سالم آل تويّه
عن دار "شرقيات" في القاهرة صدرت مؤخرًا رواية جديدة للكاتب العُماني علي المعمري حملت اسم "بن سولع"، وتعتبر الإصدار الثامن للكاتب بعد أربع مجموعات قصصية وثلاث روايات.
صدرت هذه الرواية بعد صدور رواية المعمري الثالثة "همس الجسور" بثلاث سنوات، وهي فترة زمنية أطول من الفترات الزمنية الفاصلة بين أي كتاب وآخر أصدره الكاتب سابقًا، إذا استثنينا السنوات الأربع الفاصلة بين روايته الأولى "فضاءات الرغبة الأخيرة" الصادرة عام 1999 وروايته الثانية "رابية الخطار" الصادرة عام 2003، فبعد صدور مجموعته القصصية الأولى "أيام الرعود عش رجبًا" عام 1992 لم يتوقف الكاتب زمنًا طويلًا وأصدر بعد عام واحد فقط مجموعته القصصية الثانية "مفاجأة الأحبة"، لتتوالى إصداراته بعد ذلك بمعدل كتاب كل سنتين.
بين "همس الجسور" و"بن سولع"
وبرغم تجربة المعمري في النشر البالغة ثمانية عشر عامًا إلا أن روايتيه الأخيرتين على وجه التحديد تبرزان خصوصية عوالمه السردية وتكادان تتميزان تمامًا عن إنتاجه السابق عليهما. هناك أكثر من سمة تجمع بين روايتيه الأخيرتين ("همس الجسور" الصادرة عام 2007 و"بن سولع" الصادرة مطلع هذا العام)، فالاثنتان تدور أحداثهما خارج موطن الكاتب، حيث تدور أحداث "همس الجسور" في إسطنبول و"بن سولع" في لندن، ويحضر الوطن عبر التاريخ المستدعى من خلال الشخصيات ومرجعياتها المتعلقة بقضايا وطنية لم يعف عليها الزمن تمامًا ولم تمح من الذاكرة بعد، لكنها تعتبر من القضايا المسكوت عنها التي يراد لها أن تزول في الماضي.
وفي الروايتين يقوم السارد العُماني بسرد حركاته وسكناته في إسطنبول ولندن، مجريًا، في الوقت نفسه، مقارنة بين ما يحدث هناك وما يحدث في وطنه. وفي الروايتين يقيم السارد، وهو الشخصية المحورية، ارتباطًا حميمًا بفتاة تسفر عنه علاقة حب وزواج في نهاية المطاف. ولعل الصواب لن يُجانبنا إذا اعتبرنا "بن سولع" الصادرة حديثًا تطويرًا لـ"همس الجسور"، ليس بسبب ثيماتهما وخطوطهما العريضة المشتركة فحسب، بل لأن علي المعمري، باعتباره روائيًّا، يقطع شوطًا أبعد في الاشتغال على كتابته السردية، ويبدو مهمومًا كثيرًا برسم شخصيات واضحة المعالم وسياق يتصاعد حتى يبلغ ذروته.
هناك في "همس الجسور" يتوازى السرد ويتقاطع ويتداخل بين مدينة إسطنبول وظفار، بين كوبا وعُمان، بين عهدين. وهنا في "بن سولع"، وفي قلب مدينة لندن، يبسط الكاتب مشكلة واحات البريمي مثار النزاع القديم بين سلطنة مسقط وعُمان وإمارات ساحل عُمان والسعودية، وبالتأكيد تأتي وكالة الجراد والمستعمرون الإنجليز في رأس حربة الفتن لرسم زمن ومكان جديدين يقتلعان جذور أي وئام مستقر. ويستدعي الكاتب فترات تعود إلى القرن الثامن عشر أحيانًا، وتتراوح أحداثها بين الشد والجذب في صراع مراكز القوى ومن يحالفه النصر ومن يعد العدة لتعويض الخسارة.
وفي الروايتين لا يكتفي الكاتب بمعالجة التاريخ القديم المسرود بموازاة المضارع، بل يحاول ربط الزمنين بالشخصيات نفسها، عبر مفاجآت يُظهرها الاستغراق في القراءة، كما هو الشأن –مثلًا- مع "خلفان" في "همس الجسور" و"ميثاء العُمانية" في "بن سولع"، وكذلك مع "علي الزمان" في الأولى و"سريدان/بن سولع" في الثانية.
وعلى عكس ما يُقال عن كتب علي المعمري عادةً فإن شخصيته تحضر بقوة شديدة طيلة صفحات سرده، وتكاد تصر على رسم ملامحه وحركاته وخفة دمه التي يُصعِّدها السرد إلى حد يجعل القارئ لا يتمالك نفسه من الانفجار في الضحك أحيانًا، وهو ما يشير إلى تعمد الكاتب ووعيه إياه في أثناء انهماكه في الكتابة. لكن لعل هذا الأمر لا يتضح لأي قارئ، بل لأولئك الذين يعرفون علي المعمري فقط!، أو أولئك الذين قرأوا جميع كتبه. هنا يمكن إيضاح المقصود بالتذكير بالآتي من أجواء "بن سولع": "مقهى نو بروبلم"، "غابة النسيان"، "القطّ حمران"، "بومبوم"، "قرحة العافية"، "العشبة الخضراء"، "الأرملة السوداء"... إلخ.
هذه الملاحظة تنبني تباعًا كلما تقدم القارئ في القراءة، بحيث إن الأمر يغدو غير قابلٍ للتجاهل، وهو ما قد يشكل عائقًا في المستقبل، إذ قد يُحْدِثُ اضطرابًا بنيويًّا في الشخصية يُراوِح موقعَ الكاتب بين مسار شخصية الرواية وسيرته الذاتية (سيرة الكاتب)، فضلًا عن أن الشخصية تصبح استنساخًا لسابقتها. دون أي داع لتكرار الإشارة سوف يتضح هذا الأمر حين الحديث عن "بن سولع".
سريدان الحرسوسي وميثاء العُمانية
سريدان بن فطيس الحدرة الحرسوسي هو الشخصية المحورية في رواية "بن سولع"، وهو طالب درس البكالوريوس في جامعة لندن قبل سنوات، ويعمل الآن على إنجاز شهادة الماجستير في الجامعة نفسها. "هذا إذًا صباح الثامن عشر من نوفمبر عام 1977م. نهار المدينة زمهريرًا كان وكثيف الضباب... وكنت حينها أقف على زاوية تقاطع شارع كروميل رود مع شارع كلوستر رود بقلب لندن، بالقرب من محطة مترو الأنفاق، بانتظار الآنسة ميثاء العُمانية، زميلتي في الكلية، كي نقضي يومًا حافلًا مترافقين" (ص 9). هكذا يبدأ الفصل الأول، ومنذ الصفحة الأولى تبدأ علاقة سريدان وميثاء العُمانية في التشكل. وبفضل بحث سريدان عن مصادر تدعم بحثه المتعلق بمشكلة البريمي يخبرنا منذ الصفحة الأولى في الفصل الأول عن دور ميثاء العُمانية: "... وقد بادرت بدعوتها إلى الغداء عرفانًا لجميلها، بعدما ساعدتني في العثور على شخص من الواحات، وأقنعته بمقابلتي وإجراء حوار مطول معه، في أمر يعد في غاية الأهمية بالنسبة لمستقبلي الدراسي. وكان علينا بعد التسوق والغداء أن نعرج على مستشفى الأميرة جريس القريب من متحف الشمع "مدام توسو" بشارع بيكر، لزيارة رجل الواحات، دين بن ليّه –الملقب بود السهيلة- حيث يرقد مريضًا في ذلك المستشفى. وثمة قرابة تربط دين بن ليّه بالآنسة ميثاء العُمانية" (ص 9).
ينصب السارد فخاخه للقارئ ليفاجئه بعد ذلك بما استأنس حضورَه دون أن يعلم كنهه أو يقيم اعتبارًا لما قد يكون مستترًا خلفه. السارد يختار الزمن المناسب للكشف عن تفاصيل خبَّأها طويلًا بين السطور، كما هو الحال في علاقة ميثاء بـبن ليّه، إذ في أولى صفحات الرواية يكتفي سريدان بالقول إن "ثمة قرابة تربط دين بن ليّه بالآنسة ميثاء العُمانية" (ص 9)، ولا يكشف تلك القرابة الملتبسة لبسًا شديدًا إلا في الصفحة 216، ففي هذا الإيضاح ("ثمة قرابة") إبهام معلوماتي وإعتام سردي يتولى زمن الرواية إضاءتهما بطريقة هي الأخرى تحتاج إلى إضاءة الزمن التاريخي وليس زمن الرواية فقط. يفعل المتن هذا عبر حيثيات لها اعتبارها الزمني الثقافي المربوط على نحو لا فكاك منه بروح المكان المتأصِّلة في شخوصه. ستنار هذه العتمة حين يأتي الحديث عن جذور ميثاء العُمانية ذات السبعة عشر عامًا، الشخصية غير العادية التي تكشف الأحداث عن غرابة ولادتها في البريمي من أب يتعرض للاغتيال الخطأ في وقت كان الهدف المقصود هو سيده حاكم البريمي. ميثاء العُمانية سليلة بن طنَّاف المغتال خادم حاكم البريمي وسائق سيارته تنقلها تطورات أحداث مشكلة البريمي مع سيدها وأخته للعيش في بيروت. ثم تنتقل إلى لندن للدراسة، وتشاء الظروف أن تشترك في بعض محاضرات الجامعة وسريدان. ومن هنا تبدأ حكاية حب بين الاثنين.
لنعد إلى سريدان.
طالب عُماني يدرس في سبعينيات القرن الماضي في لندن!؛ هذا وضع قد لا يخطر على بال. نعم، سنصدق أن ميثاء العُمانية (يقول السارد سريدان "العُمانية" بالرغم من جنسيتها "الإماراتية"!) عبر استقرارها في بيروت انتهى بها المطاف -دون غرابة مستفحلة- في لندن، لكن كيف الحال بالنسبة إلى سريدان المقبل من جدّة الحراسيس؟!. سريدان الحرسوسي يسرد السبب: "لقد قادتني حالة من الشغب والرفض والتمرد إلى لندن، عندما جاء إلى بيتنا زائر هو الميجر لفتننت تيم كندي، وكان هذا الميجر مهمته إعداد طياري حرب يقودون سربًا من طائرات الجاكوار لحماية أرجاء الوطن... وفي واقع الأمر أن كل من يختارهم الميجر لفتننت كندي لا بد أن يكونوا أبناء شيوخ القبائل، وعلية القوم، ومن لهم صفات بدنية وعقلية لا يعرف مقاساتها إلا هو. ولا أعرف لماذا وقعت عينه عليَّ، وتم اختياري من دون امتحانات للانضمام إلى سرب طائرات الجاكوار، والتدريب بقاعدة غلاء الجوية العسكرية" (ص 26).
سريدان البالغ من العمر 27 عامًا الآن يعود القهقرى إلى الماضي قبل أن يبدأ دراسة البكالوريوس، أي –بالتقريب- إلى وقت كان على مشارف العشرين في وطنه عُمان: "وكانت أفكاري لا ترتاح للحياة العسكرية، ولا حتى تتقبلها. وكنت يومها متعلقًا بدراسة تاريخ العالم المعاصر"! (ص 27).
من أين تأتَّى كل هذا الوعي لسريدان؟. الزمن هنا له اعتبارات قوية لا يمكن تجاهلها سواء أبالرواية تعلق الأمر أم بالتاريخ، لأن الاثنين يتطابقان هنا. بالنسبة إلى شخصية سريدان المتجذرة أصولها في العزلة والماضي السحيق (الذي تنبع صفته هنا من المكان) تتفاقم المبررات الفنية وتنتكس وتنتكص. لكن لنترك هذا الأمر الآن وفيما يأتي ونستمر في الإصغاء إلى صوت سريدان:
"وذات مساء قائظ، عندما انتهينا من درس فصل الرادارات، توجهنا إلى كانتين ومطعم القاعدة، المخصص للطلاب الضباط المرشحين الجدد، وكنت أقف في الطابور منتظرًا وصولي لبوفيه الطعام، وإذا بالرقيب شنين يضع يده على كتفي ويأمرني بتقديم التحية العسكرية له. لقد أخبرنا من سبقونا إلى هذه القاعدة العسكرية أن الرقيب شنين لا يظهر في القاعدة الجوية غلاء إلا نادرًا، وهو معد لمهمات خاصة... لقد جحظت مقلتي خوفًا من وجهه الصارم حين طلب مني اتباعه، قائلًا بصوت آمر مسموع –ورائي- إلى نادي كبار الضباط" (ص 26، 27). في نادي كبار الضباط يقابل سريدان "المستر جيفري، المستشار في لجنة اختيار الكوادر السياسية في الوطن، والعالم في سلوك الحيوانات المعرضة للانقراض في الصحراء... ثم عرج بالحديث عن سبب هذه المقابلة، وإلى مانفيستو يحمله بيده به معلومات مهمة تخصني، دُوِّن فيه كل ما فعلته أو لم أفعله... وحينما سألني المستر جيفري عن التخصص الذي أنوي القيام به بدلًا من ضابط مرشح في سلاح الجو أجبته على غير هدى، لندن. أريد أن أدرس التاريخ السياسي بكلية دراسات التاريخ السياسي لشرق الجزيرة العربية في جامعة لندن وكلياتها. وبالذات في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية. ومن ذلك المكان، من نادي كبار الضباط بقاعدة غلاء الجوية، وبعد تلك المقابلة بثلاثة أيام أعفيت من الرهن الذي أوقعني به الميجر لفتننت تيم كندي في تلك القاعدة، ووجدت نفسي بين ليلة وضحاها أتمخطر وأتنطط في شوارع قلب لندن، بفضل عون المستر جيفري، منتسبًا لكلية دراسات التاريخ السياسي لشرق الجزيرة العربية" (ص 29، 30).
وضع سريدان إذن ليس وضعًا عاديًّا أبدًا.
يقول عن حياته أيام "قاعدة غلاء العسكرية": "لقد كانت حياتي التي عشتها تلك الأيام تشبه حياة أي فرد في فمه ملعقة من ذهب" (ص 26)؛ وتؤكد حياته في لندن ذلك بغرابة شديدة لا تصفو صورتها قطّ، فهو يصف ماركات الملابس –مثلًا- بدقة شخص لا علاقة له بجدة الحراسيس وبن سولع!، لكن يبدو أنه انغمر في الحياة المدنية إلى درجة مكنته من معرفتها على هذا النحو!. كما يصف حال أخته التي تتصل به هاتفيًّا من مسقط بالفقر والكفاف في أحسن الأحوال، لذلك يبدو الفرق شاسعًا حين تنتقل وزوجها للسكن في أحد مساكن الأجانب في مسقط ("كانت الرسالة الأولى من شقيقتي الكبرى، تخبرني فرحة بتركهم بيتهم القديم في حلة المدبغة بمسقط المدينة، وانتقالهم لسكن جديد بمرتفعات القرم، في بيوت الأجانب، من موظفي شركة تنمية نفط عُمان المُسرَّحين من الشركة هذا العام... ذلك الجحر الضيق الصغير الذي عشنا فيه حينما كنا نقيم معهم في مدينة مسقط" ( ص 236). وهذا يجعل "ملعقة الذهب" ماضيًا بحتًا شديد الغموض، لأنه حين يتحدث عن عودته إلى لندن -بعد تركه (عمله) في عُمان وتقديم استقالته- يتحدث عن وضع اقتصادي أقل شأنًا بكثير: "بينما طوال فترة إقامتي في دار زوج شقيقتي الكبرى لم نتذوق السلطة، ولا يوجد أصلًا طبق سلاطات ومقبلات على (العزاف)" (ص 57). "... أنتما الاثنان طلاب، وأعرف أن مصروفكما قليل..." (ص 106). "وحينما أعيتني الحيلة قدمت استقالتي، وشرعت بالسفر بما معي من نقود بسيطة جنيتها من عملي، وساعدتني شقيقتي الكبرى في تدبير تذكرة السفر، وبعدها حصلت على منحة دراسية في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في برنامج دبلوم الدراسات العليا قسم التاريخ السياسي المعاصر" (ص 322). ألا تتضارب المعلومات بين ما جاء في الصفحة 26 وبين ما تلاها؟. هل للأمر علاقة بماضي سريدان الغامض المروي بصيغة تنفصل عن كل ما روي قبله؟.
تفاصيلُ وأزمانٌ وخيطٌ مشدود
وفي الروايتين يقوم السارد العُماني بسرد حركاته وسكناته في إسطنبول ولندن، مجريًا، في الوقت نفسه، مقارنة بين ما يحدث هناك وما يحدث في وطنه. وفي الروايتين يقيم السارد، وهو الشخصية المحورية، ارتباطًا حميمًا بفتاة تسفر عنه علاقة حب وزواج في نهاية المطاف. ولعل الصواب لن يُجانبنا إذا اعتبرنا "بن سولع" الصادرة حديثًا تطويرًا لـ"همس الجسور"، ليس بسبب ثيماتهما وخطوطهما العريضة المشتركة فحسب، بل لأن علي المعمري، باعتباره روائيًّا، يقطع شوطًا أبعد في الاشتغال على كتابته السردية، ويبدو مهمومًا كثيرًا برسم شخصيات واضحة المعالم وسياق يتصاعد حتى يبلغ ذروته.
هناك في "همس الجسور" يتوازى السرد ويتقاطع ويتداخل بين مدينة إسطنبول وظفار، بين كوبا وعُمان، بين عهدين. وهنا في "بن سولع"، وفي قلب مدينة لندن، يبسط الكاتب مشكلة واحات البريمي مثار النزاع القديم بين سلطنة مسقط وعُمان وإمارات ساحل عُمان والسعودية، وبالتأكيد تأتي وكالة الجراد والمستعمرون الإنجليز في رأس حربة الفتن لرسم زمن ومكان جديدين يقتلعان جذور أي وئام مستقر. ويستدعي الكاتب فترات تعود إلى القرن الثامن عشر أحيانًا، وتتراوح أحداثها بين الشد والجذب في صراع مراكز القوى ومن يحالفه النصر ومن يعد العدة لتعويض الخسارة.
وفي الروايتين لا يكتفي الكاتب بمعالجة التاريخ القديم المسرود بموازاة المضارع، بل يحاول ربط الزمنين بالشخصيات نفسها، عبر مفاجآت يُظهرها الاستغراق في القراءة، كما هو الشأن –مثلًا- مع "خلفان" في "همس الجسور" و"ميثاء العُمانية" في "بن سولع"، وكذلك مع "علي الزمان" في الأولى و"سريدان/بن سولع" في الثانية.
وعلى عكس ما يُقال عن كتب علي المعمري عادةً فإن شخصيته تحضر بقوة شديدة طيلة صفحات سرده، وتكاد تصر على رسم ملامحه وحركاته وخفة دمه التي يُصعِّدها السرد إلى حد يجعل القارئ لا يتمالك نفسه من الانفجار في الضحك أحيانًا، وهو ما يشير إلى تعمد الكاتب ووعيه إياه في أثناء انهماكه في الكتابة. لكن لعل هذا الأمر لا يتضح لأي قارئ، بل لأولئك الذين يعرفون علي المعمري فقط!، أو أولئك الذين قرأوا جميع كتبه. هنا يمكن إيضاح المقصود بالتذكير بالآتي من أجواء "بن سولع": "مقهى نو بروبلم"، "غابة النسيان"، "القطّ حمران"، "بومبوم"، "قرحة العافية"، "العشبة الخضراء"، "الأرملة السوداء"... إلخ.
هذه الملاحظة تنبني تباعًا كلما تقدم القارئ في القراءة، بحيث إن الأمر يغدو غير قابلٍ للتجاهل، وهو ما قد يشكل عائقًا في المستقبل، إذ قد يُحْدِثُ اضطرابًا بنيويًّا في الشخصية يُراوِح موقعَ الكاتب بين مسار شخصية الرواية وسيرته الذاتية (سيرة الكاتب)، فضلًا عن أن الشخصية تصبح استنساخًا لسابقتها. دون أي داع لتكرار الإشارة سوف يتضح هذا الأمر حين الحديث عن "بن سولع".
سريدان الحرسوسي وميثاء العُمانية
سريدان بن فطيس الحدرة الحرسوسي هو الشخصية المحورية في رواية "بن سولع"، وهو طالب درس البكالوريوس في جامعة لندن قبل سنوات، ويعمل الآن على إنجاز شهادة الماجستير في الجامعة نفسها. "هذا إذًا صباح الثامن عشر من نوفمبر عام 1977م. نهار المدينة زمهريرًا كان وكثيف الضباب... وكنت حينها أقف على زاوية تقاطع شارع كروميل رود مع شارع كلوستر رود بقلب لندن، بالقرب من محطة مترو الأنفاق، بانتظار الآنسة ميثاء العُمانية، زميلتي في الكلية، كي نقضي يومًا حافلًا مترافقين" (ص 9). هكذا يبدأ الفصل الأول، ومنذ الصفحة الأولى تبدأ علاقة سريدان وميثاء العُمانية في التشكل. وبفضل بحث سريدان عن مصادر تدعم بحثه المتعلق بمشكلة البريمي يخبرنا منذ الصفحة الأولى في الفصل الأول عن دور ميثاء العُمانية: "... وقد بادرت بدعوتها إلى الغداء عرفانًا لجميلها، بعدما ساعدتني في العثور على شخص من الواحات، وأقنعته بمقابلتي وإجراء حوار مطول معه، في أمر يعد في غاية الأهمية بالنسبة لمستقبلي الدراسي. وكان علينا بعد التسوق والغداء أن نعرج على مستشفى الأميرة جريس القريب من متحف الشمع "مدام توسو" بشارع بيكر، لزيارة رجل الواحات، دين بن ليّه –الملقب بود السهيلة- حيث يرقد مريضًا في ذلك المستشفى. وثمة قرابة تربط دين بن ليّه بالآنسة ميثاء العُمانية" (ص 9).
ينصب السارد فخاخه للقارئ ليفاجئه بعد ذلك بما استأنس حضورَه دون أن يعلم كنهه أو يقيم اعتبارًا لما قد يكون مستترًا خلفه. السارد يختار الزمن المناسب للكشف عن تفاصيل خبَّأها طويلًا بين السطور، كما هو الحال في علاقة ميثاء بـبن ليّه، إذ في أولى صفحات الرواية يكتفي سريدان بالقول إن "ثمة قرابة تربط دين بن ليّه بالآنسة ميثاء العُمانية" (ص 9)، ولا يكشف تلك القرابة الملتبسة لبسًا شديدًا إلا في الصفحة 216، ففي هذا الإيضاح ("ثمة قرابة") إبهام معلوماتي وإعتام سردي يتولى زمن الرواية إضاءتهما بطريقة هي الأخرى تحتاج إلى إضاءة الزمن التاريخي وليس زمن الرواية فقط. يفعل المتن هذا عبر حيثيات لها اعتبارها الزمني الثقافي المربوط على نحو لا فكاك منه بروح المكان المتأصِّلة في شخوصه. ستنار هذه العتمة حين يأتي الحديث عن جذور ميثاء العُمانية ذات السبعة عشر عامًا، الشخصية غير العادية التي تكشف الأحداث عن غرابة ولادتها في البريمي من أب يتعرض للاغتيال الخطأ في وقت كان الهدف المقصود هو سيده حاكم البريمي. ميثاء العُمانية سليلة بن طنَّاف المغتال خادم حاكم البريمي وسائق سيارته تنقلها تطورات أحداث مشكلة البريمي مع سيدها وأخته للعيش في بيروت. ثم تنتقل إلى لندن للدراسة، وتشاء الظروف أن تشترك في بعض محاضرات الجامعة وسريدان. ومن هنا تبدأ حكاية حب بين الاثنين.
لنعد إلى سريدان.
طالب عُماني يدرس في سبعينيات القرن الماضي في لندن!؛ هذا وضع قد لا يخطر على بال. نعم، سنصدق أن ميثاء العُمانية (يقول السارد سريدان "العُمانية" بالرغم من جنسيتها "الإماراتية"!) عبر استقرارها في بيروت انتهى بها المطاف -دون غرابة مستفحلة- في لندن، لكن كيف الحال بالنسبة إلى سريدان المقبل من جدّة الحراسيس؟!. سريدان الحرسوسي يسرد السبب: "لقد قادتني حالة من الشغب والرفض والتمرد إلى لندن، عندما جاء إلى بيتنا زائر هو الميجر لفتننت تيم كندي، وكان هذا الميجر مهمته إعداد طياري حرب يقودون سربًا من طائرات الجاكوار لحماية أرجاء الوطن... وفي واقع الأمر أن كل من يختارهم الميجر لفتننت كندي لا بد أن يكونوا أبناء شيوخ القبائل، وعلية القوم، ومن لهم صفات بدنية وعقلية لا يعرف مقاساتها إلا هو. ولا أعرف لماذا وقعت عينه عليَّ، وتم اختياري من دون امتحانات للانضمام إلى سرب طائرات الجاكوار، والتدريب بقاعدة غلاء الجوية العسكرية" (ص 26).
سريدان البالغ من العمر 27 عامًا الآن يعود القهقرى إلى الماضي قبل أن يبدأ دراسة البكالوريوس، أي –بالتقريب- إلى وقت كان على مشارف العشرين في وطنه عُمان: "وكانت أفكاري لا ترتاح للحياة العسكرية، ولا حتى تتقبلها. وكنت يومها متعلقًا بدراسة تاريخ العالم المعاصر"! (ص 27).
من أين تأتَّى كل هذا الوعي لسريدان؟. الزمن هنا له اعتبارات قوية لا يمكن تجاهلها سواء أبالرواية تعلق الأمر أم بالتاريخ، لأن الاثنين يتطابقان هنا. بالنسبة إلى شخصية سريدان المتجذرة أصولها في العزلة والماضي السحيق (الذي تنبع صفته هنا من المكان) تتفاقم المبررات الفنية وتنتكس وتنتكص. لكن لنترك هذا الأمر الآن وفيما يأتي ونستمر في الإصغاء إلى صوت سريدان:
"وذات مساء قائظ، عندما انتهينا من درس فصل الرادارات، توجهنا إلى كانتين ومطعم القاعدة، المخصص للطلاب الضباط المرشحين الجدد، وكنت أقف في الطابور منتظرًا وصولي لبوفيه الطعام، وإذا بالرقيب شنين يضع يده على كتفي ويأمرني بتقديم التحية العسكرية له. لقد أخبرنا من سبقونا إلى هذه القاعدة العسكرية أن الرقيب شنين لا يظهر في القاعدة الجوية غلاء إلا نادرًا، وهو معد لمهمات خاصة... لقد جحظت مقلتي خوفًا من وجهه الصارم حين طلب مني اتباعه، قائلًا بصوت آمر مسموع –ورائي- إلى نادي كبار الضباط" (ص 26، 27). في نادي كبار الضباط يقابل سريدان "المستر جيفري، المستشار في لجنة اختيار الكوادر السياسية في الوطن، والعالم في سلوك الحيوانات المعرضة للانقراض في الصحراء... ثم عرج بالحديث عن سبب هذه المقابلة، وإلى مانفيستو يحمله بيده به معلومات مهمة تخصني، دُوِّن فيه كل ما فعلته أو لم أفعله... وحينما سألني المستر جيفري عن التخصص الذي أنوي القيام به بدلًا من ضابط مرشح في سلاح الجو أجبته على غير هدى، لندن. أريد أن أدرس التاريخ السياسي بكلية دراسات التاريخ السياسي لشرق الجزيرة العربية في جامعة لندن وكلياتها. وبالذات في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية. ومن ذلك المكان، من نادي كبار الضباط بقاعدة غلاء الجوية، وبعد تلك المقابلة بثلاثة أيام أعفيت من الرهن الذي أوقعني به الميجر لفتننت تيم كندي في تلك القاعدة، ووجدت نفسي بين ليلة وضحاها أتمخطر وأتنطط في شوارع قلب لندن، بفضل عون المستر جيفري، منتسبًا لكلية دراسات التاريخ السياسي لشرق الجزيرة العربية" (ص 29، 30).
وضع سريدان إذن ليس وضعًا عاديًّا أبدًا.
يقول عن حياته أيام "قاعدة غلاء العسكرية": "لقد كانت حياتي التي عشتها تلك الأيام تشبه حياة أي فرد في فمه ملعقة من ذهب" (ص 26)؛ وتؤكد حياته في لندن ذلك بغرابة شديدة لا تصفو صورتها قطّ، فهو يصف ماركات الملابس –مثلًا- بدقة شخص لا علاقة له بجدة الحراسيس وبن سولع!، لكن يبدو أنه انغمر في الحياة المدنية إلى درجة مكنته من معرفتها على هذا النحو!. كما يصف حال أخته التي تتصل به هاتفيًّا من مسقط بالفقر والكفاف في أحسن الأحوال، لذلك يبدو الفرق شاسعًا حين تنتقل وزوجها للسكن في أحد مساكن الأجانب في مسقط ("كانت الرسالة الأولى من شقيقتي الكبرى، تخبرني فرحة بتركهم بيتهم القديم في حلة المدبغة بمسقط المدينة، وانتقالهم لسكن جديد بمرتفعات القرم، في بيوت الأجانب، من موظفي شركة تنمية نفط عُمان المُسرَّحين من الشركة هذا العام... ذلك الجحر الضيق الصغير الذي عشنا فيه حينما كنا نقيم معهم في مدينة مسقط" ( ص 236). وهذا يجعل "ملعقة الذهب" ماضيًا بحتًا شديد الغموض، لأنه حين يتحدث عن عودته إلى لندن -بعد تركه (عمله) في عُمان وتقديم استقالته- يتحدث عن وضع اقتصادي أقل شأنًا بكثير: "بينما طوال فترة إقامتي في دار زوج شقيقتي الكبرى لم نتذوق السلطة، ولا يوجد أصلًا طبق سلاطات ومقبلات على (العزاف)" (ص 57). "... أنتما الاثنان طلاب، وأعرف أن مصروفكما قليل..." (ص 106). "وحينما أعيتني الحيلة قدمت استقالتي، وشرعت بالسفر بما معي من نقود بسيطة جنيتها من عملي، وساعدتني شقيقتي الكبرى في تدبير تذكرة السفر، وبعدها حصلت على منحة دراسية في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في برنامج دبلوم الدراسات العليا قسم التاريخ السياسي المعاصر" (ص 322). ألا تتضارب المعلومات بين ما جاء في الصفحة 26 وبين ما تلاها؟. هل للأمر علاقة بماضي سريدان الغامض المروي بصيغة تنفصل عن كل ما روي قبله؟.
تفاصيلُ وأزمانٌ وخيطٌ مشدود
في سياق تجربة علي المعمري الروائية يتضح الجهد المبذول في كتابة هذه الرواية، ليس فقط من ناحية عدد صفحاتها البالغ 439 صفحة، بل من نواح أخرى أبرزها الشخصيات والأحداث ومسارها طيلة زمن الرواية.
يولي السارد اهتمامًا كبيرًا حتى بأدق التفاصيل ولا يفوت فرصة يشبع فيها نهمه من سرد المعلومات: "إذا بصوتينا وكأننا جوقة تطلب من النادل الواقف بجوار طاولتنا زجاجة شمبانيا ماركة جون برينيون" (ص 88). "وكنت أضع زندي على كتف كريستي، مستمعًا لأول معلومة تقولها، وهي تشير إلى الحانات والمطاعم وصالات الموسيقى، بأن أماديوس موتزارت عزف في أندية هذا الحي فترة من الزمن، ثم أشارت إلى شارع (دين) وقالت إن كارل ماركس لجأ إلى هذا الشارع في القرن التاسع عشر، واستأجر شقة ليكتب ويبحث نظرية تبنتها روسيا، وأصبحت دولة العمال والبوليتاريا قائمة في الاتحاد السوفيتي على مبادئ نظريته. وأثناء ما كنا نقطع شارع (بولند) أشارت إلى مبنى به يافطة زرقاء كتب عليها "في هذه الشقة الصغيرة ولد الشاعر الإنجليزي وليم بليك". ثم أضافت أن في هذا الزقاق –وهي تشير إلى داخله- مضى الشاعر تشلي ردحًا من الزمن" (ص 151، 152). "كانت تحمل في صينية فضية زجاجة من الكريستال الأيرلندي، وبها ويسكي معتق ماركة "وايت مكيه"، وكأسان من نفس الكريستال البلوري، وصندوق صغير من الخشب مطعم بالعاج...."! (ص 410). "وجدت بريقًا خاصًّا يخطف بصري ومغناطيسيًّا يشد يدي إلى ماركة لورد جون"! (ص 241).
في الوقت الذي يسرد فيه سريدان حكايته في لندن يعيد ترتيب حكاية مشكلة البريمي زمنيًّا، ذاهبًا بالقارئ إلى الرمل والإنجليز والقبائل والمشيخات المتناثرة في الصحراء والحروب القذرة. أسماء وشخصيات كثيرة في "بن سولع"، أكثر من تلك التي تحمل الخطوط العريضة بين أطراف الصراع، تفرعات وتفاصيل وتفاصيل تفاصيلها تستغرق صفحات بأكملها تسهب في سرد أحداث قيام دبي واتحاد الإمارات، وتفاصيل عن دول الخليج الحديثة والمُستحدَثة وحكامها، عن سعيد بن تيمور وشخبوط بن سلطان وزايد بن سلطان وبن عطيشان وسباع بن نطلة وبن سعود، عن السير مالكوم كامبل وبن غبيشة وبن كبينة ومحمد صالح بن كلوت ووليفريد ثيسجر الذي يحضر سريدان محاضرة له في جامعة لندن: "... من سيحاضر بهذا السيمنار رحالة إنجليزي، لعب دورًا كبيرًا في إثراء المعلومات والبيانات المهمة، وكشف عن الأماكن الاستراتيجية لوكالة الجراد، في قيامه برحلات تجسسية واستطلاعية مهمة، تحت مسمى مكافحة الجراد، شملت إثيوبيا وكينيا والسودان والصومال وأهوار العراق، وصحراء الربع الخالي، حينما كان موظفًا رسميًّا في وكالة الجراد، ويدعى لدى البدو بمبارك بن لندن "ثيسجر" الذي قام بقطع الربع الخالي بالجزيرة العربية، من مدينة صلالة وحتى مدينة أبو ظبي...." (ص 307، 308). وحسبما هو واضح في المقتبس سابقًا يعبر السارد في بعض الأحيان عن وجهة نظره في ما يحدث، وفي ما يتعلق بالشخصيات ومرجعياتها، ويتبنى قناعة تختلف عن السائد والمُروَّج له. يقول في سياق آخر: "... ووقف الفلسي مع من وقف من وجوه قبائل عرب البريمي في وجه الغزاة. ولم يبع ذمته كما باعها بعض رموز الواحات بثمن بخس" (ص 220).
وفي "بن سولع" شخصيات أكثر من أن تحصيها هذه القراءة، شخصيات مريبة وأخرى مسالمة، شخصيات رئيسة وأخرى ثانوية، شخصيات تشارك في صنع الأحداث الآن وأخرى أبلت بلاءها في الماضي أو محقت صورة الماضي للأبد ورسمت تاريخًا خلخلت فيه مصائر شعوب.
الجنس والحب والماريوانا
يولي السارد اهتمامًا كبيرًا حتى بأدق التفاصيل ولا يفوت فرصة يشبع فيها نهمه من سرد المعلومات: "إذا بصوتينا وكأننا جوقة تطلب من النادل الواقف بجوار طاولتنا زجاجة شمبانيا ماركة جون برينيون" (ص 88). "وكنت أضع زندي على كتف كريستي، مستمعًا لأول معلومة تقولها، وهي تشير إلى الحانات والمطاعم وصالات الموسيقى، بأن أماديوس موتزارت عزف في أندية هذا الحي فترة من الزمن، ثم أشارت إلى شارع (دين) وقالت إن كارل ماركس لجأ إلى هذا الشارع في القرن التاسع عشر، واستأجر شقة ليكتب ويبحث نظرية تبنتها روسيا، وأصبحت دولة العمال والبوليتاريا قائمة في الاتحاد السوفيتي على مبادئ نظريته. وأثناء ما كنا نقطع شارع (بولند) أشارت إلى مبنى به يافطة زرقاء كتب عليها "في هذه الشقة الصغيرة ولد الشاعر الإنجليزي وليم بليك". ثم أضافت أن في هذا الزقاق –وهي تشير إلى داخله- مضى الشاعر تشلي ردحًا من الزمن" (ص 151، 152). "كانت تحمل في صينية فضية زجاجة من الكريستال الأيرلندي، وبها ويسكي معتق ماركة "وايت مكيه"، وكأسان من نفس الكريستال البلوري، وصندوق صغير من الخشب مطعم بالعاج...."! (ص 410). "وجدت بريقًا خاصًّا يخطف بصري ومغناطيسيًّا يشد يدي إلى ماركة لورد جون"! (ص 241).
في الوقت الذي يسرد فيه سريدان حكايته في لندن يعيد ترتيب حكاية مشكلة البريمي زمنيًّا، ذاهبًا بالقارئ إلى الرمل والإنجليز والقبائل والمشيخات المتناثرة في الصحراء والحروب القذرة. أسماء وشخصيات كثيرة في "بن سولع"، أكثر من تلك التي تحمل الخطوط العريضة بين أطراف الصراع، تفرعات وتفاصيل وتفاصيل تفاصيلها تستغرق صفحات بأكملها تسهب في سرد أحداث قيام دبي واتحاد الإمارات، وتفاصيل عن دول الخليج الحديثة والمُستحدَثة وحكامها، عن سعيد بن تيمور وشخبوط بن سلطان وزايد بن سلطان وبن عطيشان وسباع بن نطلة وبن سعود، عن السير مالكوم كامبل وبن غبيشة وبن كبينة ومحمد صالح بن كلوت ووليفريد ثيسجر الذي يحضر سريدان محاضرة له في جامعة لندن: "... من سيحاضر بهذا السيمنار رحالة إنجليزي، لعب دورًا كبيرًا في إثراء المعلومات والبيانات المهمة، وكشف عن الأماكن الاستراتيجية لوكالة الجراد، في قيامه برحلات تجسسية واستطلاعية مهمة، تحت مسمى مكافحة الجراد، شملت إثيوبيا وكينيا والسودان والصومال وأهوار العراق، وصحراء الربع الخالي، حينما كان موظفًا رسميًّا في وكالة الجراد، ويدعى لدى البدو بمبارك بن لندن "ثيسجر" الذي قام بقطع الربع الخالي بالجزيرة العربية، من مدينة صلالة وحتى مدينة أبو ظبي...." (ص 307، 308). وحسبما هو واضح في المقتبس سابقًا يعبر السارد في بعض الأحيان عن وجهة نظره في ما يحدث، وفي ما يتعلق بالشخصيات ومرجعياتها، ويتبنى قناعة تختلف عن السائد والمُروَّج له. يقول في سياق آخر: "... ووقف الفلسي مع من وقف من وجوه قبائل عرب البريمي في وجه الغزاة. ولم يبع ذمته كما باعها بعض رموز الواحات بثمن بخس" (ص 220).
وفي "بن سولع" شخصيات أكثر من أن تحصيها هذه القراءة، شخصيات مريبة وأخرى مسالمة، شخصيات رئيسة وأخرى ثانوية، شخصيات تشارك في صنع الأحداث الآن وأخرى أبلت بلاءها في الماضي أو محقت صورة الماضي للأبد ورسمت تاريخًا خلخلت فيه مصائر شعوب.
الجنس والحب والماريوانا
في الفصل التاسع ينفصل سريدان عن الزمن الحاضر ويذهب إلى الماضي من خلال سرد ميثاء العُمانية حكايتها وحكاية مولدها في البريمي. وفي الفصل الثالث عشر يتمادى سريدان الراوي أبعد في الماضي، أبعد من صحراء البريمي وجدة الحراسيس مسقط رأسه، بمعلومات غزيرة صفحة بعد صفحة، في أعماق الربع الخالي، وفيما حوله وقربه، حتى نكاد نوقن بتيهه الكلي هناك وانقطاعه عن أن يعود إلى جادة الطريق.
لعل ما يسبب هذا التيه عدة عوامل منها غزارة المعلومات التي ينكب سريدان على قراءتها ودراستها لغرض إنجاز بحثه العلمي، ومنها أيضًا تعاطي الكحول والماريوانا والحشيش!.
برغم وجود سريدان في لندن لغرض الدراسة إلا أنه مولع بالشرب والجنس والمتعة وتدخين الماريوانا ولفافات الأرملة السوداء. يجد الوقت الكافي للدراسة والمتعة، بل وحتى لتربية قط يطلق عليه اسم "حمران"!. يتعرف إلى نساء عديدات من بينهن بروين زوجة جاره الإيراني محمد مصدّق، وكريستي الفتاة الإنجليزية التي يقابلها في حانة "تيس"، وميثاء العُمانية. هنا مفهوم ملتبس للحب؛ سريدان البدوي المقبل من الصحراء لا يعرف الوفاء هو الآخر، ويخلط في ممارسته بين الحب والجنس: "سحبتني مويجات السيجارة المحشوة في وادي النساء، ورمتني إلى أسئلة لا منتهية كان جواب واحد لها في ذهني تلك اللحظة وهو أنني لا يمكنني الاستغناء عن واحدة منهن في الوقت الراهن. فكل واحدة منهن تمتاز بميزة فريدة من نوعها، تختلف وتناقض ميزة الأخرى. هذه العُمانية أحبها حبًّا جمًّا، وجارتي الإيرانية أشتهيها، وأرغب في جسدها كل لحظة، منذ ليلة دعوة المفاجآت ولحظات الإفراج عنها من سجنها. أما الويلزية ذات النمش الذي يغريني على جسدها فإنني أستعذبها وهي تتكلم وتستمع، وتتناقش في كل أمور الحياة، بل إنها تصدق ببراءة كل ما أقوله لها. ولا أريد أن أكسر خاطرها في أمور تريدها مني"! (278). كما هو الحال هنا هذا الأمر يشكل منغِّصًا يشعر به سريدان أحيانًا عندما تستفحل ممارساته الجنسية مع جارته بروين وكريستي وفتاة أخرى يلتقي بها في سهرة ببيت كارن. تتمادى ممارسات سريدان حتى تبلغ الازدواجية والانفصام.
في الصفحات الأولى للفصل الأول يعلم القارئ أن سريدان يسعى إلى توثيق علاقته بميثاء العُمانية ويغتنم كل المواقف مهما كانت من أجل أن تتطور الأحداث في صالحه: "وكنت أضع في صينيتي ما تضعه ميثاء العُمانية من طعام في صينيتها بعناية فائقة، تشعرك بحس خاص في انتقاءاتها لوجبة غذائية صحية كاملة. ومن لحظتها أصبت بداء رغبة الجذب والانجذاب بالآنسة ميثاء العُمانية. ومن لحظتها تمنيت مرافقتها بشكل مستمر ودائم. وكنت أتحين فرصة لقائي بها في أي وقت من الأوقات. وكنت أدعو، وأتمنى، في كل لحظة من لحظاتي، أن يمنحني القدر فرصة ويجمعني بها لقاء منفرد...." (ص 15). "انتهزت فرصة حلقة المناقشة في المساق الحر لشد انتباهها نحوي" (ص 16). "كنت أثناء ذلك أحاول جادًّا إطالة الحديث معها قبل كل شيء، هو لا غيره، شوقًا ولهفة للقياها" (ص 21).
بن ليّة نسيب سباع بن نطلة حاكم البريمي. وكما هو الحال في التشويهات الملحقة بالحدود بين عُمان وإمارات الساحل يكتسب وضع الناس وضعًا شبيهًا، وبالتالي يتعلق الأمر بميثاء العمانية أيضًا: "... يتحدث عن بيت بن ليّه ويقول إن طرفًا من هذا البيت اتجه بولائه لزايد بن سلطان، أما الطرف الآخر فقد حافظ على علاقات متوازنة مع بقية أطراف القوى والقبائل التي لها علاقة بواحة البريمي، ولكن ميوله وعواطفه معروفة من قبلنا، وكلها تنصب في ولائها إلى سلطان مسقط وعُمان...." (ص 206)؛ هذا ما يقوله السير البروفيسور مالكوم كامبل المشرف على دراسة سريدان الحرسوسي في جامعة لندن. "معروفة من قبلنا"، أي من قبل المستعمرين الإنجليز. وهكذا يوحي السرد ضمنيًّا أن حكاية ميثاء العُمانية معروفة (من قبلهم أيضًا)!. لا يتطرق سريدان إلى هذه المسألة، ويوحي إلينا نعته ميثاء بـ"العُمانية" بأنها كذلك برغم أنه يشير إلى الدور الإماراتي الضليع حتى في قدوم بن ليّه وأخته وميثاء إلى لندن. هل يتعلق الأمر هنا أيضًا بوجهة نظر السارد من التاريخ والحاضر؟، أم يتعلق بمواطنين يحملون جنسية ويعترفون بأخرى غيرها؟!.
لنعد إلى الحب مجدَّدًا.
يكاد لا يمر يوم دون أن يلتقي سريدان وميثاء، وشغفه بها يزداد كل يوم، لكنه، في الوقت ذاته، يمارس الجنس مع أخريات في الليل، وفي النهار يلتقي بها وكأن شيئًا لم يكن باستثناء وخز الضمير المؤنب بين فترات متباعدة، وخز لا يرافقه إيمان ولا فعل يلغي سببه، على الرغم من أن الأمر بلغ شوطًا بعيدًا بين سريدان وبين نفسه: "... وقارنت بينها وبين كريستي وجارتي السيدة الإيرانية، فوجدت كافة موازين قوى الجذب تميل للآنسة ميثاء العُمانية دون شك. وكان كل ذلك يصيبني بألم ووخز في الضمير، بسبب ما أفعله من وراء ظهرها، لكنني كنت أتصبر على أمري، مرددًا بين نفسي بأن علاقتنا لم تتضح بعد" (ص 139). ويبدو أن الأمر برمته غير واضح تمامًا بالنسبة إلى سريدان، برغم كل ما يسرده ويقوله بخصوص ميثاء العُمانية: "لأول مرة أعرف اسم أبيها وأمها. فأنا أعرفها بأنها ميثاء العُمانية، وأضفت لها لقب الآنسة قبل ذكر اسمها حين أناديها، ولن أغيره إلا بعد أن يبتان الخيط الأبيض من الخيط الأسود" (ص 143). لا يبين "الخيط الأبيض من الخيط الأسود" إلا بعد سلسلة أخرى من التأنيب والممارسات المتناقضة التي تهيمن فيها صورة الدنجوان المستهتر ("... دروب أوصلتني للحالة التي أصبحت عليها بين ليلة وضحاها "دون جوان" في عالم المرأة".... (ص 267))، الأمر الذي يحتاج تجاوزه إلى الانتقال من حال إلى حال آخر: "وبعدما انتهت مكالمتي بميثاء حل بي الندم على ما أقوم به مع جارتي بروين، وأصابني من جراء ذلك الندم كآبة ما عهدتها فترة إقامتي في هذا الشارع الذي قطنت به ما يقارب السنة. وقبل أن أخرج أشعلت نصف سيجارة قامت بحشوها كريستي منذ فترة وتركتها ساكنة بمنفضة السجائر، وبدأت مجاتها ترخيني وتحيل لوعتي وندمي إلى التفكير جديًّا بقطع العلاقة بيني وبين بروين مصدق نهائيًّا...." (392). "... إنها عاهرة، أنا أعرفها... ومعظم من سيأتي صبايا عازبات، ويتمنين إقامة علاقات مع شاب في مثل سنك، وسوف أدبر لك طريقة مع واحدة منهن هذه الليلة. تمنيت، وأنا أعانقها، مودعًا في طريقي إلى محطة كلوستر للأنفاق، ألا أتعرف على فتاة من أجل علاقة الجنس، فأنا أحاول التخلص من هذه العلاقات بعدما اتضح لي أن مصيرها باطل، ويجب أن تنصب مجهوداتي على تطهير نفسي من أدران تلك العلاقات العابرة التي خضتها مضطرًّا في هذه المدينة. وأصبحت الآن أؤسس عالم الحب مع الحبيبة ميثاء، وأهيئ نفسي لعالم الولاء والالتزام لمن ستكون شريكة حياتي" (ص 393). "أما النقطة الأخرى، والتي لها علاقة مباشرة بقرار نقلي من تلك الشقة الصغيرة، فهي السيدة بروين مصدّق، الجارة التي تحولت علاقة الجنس معها إلى حالة مرضية" (ص 400). وقرار الانتقال هذا الذي يحتمه قراره الارتباط بميثاء يودعه بسهرة في شقة صديقته كارن يتعرف خلالها إلى "نادين": "كانت المرأة التي صدمتني بكتفها تدعى نادين، جذورها العميقة من هولندا، لكنها ولدت وتربت وترعرعت في مدينة كايب تاون بجنوب إفريقيا. كانت نادين مكتملة الأنوثة، وهي بكل المقاييس تنتمي إلى حوريات الجنة على الأرض، ويالها من صدفة عجيبة حصلت لي معها بعدما شربنا نخب تعارفنا، ومجت معي مجات عديدة من سيجارة لفتها كارن من العيار الثقيل، وحشتها بعناية فائقة قبل حادثة الاصطدام، إذ قالت لي وهي شبه مسطولة إنها كانت صديقة لشخصية عُمانية مرموقة تعمل في مهن خطرة، ومنها مهنة تجارة البترول في السوق السوداء، بين عُمان وجنوب إفريقيا. ومهنة تجارة الأسلحة بينه وبين شريكه المستشار الأحمر، الذي يدعى السلطان الأبيض في بريطانيا، ويعمل معززًا مكرمًا في سلطنة عُمان" (ص 406).
التاريخ المسكوت عنه
تمتلئ رواية "بن سولع" بمعلومات تعتبر ممنوعة ومحرمة في بلدان الخليج. إن ما يذهل أشد الذهول أن الاستعمار هو من يكتب التاريخ في نهاية المطاف، فهو المنتصر، وليس اندحاره إلا تكتيكًا يشبه الكر والفر في مصطلحات الخطط الحربية، إذ إنه زرع عملاءه ونصبهم على رؤوس الأشهاد، وفي اللحظة التي يستشعر فيها انحرافهم عن ما رسمه لهم لا يتوانى عن الانقلاب عليهم بأقرب المقربين إليهم، بحيث إن أولئك وهؤلاء لا يعدون كونهم دمى تحرك من بعد. ويزداد ذهولنا كلما أوغل سريدان في استحضار التاريخ الذي لم يستحل جثة ولم يمت برغم رائحة فساده وعفونته، حتى كأن الحاضر ليس إلا غطاء تذروه ريح البحث لتنكشف تلك الحفرة السحيقة المعوقة لأي تطور حقيقي أو نوايا تنموية سوية مبنية على شعور وطني لا تشوهه المصلحة الشخصية والتحالفات الدنيئة. بل إن سريدان يمضي أبعد في استشعار تشويه يطال حتى أرواح الناس: "والواقع أنني أرى في ميثاء الحلم الذي أود تحقيقه في حياتي، بعدما تعافيت من جراح وكسور نتيجة تجاربي السابقة. لقد حاولت كثيرًا أن أحقق حلمي في الوطن لكن للأسف الشديد، وأنا أتكلم بحرقة ومرارة أصابتني في الحال، حلمي لا يمكن تحقيقه في مكان موبوء بداء ألمَّ ببشر في يدهم تكمن سلطة الأمر والنهي، وهم يرون ما الأصوب والصحيح في تنفيذه، أما الآخر فهو دومًا العدو اللدود لهم، وعلى خطأ في كل ما يفعله ويقوم به من أعمال وتصرفات تخالف أوامرهم" (ص 387).
لنلحظ هنا أن سريدان كف عن استعمال ذاك النعت: "العُمانية". في الواقع لقد كف قبل الآن أيضًا، إذ يبدو أنه يمضي باتجاه الحب منسلخًا تدريجًا عن استحضار الوطن بصيغه المعتادة.
وبرغم إيلاء سريدان السارد التفاصيل وتفاصيلها دقة شديدة، بكل ما تحتويه من مكان وزمان وأسماء شخصيات، إلا أنه يدخل في وصف غامض لظروف عمله القديم في عُمان. واضح أنه يسرد تفاصيل تجربة مريرة، ولعل هذا السبب المباشر في قراره الهجرة نهائيّاً عن عُمان. هذا الأمر يرتبط مباشرة بالتحول الحادث في حياته: ارتباطه بميثاء وتألمه من ماضي حياته في عُمان. هذان العاملان تدخل في أثنائهما تفاصيل أخرى مثل: الشعور بالاستقرار في لندن بعد الانتقال إلى شقة تجمعه بميثاء، حصوله على منحة مجانية لإكمال دراسته حتى إنهاء الدكتوراه، زيارة عُمان وما وجده فيها.
طيلة السرد يتطاير نقع غبار الصحارى وثياب البدو وأصوات المؤامرات والحروب والتحالفات وعيش تاريخ جديد رسمه الاستعمار وقادته الذين يلونون حدود "الدول" وهم سكارى، ويختلط كل ذلك الماضي المستعاد بالدرس والتحليل بذكريات السارد وتاريخه الشخصي وسيرته وما يحدث في أثناء يومه: "الخطوط البنفسجية والزرقاء، والمناطق المحايدة التي رسمتها وأبرمتها بريطانيا مع الدولة العثمانية، في ترسيم حدود وأراضي دول شبه الجزيرة العربية، برها وبحرها" (ص 156، 157)؛ "... ومن جراء تلك التقسيمات الحدودية غرقت تلك البلدان والأقطار في نزاعات مستديمة، ومشاكل صعبة وقاسية جعلتها تدفع أثمانًا باهظة على فعلة قام بها اليهودي البريطاني الشاذ بيرسي كوكس، ونفذها على تلة من رمال وتراب الصحراء، وبركة من مياه الخليج والبحر. إنه ذلك الرجل الأبيض المخمور، والعميل السري للمخابرات البريطانية ولوكالة الجراد...." (ص 158).
يسرد سريدان سيرته للعمّة حمدة وميثاء قائلًا إنه "يتيم الأب والأم، وإن لي شقيقة كبرى ترعاني وترعى إخواني، وقد تركنا جدّة الحراسيس موطني الأصلي منذ أواسط الستينيات، ونعيش الآن في مسقط العاصمة العُمانية...." (ص 142). طيلة السرد يتصل سريدان بأخته والعكس لكن لا تحضر شخصيات أخرى من أسرته. "رجعت بي جرعات الويسكي أبعد، حيث ولدت تحت خيمة من الشعر، غزلتها أمي مع جاراتها البدويات، ونصبها أبي بمساعدة رفاقه من رجال البادية لتكون مسكنًا يسترنا، ومأوى يحمينا من تقلبات وتغيرات الطقس... وكانت تلك الخيمة تهب عليها الرياح من كل الجهات، بل تقتلعها إذا كانت الريح صرصرًا. وكنا صغارًا ، نصحو ونغدو بين كثبان الرمال وحياة الصحراء الفطرية، نلعب ونلهو مع العقارب الصفراء الصغيرة، وجعارينها الزرقاء، وخنافسها السوداء، ويعاسيبها الخضراء، ونرقب تساقط قطرات الماء، من أطراف إبر شجر السمر، في أوعية نضعها منذ الليل وحتى الصباح، لنجمع مياهًا نشربها... وفي يوم جاء إلى الجدة من يهتم بالبيئة وتوابعها ومشتقاتها، ومن يهتم بالجيولوجيا وما في باطن الأرض، ومن يهتم بالنباتات والحيوانات والزواحف والقوارض، لكنهم تناسوا البشر الذين يعيشون على أرضها. ثم جاء بعدهم رجال وكالة الجراد البيض، وجلبوا معهم عمالًا ومعدات بغرض استخدامات تخص عالم شركات التنقيب عن النفط، فانقلبت الحياة رأسًا على عقب، واختلط في الجدة الحابل بالنابل، حتى وصل الحال إلى اقتلاع أطناب الخيمة التي غزلتها أمي ونصبها أبي" (ص 129، 130).
تقتلع الريح الخيمة فيعيد البدو نصبها من جديد، لكن الاستعمار يقتلع التاريخ من جذوره فلا يعود كما كان قطّ، ومع ذلك فمن ذا الذي يقتلع الذكريات من أعماق سريدان المعرض للانقراض هو الآخر بأصله العرقي ولغته؟: "... وتجسدت أمام عيني سنوات الطفولة بين عالم الوضيحي أو بن سولع. وقارنت، وأنا أرتشف كأس الويسكي، بين تلك السلاحف المهددة بالانقراض وبين حيوان آخر أيضًا على وشك الانقراض من موطنه الأصلي عُمان، حيوان يسميه العرب المها العربية...." (ص 130). يكن سريدان/بن سولع حبًّا كبيرًا لمسقط رأسه جدة الحراسيس ويتذكرها بعنفوان وحنين واعتزاز، بل إنه ينفعل خلال سهرة عشاء في مطعم لبناني بشارع العرب "إجوارد رود" ويقول: "... فقمت أرقص كما يرقص البدو رقصة العارضة والعيّالة مخالفًا لرقص بقية أهل بادية الشام الذين يشاركونني على المسرح رقص أغاني البدو...." (ص 385). دمج السرد الزمن الماضي في الزمن الحاضر ومراوحته بينهما يسفر في النهاية عن اتخاذ سريدان قرار الهجرة. إن التاريخ في الحقيقة ما زال حاضرًا، وبقدر ما يغدو مقروءًا ومُحلَّلًا بقدر ما هو حاضر حالٌّ كأنما لم يكتسب صفته خالية من الشوائب.
لعل بحث سريدان في موضوع مشكلة البريمي، وفي تفاصيل قيام دول الخليج الحديثة، والنتيجة التي أصبح عليها الحال في وطنه، بدورهما يتم فحصهما الآن في دولة غربية هي أساس بلاء وطنه؛ هذه مفارقة تفقد صفتها بأسرع مما قد يُتخيَّل، وذلك لفرط ما صارت أمرًا مسلَّمًا به وغير مستغرب. تاريخ المنطقة يظهر قطيعًا من البدو والقبائل والصيادين طالما تطاحنوا في حروب بدائية في نهاية الأمر أدت (وأودت) بهم إلى أن ينقلوا الأحداث نفسها -بنسخة طوَّرها الاستعمار- إلى أحضان البترول والحداثة المفتعلة. تاريخ من الحكام المرضى بالبخل والجهل والدكتاتورية والتعذيب ينتجون نسخًا هم ربّوها أساسًا، فلا يبدو الفرق إلا في التفاصيل الصغيرة حيث يكمن الشيطان. ومن كثرة التفاصيل يكاد عدد الشياطين يعصى على العدّ!.
إذن فقد حسم سريدان الحرسوسي أمره وقرر الهجرة. الهجرة تعني مفارقة الوطن. ولا يفارق الوطن إلا من تضطره إلى ذلك أسباب قاهرة. سريدان يعيد أكثر من مرة ذكر السبب الرئيس الذي دعاه إلى الهجرة؛ إنه الوطن نفسه، فالسبب نابع من تجربته السابقة المريرة وتخوفه من تكرارها. إنه لا ينفك ينتقد أوضاع بلده، وطالما ربط هذا النقد بإقباله على الزواج، فحين يخطب ميثاء من "العمة حمدة" مباشرة يصارح هذه الأخيرة: "لقد أصبت بخيبة وانكسارات في الروح عندما بدأت حياة العمل في وطني، وظننت أن الحالة عابرة ولن تستمر ببلادنا، لكنني وبعد تقصي المستقبل في كثير من الأمكنة من بلدي بان لي استحالة الخلاص من تلك الأوبئة الضارة التي سكنت نفوس من تعاملت معهم طوال فترة حياتي العملية في عُمان. نعم يا عمتي حمدة لقد عاد بعض منهم من الخارج ومعه مشاريع يريد أن يحققها بعدما فتح الوطن أبوابه لعودة المهاجرين من أبنائه، وفي الواقع كانت تلك المشاريع برَّاقة، ولكن في جوهرها أمور ساذجة" (ص 387 و388). نقد شديد يوجهه سريدان إلى مظاهر التحديث في وطنه؛ يقوض كل المتعارف عليه فيما يتعلق بالتحديث والتنمية الوطنية وبناء الدولة العُمانية المعاصرة. يواصل سريدان مفنِّدًا الحجة المتداولة المعهودة: "وكي يحقق بعض منهم مشاريع كان يستخدم قوته وعنفه وكل السبل المشروعة وغير المشروعة في تنفيذها، حتى ولو كانت طريقة تحقيق مشاريعه سوف تؤذي وتؤدي إلى هلاك الآخر. لقد بكرت الأطماع والأنانية والحسد في وصولها ونموها، وحلت في تربة نفوس من سولت له نفسه أن يكون طاغيًا وباغيًا، لا تهمه مصلحة البلد، ولا مستقبل الوطن، أكثر ما يهمه نهب المال العام، وجمع الألقاب قبل اسمه، مثل دكتور، وشيخ، وسعادة، ومعالي، و... إلى آخره" (388).
برغم الالتباسات المحيطة بظروف سفره إلى لندن ودراسته فيها تبدو المعرفة سببًا آخر مضافًا إلى أسباب قرار سريدان الهجرة إلى بريطانيا بشكل نهائي وشعوره باستحالة تغير الأوضاع المزرية في بلده. إنه "... القبلي المنتمي لكيانات مغلقة وغارقة في آفات الجهل والتخلف والمرض...." (ص 39) الذي يعرف ما لا يعرفه مواطنوه، يعرف المحرم والمسكوت عنه والحقيقة المرة في مقابل معرفة أولئك بالأكاذيب والتلفيقات والتزوير. دائمًا يلعب المستعمر دوره القذر بازدواجية لا تهمها مرجعيتها المنفصمة وافتعالها الحياد غير الإنساني. المستعمر يكذب ويصدق، بنقائضه المتعددة يجرح ويداوي ويصبح مأوًى بديلًا. يقول سريدان نقلًا عن مصادره الإنجليزية: "... ففي عام 1965 أدرك المسؤولون بعيدو النظر في لندن أنه يجب أن يقوم اتحاد ما في المستقبل بين هذه الدويلات لكي تبقى على قيد الحياة في هذا العالم...." (ص 346). "لقد كانت السياسة في الشارقة دائمًا مسألة فظَّة، حيث نجا الشيخ خالد عندما انفجرت قنبلة في مجلسه عام 1970، وعندما جاء أخوه، البالغ من العمر 28 سنة من رأس الخيمة حيث كان يعيش في المنفى، لتهنئة خالد على النجاة، اعتقل في الحال بتهمة تدبير المؤامرة!
وإذا كان هناك من يشك في تدخل بريطانيا المباشر في مثل هذه الأمور فليتأمل القصة التالية من عُمان، حيث نُحِّي السيد سعيد بن تيمور عام 1970: كانت عُمان في ذلك الحين دولة مغلقة تقريبًا، لا يُعرَف عنها إلا القليل. لكن الأحداث في البلدان المجاورة أدت إلى بعض الاهتمام بعُمان نفسها. وهكذا بحثت وكالة رويترز للأنباء عن مراسل غير متفرِّغ في مسقط، ووجدت مرادها في شخص زوجة مسؤول بريطاني كبير بين موظفي السيد سعيد. وذات يوم سمعت هذه السيدة، التي كانت خبرتها في الصحافة تكاد تكون معدومة، أنه تمت تنحية السلطان سعيد، وأن ابنه السيد قابوس قد نُصِّبَ سلطانًا جديدًا. فقامت بكتابة تقريرها بحرص. ثم أعادت صياغته من جديد بلغة البرق، وذهبت إلى مكتب شركة كيبل آند ويارلس بجانب السفارة الهندية في مسقط. وهناك قضى المسؤول البريطاني معها بعض الوقت في الثرثرة، ثم تناول منها التقرير الذي أرادت أن ترسله إلى رويترز، وقرأه ببطء ثم أعاده إليها قائلًا: "لقد بكَّرت قليلًا. غدًا وليس اليوم"! وبالفعل أوقظ السلطان سعيد من نومه غداة اليوم في قصره في صلالة، ونُقِلَ على عجلٍ إلى طائرة بريطانية كانت في انتظاره لتأخذه إلى المنفى في بريطانيا، كي يتمكن ابنه من أن يتولى الحكم" (ص 347، 348).
"قالت نادين: السلطان الأبيض هو من دعاني، وكان يتخفى تحت مسمى المستشار، لكنه في واقع الأمر اليد الطولى في عُمان، بل يشرف على أجهزة الأمن كلها، وكنت أراه كأنه هو السيد الحاكم، وقد لقبته بورصة المال العالمية بهذا الاسم؛ لأنه واحدٌ من مئات أثرياء وأغنياء العالم، بحكم تجارته الرائجة للماس، وبيعه نفط عُمان في الأسواق السوداء، وأيضًا ممارسته لتجارة الأسلحة. وهو يحيي دومًا حفلات خاصة وماجنة لخاصَّته من العُمانيين. وكان من ضمن أولئك المحليين الذين حضروا تلك الليالي الحمراء شخصية بادرتني بالإعجاب حينما قدم لي هدية طقم ماس لا يقدر بثمن، من أجل أن أقضي معه ليلة حمراء في يخته الفخم الراسي في نادٍ بحري لليخوت، خاص بعُلِّيَّة القوم، ويقع في بندر الجصة. وحينما صببت لها كأسًا آخر من الويسكي، وأشعلت لها لفافةً من لُفافاتها المحشوة، قالت لي وهي تناولني اللفافة: كنتُ أسمع أولئك الحثالة من البشر في تلك الليلة المسقطية ينادونه بالمافيوز زي...." (ص 407).
لعل ما يسبب هذا التيه عدة عوامل منها غزارة المعلومات التي ينكب سريدان على قراءتها ودراستها لغرض إنجاز بحثه العلمي، ومنها أيضًا تعاطي الكحول والماريوانا والحشيش!.
برغم وجود سريدان في لندن لغرض الدراسة إلا أنه مولع بالشرب والجنس والمتعة وتدخين الماريوانا ولفافات الأرملة السوداء. يجد الوقت الكافي للدراسة والمتعة، بل وحتى لتربية قط يطلق عليه اسم "حمران"!. يتعرف إلى نساء عديدات من بينهن بروين زوجة جاره الإيراني محمد مصدّق، وكريستي الفتاة الإنجليزية التي يقابلها في حانة "تيس"، وميثاء العُمانية. هنا مفهوم ملتبس للحب؛ سريدان البدوي المقبل من الصحراء لا يعرف الوفاء هو الآخر، ويخلط في ممارسته بين الحب والجنس: "سحبتني مويجات السيجارة المحشوة في وادي النساء، ورمتني إلى أسئلة لا منتهية كان جواب واحد لها في ذهني تلك اللحظة وهو أنني لا يمكنني الاستغناء عن واحدة منهن في الوقت الراهن. فكل واحدة منهن تمتاز بميزة فريدة من نوعها، تختلف وتناقض ميزة الأخرى. هذه العُمانية أحبها حبًّا جمًّا، وجارتي الإيرانية أشتهيها، وأرغب في جسدها كل لحظة، منذ ليلة دعوة المفاجآت ولحظات الإفراج عنها من سجنها. أما الويلزية ذات النمش الذي يغريني على جسدها فإنني أستعذبها وهي تتكلم وتستمع، وتتناقش في كل أمور الحياة، بل إنها تصدق ببراءة كل ما أقوله لها. ولا أريد أن أكسر خاطرها في أمور تريدها مني"! (278). كما هو الحال هنا هذا الأمر يشكل منغِّصًا يشعر به سريدان أحيانًا عندما تستفحل ممارساته الجنسية مع جارته بروين وكريستي وفتاة أخرى يلتقي بها في سهرة ببيت كارن. تتمادى ممارسات سريدان حتى تبلغ الازدواجية والانفصام.
في الصفحات الأولى للفصل الأول يعلم القارئ أن سريدان يسعى إلى توثيق علاقته بميثاء العُمانية ويغتنم كل المواقف مهما كانت من أجل أن تتطور الأحداث في صالحه: "وكنت أضع في صينيتي ما تضعه ميثاء العُمانية من طعام في صينيتها بعناية فائقة، تشعرك بحس خاص في انتقاءاتها لوجبة غذائية صحية كاملة. ومن لحظتها أصبت بداء رغبة الجذب والانجذاب بالآنسة ميثاء العُمانية. ومن لحظتها تمنيت مرافقتها بشكل مستمر ودائم. وكنت أتحين فرصة لقائي بها في أي وقت من الأوقات. وكنت أدعو، وأتمنى، في كل لحظة من لحظاتي، أن يمنحني القدر فرصة ويجمعني بها لقاء منفرد...." (ص 15). "انتهزت فرصة حلقة المناقشة في المساق الحر لشد انتباهها نحوي" (ص 16). "كنت أثناء ذلك أحاول جادًّا إطالة الحديث معها قبل كل شيء، هو لا غيره، شوقًا ولهفة للقياها" (ص 21).
بن ليّة نسيب سباع بن نطلة حاكم البريمي. وكما هو الحال في التشويهات الملحقة بالحدود بين عُمان وإمارات الساحل يكتسب وضع الناس وضعًا شبيهًا، وبالتالي يتعلق الأمر بميثاء العمانية أيضًا: "... يتحدث عن بيت بن ليّه ويقول إن طرفًا من هذا البيت اتجه بولائه لزايد بن سلطان، أما الطرف الآخر فقد حافظ على علاقات متوازنة مع بقية أطراف القوى والقبائل التي لها علاقة بواحة البريمي، ولكن ميوله وعواطفه معروفة من قبلنا، وكلها تنصب في ولائها إلى سلطان مسقط وعُمان...." (ص 206)؛ هذا ما يقوله السير البروفيسور مالكوم كامبل المشرف على دراسة سريدان الحرسوسي في جامعة لندن. "معروفة من قبلنا"، أي من قبل المستعمرين الإنجليز. وهكذا يوحي السرد ضمنيًّا أن حكاية ميثاء العُمانية معروفة (من قبلهم أيضًا)!. لا يتطرق سريدان إلى هذه المسألة، ويوحي إلينا نعته ميثاء بـ"العُمانية" بأنها كذلك برغم أنه يشير إلى الدور الإماراتي الضليع حتى في قدوم بن ليّه وأخته وميثاء إلى لندن. هل يتعلق الأمر هنا أيضًا بوجهة نظر السارد من التاريخ والحاضر؟، أم يتعلق بمواطنين يحملون جنسية ويعترفون بأخرى غيرها؟!.
لنعد إلى الحب مجدَّدًا.
يكاد لا يمر يوم دون أن يلتقي سريدان وميثاء، وشغفه بها يزداد كل يوم، لكنه، في الوقت ذاته، يمارس الجنس مع أخريات في الليل، وفي النهار يلتقي بها وكأن شيئًا لم يكن باستثناء وخز الضمير المؤنب بين فترات متباعدة، وخز لا يرافقه إيمان ولا فعل يلغي سببه، على الرغم من أن الأمر بلغ شوطًا بعيدًا بين سريدان وبين نفسه: "... وقارنت بينها وبين كريستي وجارتي السيدة الإيرانية، فوجدت كافة موازين قوى الجذب تميل للآنسة ميثاء العُمانية دون شك. وكان كل ذلك يصيبني بألم ووخز في الضمير، بسبب ما أفعله من وراء ظهرها، لكنني كنت أتصبر على أمري، مرددًا بين نفسي بأن علاقتنا لم تتضح بعد" (ص 139). ويبدو أن الأمر برمته غير واضح تمامًا بالنسبة إلى سريدان، برغم كل ما يسرده ويقوله بخصوص ميثاء العُمانية: "لأول مرة أعرف اسم أبيها وأمها. فأنا أعرفها بأنها ميثاء العُمانية، وأضفت لها لقب الآنسة قبل ذكر اسمها حين أناديها، ولن أغيره إلا بعد أن يبتان الخيط الأبيض من الخيط الأسود" (ص 143). لا يبين "الخيط الأبيض من الخيط الأسود" إلا بعد سلسلة أخرى من التأنيب والممارسات المتناقضة التي تهيمن فيها صورة الدنجوان المستهتر ("... دروب أوصلتني للحالة التي أصبحت عليها بين ليلة وضحاها "دون جوان" في عالم المرأة".... (ص 267))، الأمر الذي يحتاج تجاوزه إلى الانتقال من حال إلى حال آخر: "وبعدما انتهت مكالمتي بميثاء حل بي الندم على ما أقوم به مع جارتي بروين، وأصابني من جراء ذلك الندم كآبة ما عهدتها فترة إقامتي في هذا الشارع الذي قطنت به ما يقارب السنة. وقبل أن أخرج أشعلت نصف سيجارة قامت بحشوها كريستي منذ فترة وتركتها ساكنة بمنفضة السجائر، وبدأت مجاتها ترخيني وتحيل لوعتي وندمي إلى التفكير جديًّا بقطع العلاقة بيني وبين بروين مصدق نهائيًّا...." (392). "... إنها عاهرة، أنا أعرفها... ومعظم من سيأتي صبايا عازبات، ويتمنين إقامة علاقات مع شاب في مثل سنك، وسوف أدبر لك طريقة مع واحدة منهن هذه الليلة. تمنيت، وأنا أعانقها، مودعًا في طريقي إلى محطة كلوستر للأنفاق، ألا أتعرف على فتاة من أجل علاقة الجنس، فأنا أحاول التخلص من هذه العلاقات بعدما اتضح لي أن مصيرها باطل، ويجب أن تنصب مجهوداتي على تطهير نفسي من أدران تلك العلاقات العابرة التي خضتها مضطرًّا في هذه المدينة. وأصبحت الآن أؤسس عالم الحب مع الحبيبة ميثاء، وأهيئ نفسي لعالم الولاء والالتزام لمن ستكون شريكة حياتي" (ص 393). "أما النقطة الأخرى، والتي لها علاقة مباشرة بقرار نقلي من تلك الشقة الصغيرة، فهي السيدة بروين مصدّق، الجارة التي تحولت علاقة الجنس معها إلى حالة مرضية" (ص 400). وقرار الانتقال هذا الذي يحتمه قراره الارتباط بميثاء يودعه بسهرة في شقة صديقته كارن يتعرف خلالها إلى "نادين": "كانت المرأة التي صدمتني بكتفها تدعى نادين، جذورها العميقة من هولندا، لكنها ولدت وتربت وترعرعت في مدينة كايب تاون بجنوب إفريقيا. كانت نادين مكتملة الأنوثة، وهي بكل المقاييس تنتمي إلى حوريات الجنة على الأرض، ويالها من صدفة عجيبة حصلت لي معها بعدما شربنا نخب تعارفنا، ومجت معي مجات عديدة من سيجارة لفتها كارن من العيار الثقيل، وحشتها بعناية فائقة قبل حادثة الاصطدام، إذ قالت لي وهي شبه مسطولة إنها كانت صديقة لشخصية عُمانية مرموقة تعمل في مهن خطرة، ومنها مهنة تجارة البترول في السوق السوداء، بين عُمان وجنوب إفريقيا. ومهنة تجارة الأسلحة بينه وبين شريكه المستشار الأحمر، الذي يدعى السلطان الأبيض في بريطانيا، ويعمل معززًا مكرمًا في سلطنة عُمان" (ص 406).
التاريخ المسكوت عنه
تمتلئ رواية "بن سولع" بمعلومات تعتبر ممنوعة ومحرمة في بلدان الخليج. إن ما يذهل أشد الذهول أن الاستعمار هو من يكتب التاريخ في نهاية المطاف، فهو المنتصر، وليس اندحاره إلا تكتيكًا يشبه الكر والفر في مصطلحات الخطط الحربية، إذ إنه زرع عملاءه ونصبهم على رؤوس الأشهاد، وفي اللحظة التي يستشعر فيها انحرافهم عن ما رسمه لهم لا يتوانى عن الانقلاب عليهم بأقرب المقربين إليهم، بحيث إن أولئك وهؤلاء لا يعدون كونهم دمى تحرك من بعد. ويزداد ذهولنا كلما أوغل سريدان في استحضار التاريخ الذي لم يستحل جثة ولم يمت برغم رائحة فساده وعفونته، حتى كأن الحاضر ليس إلا غطاء تذروه ريح البحث لتنكشف تلك الحفرة السحيقة المعوقة لأي تطور حقيقي أو نوايا تنموية سوية مبنية على شعور وطني لا تشوهه المصلحة الشخصية والتحالفات الدنيئة. بل إن سريدان يمضي أبعد في استشعار تشويه يطال حتى أرواح الناس: "والواقع أنني أرى في ميثاء الحلم الذي أود تحقيقه في حياتي، بعدما تعافيت من جراح وكسور نتيجة تجاربي السابقة. لقد حاولت كثيرًا أن أحقق حلمي في الوطن لكن للأسف الشديد، وأنا أتكلم بحرقة ومرارة أصابتني في الحال، حلمي لا يمكن تحقيقه في مكان موبوء بداء ألمَّ ببشر في يدهم تكمن سلطة الأمر والنهي، وهم يرون ما الأصوب والصحيح في تنفيذه، أما الآخر فهو دومًا العدو اللدود لهم، وعلى خطأ في كل ما يفعله ويقوم به من أعمال وتصرفات تخالف أوامرهم" (ص 387).
لنلحظ هنا أن سريدان كف عن استعمال ذاك النعت: "العُمانية". في الواقع لقد كف قبل الآن أيضًا، إذ يبدو أنه يمضي باتجاه الحب منسلخًا تدريجًا عن استحضار الوطن بصيغه المعتادة.
وبرغم إيلاء سريدان السارد التفاصيل وتفاصيلها دقة شديدة، بكل ما تحتويه من مكان وزمان وأسماء شخصيات، إلا أنه يدخل في وصف غامض لظروف عمله القديم في عُمان. واضح أنه يسرد تفاصيل تجربة مريرة، ولعل هذا السبب المباشر في قراره الهجرة نهائيّاً عن عُمان. هذا الأمر يرتبط مباشرة بالتحول الحادث في حياته: ارتباطه بميثاء وتألمه من ماضي حياته في عُمان. هذان العاملان تدخل في أثنائهما تفاصيل أخرى مثل: الشعور بالاستقرار في لندن بعد الانتقال إلى شقة تجمعه بميثاء، حصوله على منحة مجانية لإكمال دراسته حتى إنهاء الدكتوراه، زيارة عُمان وما وجده فيها.
طيلة السرد يتطاير نقع غبار الصحارى وثياب البدو وأصوات المؤامرات والحروب والتحالفات وعيش تاريخ جديد رسمه الاستعمار وقادته الذين يلونون حدود "الدول" وهم سكارى، ويختلط كل ذلك الماضي المستعاد بالدرس والتحليل بذكريات السارد وتاريخه الشخصي وسيرته وما يحدث في أثناء يومه: "الخطوط البنفسجية والزرقاء، والمناطق المحايدة التي رسمتها وأبرمتها بريطانيا مع الدولة العثمانية، في ترسيم حدود وأراضي دول شبه الجزيرة العربية، برها وبحرها" (ص 156، 157)؛ "... ومن جراء تلك التقسيمات الحدودية غرقت تلك البلدان والأقطار في نزاعات مستديمة، ومشاكل صعبة وقاسية جعلتها تدفع أثمانًا باهظة على فعلة قام بها اليهودي البريطاني الشاذ بيرسي كوكس، ونفذها على تلة من رمال وتراب الصحراء، وبركة من مياه الخليج والبحر. إنه ذلك الرجل الأبيض المخمور، والعميل السري للمخابرات البريطانية ولوكالة الجراد...." (ص 158).
يسرد سريدان سيرته للعمّة حمدة وميثاء قائلًا إنه "يتيم الأب والأم، وإن لي شقيقة كبرى ترعاني وترعى إخواني، وقد تركنا جدّة الحراسيس موطني الأصلي منذ أواسط الستينيات، ونعيش الآن في مسقط العاصمة العُمانية...." (ص 142). طيلة السرد يتصل سريدان بأخته والعكس لكن لا تحضر شخصيات أخرى من أسرته. "رجعت بي جرعات الويسكي أبعد، حيث ولدت تحت خيمة من الشعر، غزلتها أمي مع جاراتها البدويات، ونصبها أبي بمساعدة رفاقه من رجال البادية لتكون مسكنًا يسترنا، ومأوى يحمينا من تقلبات وتغيرات الطقس... وكانت تلك الخيمة تهب عليها الرياح من كل الجهات، بل تقتلعها إذا كانت الريح صرصرًا. وكنا صغارًا ، نصحو ونغدو بين كثبان الرمال وحياة الصحراء الفطرية، نلعب ونلهو مع العقارب الصفراء الصغيرة، وجعارينها الزرقاء، وخنافسها السوداء، ويعاسيبها الخضراء، ونرقب تساقط قطرات الماء، من أطراف إبر شجر السمر، في أوعية نضعها منذ الليل وحتى الصباح، لنجمع مياهًا نشربها... وفي يوم جاء إلى الجدة من يهتم بالبيئة وتوابعها ومشتقاتها، ومن يهتم بالجيولوجيا وما في باطن الأرض، ومن يهتم بالنباتات والحيوانات والزواحف والقوارض، لكنهم تناسوا البشر الذين يعيشون على أرضها. ثم جاء بعدهم رجال وكالة الجراد البيض، وجلبوا معهم عمالًا ومعدات بغرض استخدامات تخص عالم شركات التنقيب عن النفط، فانقلبت الحياة رأسًا على عقب، واختلط في الجدة الحابل بالنابل، حتى وصل الحال إلى اقتلاع أطناب الخيمة التي غزلتها أمي ونصبها أبي" (ص 129، 130).
تقتلع الريح الخيمة فيعيد البدو نصبها من جديد، لكن الاستعمار يقتلع التاريخ من جذوره فلا يعود كما كان قطّ، ومع ذلك فمن ذا الذي يقتلع الذكريات من أعماق سريدان المعرض للانقراض هو الآخر بأصله العرقي ولغته؟: "... وتجسدت أمام عيني سنوات الطفولة بين عالم الوضيحي أو بن سولع. وقارنت، وأنا أرتشف كأس الويسكي، بين تلك السلاحف المهددة بالانقراض وبين حيوان آخر أيضًا على وشك الانقراض من موطنه الأصلي عُمان، حيوان يسميه العرب المها العربية...." (ص 130). يكن سريدان/بن سولع حبًّا كبيرًا لمسقط رأسه جدة الحراسيس ويتذكرها بعنفوان وحنين واعتزاز، بل إنه ينفعل خلال سهرة عشاء في مطعم لبناني بشارع العرب "إجوارد رود" ويقول: "... فقمت أرقص كما يرقص البدو رقصة العارضة والعيّالة مخالفًا لرقص بقية أهل بادية الشام الذين يشاركونني على المسرح رقص أغاني البدو...." (ص 385). دمج السرد الزمن الماضي في الزمن الحاضر ومراوحته بينهما يسفر في النهاية عن اتخاذ سريدان قرار الهجرة. إن التاريخ في الحقيقة ما زال حاضرًا، وبقدر ما يغدو مقروءًا ومُحلَّلًا بقدر ما هو حاضر حالٌّ كأنما لم يكتسب صفته خالية من الشوائب.
لعل بحث سريدان في موضوع مشكلة البريمي، وفي تفاصيل قيام دول الخليج الحديثة، والنتيجة التي أصبح عليها الحال في وطنه، بدورهما يتم فحصهما الآن في دولة غربية هي أساس بلاء وطنه؛ هذه مفارقة تفقد صفتها بأسرع مما قد يُتخيَّل، وذلك لفرط ما صارت أمرًا مسلَّمًا به وغير مستغرب. تاريخ المنطقة يظهر قطيعًا من البدو والقبائل والصيادين طالما تطاحنوا في حروب بدائية في نهاية الأمر أدت (وأودت) بهم إلى أن ينقلوا الأحداث نفسها -بنسخة طوَّرها الاستعمار- إلى أحضان البترول والحداثة المفتعلة. تاريخ من الحكام المرضى بالبخل والجهل والدكتاتورية والتعذيب ينتجون نسخًا هم ربّوها أساسًا، فلا يبدو الفرق إلا في التفاصيل الصغيرة حيث يكمن الشيطان. ومن كثرة التفاصيل يكاد عدد الشياطين يعصى على العدّ!.
إذن فقد حسم سريدان الحرسوسي أمره وقرر الهجرة. الهجرة تعني مفارقة الوطن. ولا يفارق الوطن إلا من تضطره إلى ذلك أسباب قاهرة. سريدان يعيد أكثر من مرة ذكر السبب الرئيس الذي دعاه إلى الهجرة؛ إنه الوطن نفسه، فالسبب نابع من تجربته السابقة المريرة وتخوفه من تكرارها. إنه لا ينفك ينتقد أوضاع بلده، وطالما ربط هذا النقد بإقباله على الزواج، فحين يخطب ميثاء من "العمة حمدة" مباشرة يصارح هذه الأخيرة: "لقد أصبت بخيبة وانكسارات في الروح عندما بدأت حياة العمل في وطني، وظننت أن الحالة عابرة ولن تستمر ببلادنا، لكنني وبعد تقصي المستقبل في كثير من الأمكنة من بلدي بان لي استحالة الخلاص من تلك الأوبئة الضارة التي سكنت نفوس من تعاملت معهم طوال فترة حياتي العملية في عُمان. نعم يا عمتي حمدة لقد عاد بعض منهم من الخارج ومعه مشاريع يريد أن يحققها بعدما فتح الوطن أبوابه لعودة المهاجرين من أبنائه، وفي الواقع كانت تلك المشاريع برَّاقة، ولكن في جوهرها أمور ساذجة" (ص 387 و388). نقد شديد يوجهه سريدان إلى مظاهر التحديث في وطنه؛ يقوض كل المتعارف عليه فيما يتعلق بالتحديث والتنمية الوطنية وبناء الدولة العُمانية المعاصرة. يواصل سريدان مفنِّدًا الحجة المتداولة المعهودة: "وكي يحقق بعض منهم مشاريع كان يستخدم قوته وعنفه وكل السبل المشروعة وغير المشروعة في تنفيذها، حتى ولو كانت طريقة تحقيق مشاريعه سوف تؤذي وتؤدي إلى هلاك الآخر. لقد بكرت الأطماع والأنانية والحسد في وصولها ونموها، وحلت في تربة نفوس من سولت له نفسه أن يكون طاغيًا وباغيًا، لا تهمه مصلحة البلد، ولا مستقبل الوطن، أكثر ما يهمه نهب المال العام، وجمع الألقاب قبل اسمه، مثل دكتور، وشيخ، وسعادة، ومعالي، و... إلى آخره" (388).
برغم الالتباسات المحيطة بظروف سفره إلى لندن ودراسته فيها تبدو المعرفة سببًا آخر مضافًا إلى أسباب قرار سريدان الهجرة إلى بريطانيا بشكل نهائي وشعوره باستحالة تغير الأوضاع المزرية في بلده. إنه "... القبلي المنتمي لكيانات مغلقة وغارقة في آفات الجهل والتخلف والمرض...." (ص 39) الذي يعرف ما لا يعرفه مواطنوه، يعرف المحرم والمسكوت عنه والحقيقة المرة في مقابل معرفة أولئك بالأكاذيب والتلفيقات والتزوير. دائمًا يلعب المستعمر دوره القذر بازدواجية لا تهمها مرجعيتها المنفصمة وافتعالها الحياد غير الإنساني. المستعمر يكذب ويصدق، بنقائضه المتعددة يجرح ويداوي ويصبح مأوًى بديلًا. يقول سريدان نقلًا عن مصادره الإنجليزية: "... ففي عام 1965 أدرك المسؤولون بعيدو النظر في لندن أنه يجب أن يقوم اتحاد ما في المستقبل بين هذه الدويلات لكي تبقى على قيد الحياة في هذا العالم...." (ص 346). "لقد كانت السياسة في الشارقة دائمًا مسألة فظَّة، حيث نجا الشيخ خالد عندما انفجرت قنبلة في مجلسه عام 1970، وعندما جاء أخوه، البالغ من العمر 28 سنة من رأس الخيمة حيث كان يعيش في المنفى، لتهنئة خالد على النجاة، اعتقل في الحال بتهمة تدبير المؤامرة!
وإذا كان هناك من يشك في تدخل بريطانيا المباشر في مثل هذه الأمور فليتأمل القصة التالية من عُمان، حيث نُحِّي السيد سعيد بن تيمور عام 1970: كانت عُمان في ذلك الحين دولة مغلقة تقريبًا، لا يُعرَف عنها إلا القليل. لكن الأحداث في البلدان المجاورة أدت إلى بعض الاهتمام بعُمان نفسها. وهكذا بحثت وكالة رويترز للأنباء عن مراسل غير متفرِّغ في مسقط، ووجدت مرادها في شخص زوجة مسؤول بريطاني كبير بين موظفي السيد سعيد. وذات يوم سمعت هذه السيدة، التي كانت خبرتها في الصحافة تكاد تكون معدومة، أنه تمت تنحية السلطان سعيد، وأن ابنه السيد قابوس قد نُصِّبَ سلطانًا جديدًا. فقامت بكتابة تقريرها بحرص. ثم أعادت صياغته من جديد بلغة البرق، وذهبت إلى مكتب شركة كيبل آند ويارلس بجانب السفارة الهندية في مسقط. وهناك قضى المسؤول البريطاني معها بعض الوقت في الثرثرة، ثم تناول منها التقرير الذي أرادت أن ترسله إلى رويترز، وقرأه ببطء ثم أعاده إليها قائلًا: "لقد بكَّرت قليلًا. غدًا وليس اليوم"! وبالفعل أوقظ السلطان سعيد من نومه غداة اليوم في قصره في صلالة، ونُقِلَ على عجلٍ إلى طائرة بريطانية كانت في انتظاره لتأخذه إلى المنفى في بريطانيا، كي يتمكن ابنه من أن يتولى الحكم" (ص 347، 348).
"قالت نادين: السلطان الأبيض هو من دعاني، وكان يتخفى تحت مسمى المستشار، لكنه في واقع الأمر اليد الطولى في عُمان، بل يشرف على أجهزة الأمن كلها، وكنت أراه كأنه هو السيد الحاكم، وقد لقبته بورصة المال العالمية بهذا الاسم؛ لأنه واحدٌ من مئات أثرياء وأغنياء العالم، بحكم تجارته الرائجة للماس، وبيعه نفط عُمان في الأسواق السوداء، وأيضًا ممارسته لتجارة الأسلحة. وهو يحيي دومًا حفلات خاصة وماجنة لخاصَّته من العُمانيين. وكان من ضمن أولئك المحليين الذين حضروا تلك الليالي الحمراء شخصية بادرتني بالإعجاب حينما قدم لي هدية طقم ماس لا يقدر بثمن، من أجل أن أقضي معه ليلة حمراء في يخته الفخم الراسي في نادٍ بحري لليخوت، خاص بعُلِّيَّة القوم، ويقع في بندر الجصة. وحينما صببت لها كأسًا آخر من الويسكي، وأشعلت لها لفافةً من لُفافاتها المحشوة، قالت لي وهي تناولني اللفافة: كنتُ أسمع أولئك الحثالة من البشر في تلك الليلة المسقطية ينادونه بالمافيوز زي...." (ص 407).
الواقعي والفنتازي
الغلاف الخلفي لرواية "بن سولع" |
كدر تجربة العمل في "هيئة حماية النفوس" يرافق سريدان في لندن، ويخلف في نفسه نفورًا من العودة إلى الوطن. في الصفحة 321 يعود بتفاصيل أوفى إلى تلك التجربة المرة. هنا يبدأ سرد الفنتازيا الرمزية: "... ومن ثم نقلت موظَّفًا لهيئة شبه وهمية، تديرها مجموعة صغيرة من البشر، ويطلق عليها جماعة مكافحة عنف المتخيل، وهي تابعة لهيئة تدعى الهيئة الخاصة لحماية النفوس. وكانت الاستفادة الوحيدة بعد تلك التجربة القاسية هي عودتي لمقاعد الدراسة، هربًا من ذلك الواقع المرير. لقد كانت مهنتي الأخيرة في غاية الغرابة، وهي مهنة مهينة لمن هم مثلي، فكل يوم تأتيني جماعة مكافحة العنف المتخيل بتقارير بها بيانات ومعلومات دقيقة، وفي غاية الأهمية، عن بشر يعيشون عالمهم في طيِّ النسيان وشبعت منهم ديدان المقابر، ويطلبون مني أن أقوم خطيًا بتعبئة تلك البيانات والمعلومات في دفاتر كبيرة وثقيلة، وحينما أنتهي من ذلك يأتي أحدهم ويقوم بحملها إلى حيث لا أدري، وحيث لا أعرف ماذا يفعلون بتلك الدفاتر الغليظة ذات التجليد الأنيق" (ص 322).
في البداية يظن القارئ أنه عرف مهنة سريدان الموجعة في هيئة النفوس لكن هذا يتمادى في وصفٍ مُلْغِزٍ يخرج عن إطار المعقول ويرتبط بقسوةٍ تُمارِسها "مجموعة من البشر" (وهذا يمنحنا إمكانية تخيل العكس بالقول مثلًا: مجموعة من الحيوانات!) على مجموعة من الأموات!.
إن وصف سريدان يتمادى أكثر في إظهار قسوة "هيئة حماية النفوس"؛ إنه يريد وصف الأكثر ألمًا: التعذيب: "لقد تفوقت جماعة مكافحة العنف المتخيل على الإمبراطور الفارسي كسرى الأول بن داريوش الأول في اختراع لذة التعذيب، التي جعلوني أحياها في هيئة حماية النفوس، ولو كان ذلك الإمبراطور حيًّا لكافأني على خلق لذة مختلفة عن اللذات التي عرفتها البشرية، ولوضع لها مكافأة مادية كبيرة حينما كان يفعلها في 486-465 قبل الميلاد، برغم أن اللذة التي أذاقوني إياها كانت لذة مشاهدة متعة التعذيب، التي أحظى بها كل يوم. ولك أن تتخيلي تلك الأطنان من الدفاتر التي أبدأ بكتابتها خطِّيًّا وتعبئتها منذ الساعة السابعة صباحًا حتى الثانية والنصف ظهرًا من كل يوم، وأنا أقرأ وأنقل تلك البيانات والمعلومات المهمة من تقارير العسس على أموات طواهم التاريخ في بحور النسيان، وضاعوا من الذاكرة. ولك أيضًا أن تتخيلي أن الهمجية التي تعم تلك المجموعة طاغية وباغية، وهي تنهى وتأمر ويؤخذ بصدق تقاريرها على أعلى المستويات...." (ص 322). إن الأمر لا يتعلق بأموات إذن وإلا فعلى من يقع التعذيب؟!. يبدو أن من يستمتعون بالتعذيب يفعلون ذلك حين يُحوِّل تعذيبهم من يعذبونهم أمواتًا أو أشباه أموات، لأنهم يستحيل أن يتلذذوا ويشبعوا هذه الخَصْلة فيهم إن لم يشعر ضحاياهم بتعذيبهم وتلذذهم به. قبل أن يصل بن سولع إلى سرد لذة التعذيب هذه، وقبل أن يبدأ في سرد التفاصيل أصلًا، وبالتحديد بعدما أخبر ميثاء بأنه سيسافر إلى عُمان ليقرر هناك القرار الحاسم في حياته، في تلك الأثناء قال سريدان: "طلبت مني ميثاء ألا أتحدث بالألغاز، وأن أوضح مقصدي" (ص 321)، وبعدها مباشرة يسرد حكاية "هيئة حماية النفوس". هل فهمت ميثاء مقصد سريدان؟!. لا يتضح لنا عدم فهم ميثاء. إن المتن الروائي هنا يجعل شخصيتي سريدان وميثاء تتواطآن ضد القارئ. ولأن الأمر يتخذ صيغة ملغزة، ولأن زمام السرد بيد سريدان أصلًا فقد تكون ميثاء هي الأخرى ضحية أيضًا حالها حال القارئ!، فالسارد يستطيع أن يُظهِر أو يخفي ما يريده، وبهذا المعنى فما يدرينا بردة فعل ميثاء وما إن كانت فهمت مقصد سريدان أم لا؟!.
لن نعتبر هذا التواطؤ لذة يشعر بها سريدان من جراء إبقائنا –نحن القراء- في منطقة اللغز المغلقة المتعلقة بـ"هيئة حماية النفوس"، برغم إدراكنا أن سريدان المتألم يتلذذ أيضًا –كما قال هو نفسه- لكن على نحو لا يتحدَّد بصورة كاملة، ويغلفه الهذيان والارتباك، فهو مجبر على التلذذ بمتعة التعذيب فـ"هذه المجموعة لا تريد مني أذنًا أسمع بها سوى "نفذ"، ولا عينًا أرى بها كي أقول هذا أحمر وهذا أخضر، سوى أن أنقل وأكتب، ولا لسانًا ينطق بالحق، سوى أن أصمت وأسكت" (322).
مهما حاولنا وبذلنا قصارى جهدنا فلن نستطيع معرفة حقيقة هذه الهيئة. إن سريدان يجبرنا على موافقته على استيعاب هذا الألم دون أن نخوض في غمار التفاصيل، تمامًا كما فعل مع ميثاء التي لا نعرف رد فعلها بعد سرد هذه الحكاية. وبرغم أن عدة تكهنات تحاصرنا وتجبرنا على استخلاص نتائج متناقضة تخص شخصية سريدان إلا أننا سندور حول الدائرة نفسها؛ على سبيل المثال إن استطاعة سريدان تقديم استقالته ومن ثم السفر، أي النجاة من "هيئة حماية النفوس" تتنافى والطغيان والبغي اللذين وصف بهما أعضاءها، إلا إن كان هؤلاء يأمنون أن لا يبوح سريدان بسرهم، وهو ما يبدو عليه الأمر فعلًا، لكن ليس بشكل حازم، فسريدان يبوح بأمر هذه الهيئة لحبيبته ميثاء وكذلك لعمتها حمدة. وربما لهذا السبب يتعرض للاختطاف والتحقيق حين عودته المؤقتة إلى عُمان: "وقرأت النتيجة الختامية بعدما اقتدت للتحقيق ذات ليلة، حينما قامت مجموعة من مرتادي حانة الفلج بخطفي، وطلبت مني الانصياع لأوامرها، وعدم المقاومة. وقاموا بوضع عصابة على عيني كي لا أرى أين يريدون أخذي من حانة فندق الفلج. وحينما أزاحوها عن عيني واجهت ثلاثة شبان عُمانيين يحيطون برجل إنجليزي عجوز ومتهالك، ويبدو أنه شاذ جنسيًّا ورائحة الكحول تنبعث من فمه، ويلبس ملابس مدنية، فأخذ يمطرني بأسئلة ما دارت في الخاطر ولا في البال تخص دراستي والحياة التي أعيشها في مدينة الضباب". هنا ستتضح أجوبة أسئلة عديدة أبعد من هوية الهيئة وطبيعة عملها وعمل سريدان فيها، خاصة إذا ما عدنا إلى الخلف وربطنا بين المعلومات السابقة وهذه المعلومات فيما يتعلق بالإنجليزي الشاذ!. علينا نحن أيضًا أن نحذو حذو سريدان ونلتزم الحذر!. بل قد يكون الأجدى أن لا نتمادى في تقصِّي هذا الشأن، وأن نتمتع –عوضًا عن ذلك!- بحس دعابة يختلط بالجد على طريقة سريدان نفسه حين يتحدث عن قطه حمران مثلًا: "لقد قلب القط الصغير حمران حياتي رأسًا على عقب، أكثر بكثير مما قام به رجال وكالة الجراد، حينما قلبوا الصحراء، زيفًا وزورًا، رأسًا على عقب...." (ص 304).
هكذا يصبح مفهومًا تمامًا ما استقر عليه رأي سريدان/بن سولع: الهجرة. هذا الهاجس يكبر حين يقرر الزواج من ميثاء. لعله قبل هذا الارتباط كان يعيش حالة الكدر تلك دون أن يتوصل إلى أي قرار، لكن حسمه أمر الزواج يقطع حيرته بتأكيد قرار الهجرة. إنه من هول ما خلفته في أعماقه تجربة عمله وعودته الأولى إلى وطنه يكاد ينفي حتى صفة الإنسانية عن المتسببين في (توريطه)، وأكثر من هذا يستخدم النعوت الغليظة القاسية: "لقد تراوحت أفكاري بين أن أكون مواطنًا مهانًا، مهضومة حقوق مواطنته في وطنه، وما بين حالة نزع هذه المواطنة التي جسدها على الأرض عميل وكالة الجراد... وأن كثيرًا من الأفكار التي راودتني تشير إلى أنني لن أنتمي إلى الأرض التي ولدت بها وترعرعت على ترابها، حيث تتكاثر وتنتمي لها تلك العينات من البشر، الذين هم في الواقع لا أعرف لماذا يطلق عليهم هذه التسمية البريئة...." (ص 390، 391).
يتضح أخيرًا السبب الرئيس لربط بن سولع قرار الهجرة بميثاء.
تقدمت فيما سبق الإشارة إلى أصل ميثاء العرقي، فهي سليلة بن طنّاف خادم سباع بن نطلة حاكم البريمي، "أما أمي غريبة فيُقال عنها إنها صوقرية بيضاء بياض قرطاس الورق، وتعني كلمة صوقرية، أو صوكرية، في لغة قاموس سوق تجارة الرقيق أنها حرة، وأصلها من جزيرة صوقرة، لكنها وقعت في السبي، وبيعت في سوق النخاسة، وقام بشرائها وهي طفلة سباع بن نطلة من سوق النخاسة والعبيد بواحة البريمي" (ص 234). وإذا عدنا إلى الخلف سنتذكر أن عبيد بن باروت صديق بن سولع العُماني الأسود البشرة الذي أصبح طيَّارًا حربيًّا وجاء لزيارة صديقه سريدان الحرسوسي في لندن وهو في طريقه لإكمال دراسته العسكرية في الولايات المتحدة؛ "التحق عبيد بن باروت معنا بسرب مقاتلة الجاكوار، واجتاز شروط اللفتننت ميجر تيم كندي في اختيار عناصر من يخدمون كضباط في الجيش، وكل ذلك تم عن طريق والده مولى سيد من سادات مسقط الكبار...." ( ص 96). "... إن والدته ماتت كمدًا حينما ذهبت تخطب له فتاة من القرية التي تعيش بها، وردها أهل الفتاة باحتقار قائلين لها أنت لست من هدمتنا، ولا من ملتنا، فكيف نزوج بنتنا لعبد من عبيدنا. اذهبي للجحيم أنت وابنك الضابط الطيار" (ص 76). عبيد بن باروت بدوره يستدعي الماضي من الزاوية الوثيقة الصلة بميثاء العُمانية أيضًا: "وعلى حين غرة سألني صديقي عبيد بن باروت بهدوء، وهو يرتشف من كأس بيرة الجينيس، ويعتدل في جلسته كأنما جلس بعد سجود في صلاته، إن كنت سأذكر في بحثي المرتقب سوق النخاسة والعبيد في واحة البريمي، أم سيكون بحثي فقط منصبًّا على الصراعات السياسية والاقتصادية من طرف شركات البترول الأجنبية. وعقب قائلًا: ألا تعتقد بأن تجارة العبيد كانت مصدر دخل وثروة اغتنت من ورائها شخصيات بارزة ما زالت تعيش بيننا؟ بل هناك قبائل متخصصة في هذه التجارة، هل ستتطرق لها؟... عن الموالي والعبيد والخدم... ورجوته عدم الخوض في هذا الموضوع أمام الآنسة ميثاء العُمانية...." (ص 112). وقبل هذا كان عبيد بن باروت قد قال لسريدان: "... إن حالتك يا صديقي تشبه حالتي، غير أن الأدوار هذه المرة مختلفة، ويبدو لي أن فتاتك من البشر الذين أنا منهم. وجذور العبيد واضحة في دمها ولونها، وربما كل شيء بها هو صنيعة العبيد، وبغض النظر عن لون بشرتها الفاتح. وأنت أدرى مني بمن يقترن بالعبيد في عُمان... وهذه ربما هي الحالة الوحيدة التي تفرق الخيط الأبيض من الخيط الأسود عن المشكلة التي تخصني وراحت ضحيتها أمي، الله يرحمها برحمته الواسعة، جراء التفرقة العنصرية التي نحياها كمواطنين سواسية في عُمان... لأن زوجتك من العبيد، وهي بلا شك من طبقة الخدام والموالي. ثم صمت واعتدل في جلسته كأنه يريد أن يصدر أمرًا وقال: هل تظن أن الحياة هناك تشبه الحياة هنا" (ص 107)؛ لا يضع سريدان علامة استفهام في نهاية السؤال، ولعل الاستفهام الاستنكاري هنا يتعمد عدم وضع علامة الاستفهام من قِبَل عبيد بن باروت موجهه الأساس، فكأنه في النهاية يسرد خبرًا ولا يطرح سؤالًا ولا ينتظر إجابة. لهذا السبب إذن يقول سريدان/بن سولع: "كان مشينًا تمسك البعض من أبناء وطني بمعتقدات وعادات عصور العبودية التي يحرمها الدين ويرفضها المجتمع البشري جملة وتفصيلًا. فما بال وضعي ووضع ميثاء لو قدر لنا العيش في مجتمع يفرق بين الأبيض والأسود، وما بين الذكر والأنثى، في أمور ساوى بينهم الخالق، والشرائع والقوانين الوضعية من قبل وحتى الآن"؟! (ص 391).
هناك تعليق واحد:
الجاسوس الذي أحب اسرائيل
هذه حقيقة الفرعون الكرتوني الذي يحكم مصر الكنانة.. اصح يا مصر
http://boukerchmohamed.unblog.fr/2010/01/31/1610-28
إرسال تعليق