06 أبريل 2011

العربي... السيرة والمصير

                       عادل الكلباني                                        

     التاريخ العربي الحافل بالمآسي والدموية، منذ ألف وأربعمائة عام، لم يكن تغييره ولا يزال ليس بالأمر الهين. هل قلت تغييره يلزمنا اذا مئات السنين غير هذا الذي نراه، فمازال طريق الحرية طويلاً جدا تلزمه ضحايا وقرابين. لست متشائما ولا متفائلاً بما يحدث على بسيطة العرب من تغيير في المظهر فالجوهر مازال متعفنا مثقلا بالاستبداد والجبروت والقهر كأنه الإرث الذي يجب أن تحمله الأجنة جيلاً بعد جيل. الروائي حيدر حيدر يصف ذلك بالدم المجرثم بالعبودية والرضا بالاستعباد، ومنذ موت النبي عليه الصلاة والسلام، وبعد انتهاء عصر الشيخين أبو بكر وعمر، عادت الدائرة إلى الانغلاق كما كانت، فالخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو كبشر في الخطأ والصواب، حين وزع أمور دولة المسلمين بين أقربائه وخاصته وخصهم بثروات طائلة من بيت مال المسلمين، أبناء عمه بني أمية تحديدا بطريقة تشبه الإسراف أو اهدار المال العام دون حسيب او رقيب. ومن اشهر الثائرين على تلك الاوضاع  الفاسدة في الشام الصحابي الكبير أبو ذر الغفاري الذي قال مقولته الشهيرة التي ارسلها شرارة للثورات التي جاءت من بعده والى الآن مازالت الوقود الذي حرك الفقراء والمساكين ليرفعوا رؤوسهم في وجه الجبابرة والظلم والطغاة (عجبت لرجل لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج شاهرا سيفه على الناس؟)، فضج به معاوية بن ابي سفيان وحاول ان يشتري سكوته وذمته بالمال الغزير وتوفير كل ما يطلب له ولمن حوله شريطة ان يكف عنه لسانه، الا ان الرجل الحر الشريف أبى ان يصمت على الظلم والفساد المستشري في البلد بشكله السافر، فكتب معاوية الى عثمان بأمر أبي ذر الغفاري، فأمره عثمان بإرساله الى المدينة، ونفاه الى الربذة خارج المدينة فلم يزل بها حتى مات. وحين  ثار عليه الناس وطالبوه بعزل عماله الذين اساؤوا اليهم في التصرف والسلوك ويولي عليهم (من لا يتهم في دمائهم واموالهم)  رد عليهم قائلا (ما اراني اذن في شيء ان كنت استعمل من هويتم واعزل من كرهتم، الامر اذن امركم)، فقالوا (والله لتفعلن او لتعزلن او لتقتلن فانظر في نفسك او دع) فأبى عليهم وقال (والله لأن اقدم فتضرب عنقي احب الي من ان اخلع قميصا قمصنيه الله)، في هذا الحوار الذي دونته كتب التاريخ (انظر صفحة 227 العقل السياسي العربي للدكتور محمد عابد الجابري) نرى ان هذه الحالة من التشبث بالسلطة وعدم الاعتراف بالأخطاء والتضحية بدماء الناس كقرابين للكرسي والتنازل عنها هو نفس المشهد القائم الذي يتكرر الآن ونحن في الالفية الثالثه من القرن الواحد والعشرين، فما من زعيم عربي الا وقد كرر هذه العبارة بطريقته الخاصة والتي سيؤدي تاليا الى فتن وقلاقل وإراقة دماء دون ان ترف له جفن او خوف من ازهاق ارواح الناس – هل رأيتم كيف كان يضحك الرئيس اليمني علي عبدالله صالح في مقابلة له مع قناة العربية؟ وقد قتل من شعبه اكثر من خمسين شهيداً بطريقة فجة وعدم احترام لدماء اليمنيين التي سالت، حتى لتكاد تسأل نفسك قهرا وحزنا في أي عالم يعيش مثل هؤلاء البشر؟ والقذافي وما ادراك ما القذافي واسرته المجنونة.

      ومع ان النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لم يكن قد مضى على وفاته الا ثلاثة عشر عاما الا ان المسلمين في ذلك الوقت ومع علمهم بقرابة عثمان من النبي وجهاده وتضحيته بماله في غزوة العسرة وغيرها من الاخلاق الحميدة لم يشفع له على اخطائه الادارية والمالية اذا جاز لنا التوصيف فتسوروا عليه المسجد وقتلوه وهو يقرأ القرآن.
***

      انقسم المسلمون بعدها الى فريقين يضربان رقاب بعضهما بعضاً، فريق مع معاوية بن ابي سفيان وفريق مع علي بن ابي طالب، وقد جاء في صحيح البخاري مطبعة بيروت عالم الكتب الجزء التاسع صفحة 92 قال الرسول عليه الصلاة والسلام (اذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما في النار قيل: فهذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: انه أراد قتل صاحبه)، وانا هنا لست في معرض اتهام أحد من الصحابة بقدر ما هي نظرة تاريخية على احداث هي في صميم العقل العربي الذي لم يحدث فيه أي تغيير منذ ذلك الوقت. سالت دماء المسلمين في موقعة الجمل ومعركة صفين والنهروان ومعارك اخرى انشطروا فيها الى ملل ونحل ومذاهب وخوارج كل يدعي الحقيقة المطلقة لنفسه ومحاولة طمس الآخر في رأيه فتفرقت بهم السبل وعادوا كما كانوا (فرق تسد)، مارسوا حسب المفكر الدكتور محمد عابد الجابري العقيدة في القبيلة أيديولوجيا الجبر التي نقضها المعتزلة لاحقا ودفعوا اكثرهم حياتهم ثمنا لذلك، خطب معاوية بن ابي سفيان في اهل الكوفة قائلا (يا اهل الكوفة اتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت انكم تصلون وتزكون وتحجون لكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم، وقد اتاني الله ذلك وانتم كارهون) وقال وهو بصدد اخذ البيعة لابنه يزيد ( ان امر يزيد قضاء وقدر وليس للعباد الخيرة من امرهم)، وكان هذا اليزيد الذي مكنه ابوه على رقاب الناس ليكون امير المؤمنين مشهوداً له بالعبث والمجون، ان حقق اكبر انجاز تاريخي دموي وهو القضاء على سلالة النبي في كربلاء وتمثيله بجثة الحسين رضي الله عنه، بصورة  مرعبة وبشعة وفاجعة  تتوارثها  العصور الى يوم القيامة. لقد سن معاوية بن ابي سفيان سنة التوريث التي مازالت شعوب العرب تدفع اثمانها الباهظة الى الآن، فتأتي اسرة لتحكم بلداً مئات السنين لتظل على هذه الحال، حتى تهلك  لتصعد اخرى في متوالية هندسية غريبة اجتازتها الأمم الاخرى الى الرقي بالشعوب وبالحرية والكرامة والمواطنة التي تكفل العزة والحرية لكل مواطن يعيش على وطنه محترما مقدرا عزيزا حيا وميتا.
***

     وحين جاء العباسيون على نفس التاريخ والسيرة قال احد خلفائهم ابو جعفر المنصور في احدى خطبه (ايها الناس: انما انا سلطان الله في الارض اسوسكم بتوفيقه .. وحارسه على ماله اعمل فيه بمشيئته وارادته)؛ من ينظر الى هذا الخطاب الذي تكلم به ابو جعفر المنصور قبل  الف سنه تقريبا يجده نفس المسار الذي سار عليه زعماء العرب في العصر الحديث- اذا كان لنا عصر حديث أصلا- فهو بمعناه انه الموكل عن الله في الارض يسوس عباده كيف شاء، بظلم وجبروت وقهر حسب المزاج من رضي عنه رفعه عاليا ومن سخط عليه ارسله الى اسفل سافلين، فهذا قضاء وقدر مبرم على الشعوب ان تتقبله وان تمارس حياتها بما أريد لها ان تسير عليه وفق ما يرضاه الحاكم او الزعيم، من يستطيع ان ينكر ان أبا جعفر المنصور لا يكرر نفسه  بالتناسخ وبنفس التصور والسلوك مع هؤلاء الذين ادعوا الزعامة والوصاية علينا في كل شيء نحياه منذ امد بعيد، وانه فقط لم يبق لهم بما فعلوه من روائع الا المطالبة بالسجود.

ليست هناك تعليقات: