. 
ولا واحد في حارتنا صدَّق السالفة، لكنَّا بعدين صدقنا واحنا خايفين من اللي صار، ولمَّا وصلنا بيت ميمونة العاقر تشاهدنا على وجوهنا. سبحان الله؛ كان كل شي بينتهي، وكلنا كنا بنموت وما يبقى أحد ولا يبقى شي: لا في حارتنا ولا في البلاد كلّها. سبحان الله.
مارس 2008

10 ديسمبر 2015

سالم آل تويه في رواية «أيوب شاهين»… اللامنتمي والهجرة إلى الموت

يوسف حطيني


يطلّ العُمانيّ سالم آل تويّه على القارئ العربي برواية عنوانها «أيوب شاهين»؛ ليقدّم نموذجاً جيداً لرواية الشخصية، لا كما يشير عنوانها فقط، بل كما تشير أحداثها وعلاقاتها التي تتمحور حول أيوب، ولا تتيح للحكايات الصغيرة فرصةَ الظهور إلا بمقدار ارتباطها به.
أيوب اللامنتمي بالقوّة: البحث عن الجذور:
على مدى صفحات الرواية، حتى تلك التي تمتد عميقة في الماضي، يجتهد أيوب في الانتماء إلى بيئته عبر أقنومين إنسانيين خالدين هما الحب والإيثار، غير أنه لا يجني في أكثر الأحيان إلا الخيبة، يعمل حارساً للعيادة، كما يعمل خيّاطاً ليجني رزقاً يدّخره للآخرين، ويصوم عن الآخرين رغبة في تطهير النفس، وفي السمو بها إلى مصافّ الوجد الإنساني.
وحين يخوض أيوب تجربة الحب مع حميدة، يكتشف أنه يخوض معركة، هو فيها الطرف الأضعف، في مواجهة أهلها، فأصله من (مكران)، علماً أنه لم يرها في حياته، بينما ينتمي أهلها إلى سلالة شريفة (!!) يكشف السرد لاحقاً أنّها ليست كذلك.
ولعل طوفان النسيان الذي عاناه أيوب بالتزامن مع مرضه، مترافقاً مع ضعف الإدراك، أتاح لأيوب أن يعلن عن موقفه تجاه قضية الانتماء التي واجهته بقسوة قبل سنوات عديدة، لتقضي على مستقبل علاقته بحميدة، فقد «رفض يحيى بن صقر رفضاً قاطعاً مهيناً خطبته لابنته حميدة. كان على أيوب الإصغاء لتذكير يحيى بن صقر بأنه من مكران، وأنه ليس عربياً، ويجب أن يلتزم حدوده، ويعرف أن مقامه أضأل من أن يقترن بواحدة من هذه القبيلة النقية العرق».
وفي مواجهة هذا الاقتلاع من الجذور، وتحديداً في ذلك اليوم الذي تعرّض فيه أيوب ووالده لاحتقار يحيى بن صقر؛ إذ عيرهما بأنّ أصلهما من مكران، تولدت في نفسه رغبة في حرق العلم، وعلى الرغم من أن لا يعرف لنفسه وطناً آخر سوى الذي ولد فيه ونشأ.
مثل هذا العجز في بيئة طاردة، ولّد لديه لاحقاً (بعد أن أخذ المرض مداه في جسمه وروحه) حنيناً نحو جذور لم يكن يشعر بها، جذور تتسرب إلى (لا وعيه)، وتبرز في أوقات التجلّي، حيث تدفع التهيؤات ما استتر من المشاعر والدوافع في الباطن إلى ساحة الظاهر.
وفي مثل تلك الأوقات نرى أيوب، اللامنتمي بالقوة، يفزع إلى مكران، حيث يمكن أن يكتسب الانتماء بالفعل، وحيث يمكن أن يتزوج حميدة، في خياله فقط، ذلك أنه عجز عن القبول بعرضها حين اقترحت عليه الهرب الذي بقي يداعب لا وعيه، بوصفه فكرة حالمة للاجتماع بمن يحبّ.
المنتمي بالفعل: شبكة العلاقات الصغرى
إذا كانت قضية الانتماء قد وجدت في الحنين إلى مكران بديلاً روحياً في نفس أيوب، فإنّ شبكة العلاقات الصغرى شكّلت بديلاً مادياً، لم يبدُ في نطاق مواجهته مع ظرفه القسري الذي حرمه من حبيبته، ولكنه بدا متأخراً بعد مرض أيوب، إذ استطاع هذا الشاب من خلال طيب أفعاله أن يجمع حوله كثيراً من المحبين والأقارب الذين ازدحم بهم المستشفى، ليكون ذلك «جائزة ترضية» له قبل الوفاة. وإذا كانت اللطمة التي تلقاها الطبيب موهن من قبل دوست (زوج الخالة سكينة)، جزاء إهماله في علاج أيوب، أمراً لا تقرّه الأعراف الاجتماعية، فقد جاءت تعبيراً صارخاً عن مدى الحب الذي يحمله دوست في قلبه تجاه أيوب، وعن مدى الغضب الذي يحمله دوست، ومن معه، تجاه الإهمال والفساد اللذين أخّرا علاج أيوب، وأدّيا من ثم إلى وفاته.
لقد كان أيوب على علاقة طيبة مع الجميع، مع المعلّمة زمان، ومع الدكتور حسن الذي كان يتعاطف معه ويعالجه، ومع الخالة سكينة، ومع الأصدقاء، وقبل ذلك مع حبيبته حميدة، ومع أبيه وعمّه، ومع أمه التي لم يكن حضورها بارزاً، لا في سرده، ولا في حياته.
لم يبخل الأب بحضوره طيفاً، بعد غيابه واقعاً عن حياة أيوب، إذ ما زالت عينا أيوب «ترنوان إليه منذ أن لم يستيقظ لصلاة الفجر، ووجده ميتاً على فراشه في دعن الحوش»، وكذلك يحضر معه كل من الأم والأخ، في أكثر اللحظات صفاء وقدسية. ويطرح الروائي من خلال شخصية لقمان مراد عم أيوب نموذجاً ينتمي إلى شبكة العلاقات الصغرى في حياته، هو نموذج «الثائر المتمرد» الذي يعدّ أحد نماذج الشخصيات الجاذبة في السرد، ومن الطبيعي أن يجتذب لقمان ابن أخيه إلى أفعاله وأفكاره، فهو ينتمي إلى جبهة ثورية، وهو مثقف يتحدّث بلغات متعددة، وحريص على نقل تجربته وأفكاره إلى الآخرين؛ لذلك يتحدث أمام أيوب الصغير بالعربية الفصيحة التي يتقنها إلى جانب الإنكليزية والفارسية والأوردية؛ ولأنّ الروائي يدرك أبعاد هذه الشخصية الجاذبة، وأثرها في أيوب، فقد جعل مصيرها غامضاً، يليق بمحافظتها على ذلك الجذب، من خلال صوغ ثلاثة أخبار متناقضة حول نهايته، الأول يشير إلى أنه سجن خمسة عشر عاماً، ثم تم إعدامه بالرصاص، والثاني أنه أخلي سبيله بعد هذه المدة، والثالث أن تم إعدامه بالرصاص بعد أن تم اعتقاله بثلاثة أيام.
أما حميدة التي تنتمي إلى تلك الشبكة الصغرى من علاقاته، فقد بقيت على الرغم من زواجها الأقرب إلى التأثير في قلب أيوب وفي روحه، لأنها كانت أكثر منه جرأة، على مدى علاقتهما، وثمة إشارات سردية متعددة إلى جرأة حميدة، مقابل انكفاء أيوب، فهي تعطيه صورتها حين يأتي إلى بيتها حاملاً دشداشتي أرشد ومحمود، وهي تعرض عليه في آخر لقاء بينهما، بعد الرفض المهين لخطبته من قبل أبيها، أن يهربا معاً إلى صحار أو البريمي أو حتى مكران، وهي تنتقم من زوجها لاحقاً بإقامة علاقات جنسية متعددة، لأنه أخذها من حبيبها، وليس فقط لأنها صُدمت حين اكتشفت أنه شاذ جنسياً، وقد بقي حبّ أيوب يحفر عميقاً في قلبها، فهي حين تراه من دون أن يراها، وهو مريض، بينما كانت ترافق ابنة عمها نسرين التي خافت من هذا المجنون ذي الرأسين.
في إطار البيئة الروائية: الزمن والفضاء ووظيفة الهامش:
لقد قدّمت رواية «أيوب شاهين» أحداثها، بشكل عام، بطريقة تعاقبية، بدءاً من ظهور أعراض المرض على أيوب، وحتى وفاته، مع رصد تطور حالته، وانتقاله من عيادة البلدة إلى مستشفى إبرا، ثم إلى ديار الحق، يكتشف الطبيب الورم، ويشك به، فيحوّل أيوب إلى المستشفى، ولا يصل أيوب إلى المستشفى إلا بعد مئة صفحة (ص126 بالتحديد)، وإذا كان الروائي قد نجح في ملء تلك الصفحات عبر أحداث واستذكارات وإضاءات لها أهميتها ومسوّغاتها الفنية، فإنه بعد ذلك، خاصة بعد الزيارة الثانية للمشفى، يصبح السرد بطيئاً جداً، ويصبح كل استرجاع، على أهميته، معوّقاً لحكاية ينتظر القارئ إتمامها، ويصبح كل تفصيل من تفاصيل الفساد الإداري والروتين، على الرغم من ضرورة كشفه، عالة على السرد، ومبعثاً للسأم لدى القارئ.
على أن ما يحسب للروائي هو إفادته الذكية من نسيان أيوب وهذياته وتداعياته وتداخلاته، ليجعل من كل ذلك متّكأ فنياً ودلالياً لكثير من استذكاراته، إضافة إلى بعض الاستذكارات التي ألفنا أشباهها في السرد.
أما ما يتعلّق بالفضاء الجغرافي، فيلفت النظر أنّ الروائي كان مهتماً بتأثيث البيئة الصغرى المحيطة بأيوب، أكثر من اهتمامه بالبيئات الكبرى التي تحيط به، وهذا أمر طبيعي في رواية الشخصية، فنحن نقرأ تأثيث الغرفة التي يعيش فيها، حيث يهتم الروائي بوصف المذياع والمائدة والدراجة وغير ذلك.
وعلى صعيد الفضاء الطباعي استخدم الكاتب لغات متعددة في نصّه الروائي تعطي، بعيداً عن دلالتها، فضاء بصرياً مختلفاً عمّا ألفه القارئ العربي، كما استثمر الهامش استثماراً فعّالاً، وأناط به وظائف تفسيرية وسردية. وقد قدّم ذلك السرد عبر لغة تفيد من البعد الاجتماعي فيستخدم لغة عربية مكسّرة، نسمع بها، أو حتى نستخدمها في بعض الأحيان، من مثل الحوار الذي يجري بين أيوب والطبيب الهندي، ويستثمر الكلمات الشعبية في صياغة لغة وجدانية تلامس المجتمع المحلي، وينقل التقاليد المعروفة في مجتمع الرواية.

*كاتب فلسطيني

20 أكتوبر 2015

تحت سماء باريس

زوينة آل تويه




"تحت سماء باريس" أغنية فرنسية قديمة اشتهرت في خمسينيات القرن العشرين، وما زالت تُطرب عُشاق مدينة النور. ظهر أول تسجيل للأغنية في فيلم يحمل الاسم نفسه في عام ١٩٥١، وغناها أول مرة جون بغوتونييغ Jean Bretonnière ، ثم زادت شهرتها عندما غنتها إديث پياف Édith Piaf في ١٩٥٤. هناك مغنون آخرون أدّوا هذه الأغنية، والنسخة المرفقة هنا من غناء إيڤ مونتو Yves Montand. ترجمت الأغنية عن الفرنسية ضمن جهودي ومحاولاتي لتعلّم اللغة، وهذه الترجمة بمنزلة تمرين على فهم المفردات وكتابتها ونطقها، وهي ترجمة شخص مبتدئ في الفرنسية قد يعتريها لبس وقصور.


تحت سماء باريس
تحلّق أغنية
وُلدت توًّا
في قلب فتى
***
تحت سماء باريس
يمشي عشاق
يغشاهم فرح
يولد من لحن
مكتوب لهم 
****
تحت جسر بيرسي
يجلس فيلسوف
وموسيقيان وبعض المتفرجين
ثم يلتمّ الناس ألوفًا
****
وتحت سماء باريس
يغنّون حتى المساء
أغنية الشعب العاشق
مدينتَه العتيقة
****
يحدث أحيانًا
أن تكفهّر السماء
فوق نوتردام
بلى، ولكن في باريس
كل شيء يمكن ترتيبه
قليلٌ من أشعة
 سماء صيفية
وأكورديون  
يعزفه بحار
ليزهر الأمل
في سماء باريس
****
تحت سماء باريس
ينساب نهرٌ مرِح
يهدهد المتشردين والمتسولين
حتى يخلدوا للنوم
****
تحت سماء باريس
تأتي طيور الرب
من العالم كله
وتتسامر فيما بينها
****
ولسماء باريس
 سرّها الخاص
عشرون قرنًا وهي متيّمة
بجزيرة سان لويس
الجزيرة التي عندما تبتسم
تتزيّا السماء بمعطف أزرق
****
 وتمطر في باريس
 لأنها حزينة
وعندما تغار من العشاق الملايين
تبرق وترعد
****
لكن سماء باريس
لا تقسو عليهم طويلا
ولكي تغفر لهم
تسكب عليهم ألوان قوس قزح