06 ديسمبر 2011

انتخابات الهوية

الياس خوري
2011-12-05

الانتخابات في تونس والمغرب ومصر حملت مؤشراً على ان الرأي العام العربي لا يزال يعيش في سياسة الهوية، وهذا ما قاد الى فوز التيارات الاسلامية، وتراجع الليبراليين واليساريين. سياسة الهوية هي تبسيط للسياسة، وتهدد باختزالها في شعارات ايديولوجية او دينية، لأنها تلخّص ازمة التحوّل الديموقراطي في المسألة الأكثر سهولة وعفوية.
لكن هذه التبسيطية تشير الى احدى العلامات الكبرى التي افرزتها عقود من الديكتاتورية، انها الفراغ الأخلاقي. الأنظمة الانقلابية العربية سقطت عدة مرات قبل ان يجرفها تيار الثورات العربية المشتعلة، وقامت بتدمير المرجع الاخلاقي للسياسة بشكل كامل.
سقطت اولا في عجزها عن حلّ المسألة الوطنية، فكان الحلان اللذان اعتمدا للصراع العربي- الاسرائيلي اشبه بالكارثة: الاستسلام على طريقة كامب ديفيد المصرية، او الاستمرار في ممانعة التأجيل على طريقة النظام السوري. ما قاد الى فراغ كبير حاولت قوتان اقليميتان هي ايران وتركيا ان تملآها.
وسقطت ثانيا عند سقوط جدار برلين، حيث لم تفهم ان هناك منظومة ثقافية واخلاقية قد تهاوت. فالاستبداد العربي الذي اتخذ من كوريا الشمالية نموذجا، لم يسقط فقط في التوريث، لكنه سقط نهائيا في مستنقع القبلية والجهوية والطائفية، بحيث لم تعد لغته السياسية سوى قناع شفاف يكشف بدل ان يخفي.
وسقطت ثالثا عندما لم تفهم من العولمة سوى وجهها البشع، فحولت الاقتصاد الى رهينة مافيا عائلية، تنهب وتدمر ولا تشبع.
وسقطت رابعاً عندما خلقت من حولها فراغا اخلاقيا، احتله الكذب والقمع والمحاباة والنفاق.
'سقطت الأنظمة بعدما نجحت في افراغ المجتمع من البنى الاجتماعية التي تصنع السياسة: الأحزاب والنقابات، من خلال احتكارها الحصري للسياسة والاعلام، بحيث صار المجتمع الأهلي غريبا عن سياسة بلاده.
في هذا المناخ انفجرت الثورات كتعبير عن احتقان طويل لا مسارب له. كانت الثورات اشبه بالمعجزة، التي هي نتاج معقد لاستحالة استمرار الانحدار. والجدير بالملاحظة ان الثورات كانت اشبه بانفجار اجتماعي، لعبت فيه نخب جديدة دور الصاعق، لكنها لم تكن قد تبلورت كي تلعب دور اطر سياسية قادرة على قيادة الثورة نحو تحقيق اهدافها. بل يمكن القول ان هذا التبلور لم يكن ممكنا في ظل انظمة الاستبداد، وان مرحلة انتقالية طويلة نسبيا ضرورية من اجل بناء اطر سياسية جديدة.
من هنا برزت سياسة الهوية التي نجحت في الانتخابات البرلمانية، بحيث بدت هذه السياسة وكأنها ممر اجباري انتقالي. بالطبع فإن هذا لا يفسر وحده نجاح الاسلاميين، فالاسلاميون انتصروا ايضا لأنهم شكلوا معارضة 'شرعية' للنظام في مصر، على سبيل المثال، او لأنهم شكلوا نواة صلبة متماسكة كما في تونس. ولكن يجب ان لا ننسى النموذجين التركي والايراني، والفراغ السياسي الذي خلفه انهيار المشروع القومي العربي من دون ان يستطيع افراز بدائل من داخله.
سياسة الهوية هي ما قبل السياسة، لذا لم تجر الانتخابات على اساس برامج اجتماعية واقتصادية وسياسية مختلفة، بل تمت تحت لافتة الهوية، الاسلاميون من جهة والعلمانيون من جهة اخرى، كأن الانتماء يختزل السياسة، او كأن يافطة هوياتية محددة تمحو الفروق الاجتماعية والطبقية والسياسية.
فاز الاسلاميون من خلال قدرتهم على تطمين الهندسة المفترضة للمنطقة التي تقودها الولايات المتحدة واوروبا، من خلال وكلاء خليجيين تارة او في شكل مباشر تارة اخرى.
وهي هندسة قوامها ما اصطلح على تسميته بالاعتدال، وأفقها طمس المسألة الوطنية، اي مسألة الصراع العربي- الاسرائيلي، وتأجيلها، لأن الخيارات السلمية المتاحة ليست ممكنة بسبب التعنت والصلافة الاسرائيليين. وستثبت الأيام ان هذه الهندسة لا تتميز سوى بالسذاجة، اذ لم تعد الايديولوجيات حتى وان استندت الى الهوية قادرة على ضبط المجتمع وبناء السلطة فيه. ضبط المجتمع سوف يخضع لتوازن داخلي، لم تعد اية ايديولوجية قادرة على تقديمه، وايجاد حلول حقيقية لمسائل الفقر والبطالة وتوزيع الثروة على المستويين الداخلي والأقليمي.
من جهة اخرى فإن انتصار الاسلاميين ليس مفروشا بالورود، لأن مسألة معنى السلطة لا تزال غامضة، وخصوصا حين يتعلق الأمر بالجيش. فالجيوش التي حافظت على بنيتها العسكرية كالجيش المصري، ليست لاعبا سلطويا فقط، بل هي لاعب اقتصادي ولاعب دولي ايضاً. والخلاص من هيمنة العسكريتاريا لا يكون بشعارات هوياتية غائمة، بل يحتاج الى تصور لاعادة بناء الدولة المدنية كنقطة توازن في المجتمع.
هذا الواقع يعني ان سياسة الهوية التي تسود اليوم هي مرحلة تفتح احتمالين:
الاحتمال الوطني الديموقراطي، وهذا يتطلب من القوى الثورية التي صنعت 'ميدان التحرير' وكل ميادين الثورات في مختلف البلاد العربية، بلورة بنية سياسية جديدة، قادرة على بناء الدولة الديموقراطية، عبر ممارسة للسياسة بمعناها الاخلاقي والنبيل، وبلورة افق لمعنى الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني من جهة، ولفكرة التعاون والتكامل السياسي والاقتصادي العربي من جهة ثانية ،او احتمال عودة الديكتاتوريات بأسماء جديدة، قد تكون فكرة التحالف بين الجيش والتيارات الاسلامية احد اكثر اشكالها امكانية.
خياران سوف يشكلان عنوان المنعطف الجديد الذي يمر به العالم العربي اليوم، وهو منعطف تاريخي كبير، سوف يحدد مصير العرب لعقود قادمة.

ليست هناك تعليقات: