16 يونيو 2012

الدم السوري للتجارة

عادل الكلباني
 (1)
    هل حدث في تاريخ الثورات قديما وحديثا، كالثورة السورية، التي راح ضحيتها آلاف القتلى والمعتقلين في سجون ظلام حزب البعث حتى طال النساء والأطفال والرضع؟ هذا الحزب الذي أتى كأيديولوجيا لبعث أمة كما يقولون متردية في الخيبات والهزائم والانكسارات شعاره القومية والعروبة بعد استقلال سوريا من الاستعمار الفرنسي عام 1947م، ورفعها من الحضيض والتردي في الجهل والتخلف إلى آفاق أكثر رحابة علما وثقافة وحضارة، ولكن الوجوه التي أتت إلى السلطة بالانقلابات العسكرية الفينة  تلو الأخرى، منذ انقلاب حسني الزعيم عام 1949م وتلاه الانقلاب العسكري الذي حدث عام 1954م ضد أديب الشيشكلي، ثم انقلاب حافظ الأسد عام 1970 على صديقه صلاح جديد الذي خلصه من السجن وعينه وزيرا للدفاع آنذاك في حركة تصحيحية كما يدعون، منذ ذلك الوقت سخر حافظ الأسد كل الإمكانيات المتاحة له لبقائه في السلطة ولتكون البلد رهينة  أسرة واحدة هي آل الأسد.
 
(2)
    ليس من الغرابة بمكان أن يسير رجل كهذا على التفكير القروسطي السلطوي فقد سبقه قبل ألف عام معاوية بن أبي سفيان والي الشام، إذ استولى على الخلافة عنوة  بل وصل به الأمر أن طلب من الناس والصحابة وروضهم بالقوة والذهب، آنذاك بمبايعة ابنه يزيد المعروف بعربدته ليكون أميرا للمؤمنين خلفا له، كسُنة للتوريث لم يسبقه إليها أحد من قبل عدا القيصر وكسرى. طبعا لا مقارنة بين معاوية وحافظ الأسد، فمعاوية له دور كبير لا ينكر في الفتوحات الإسلامية التي حدثت في عصره، أما حافظ الأسد فلم تكن فتوحاته إلا فتنا وفسادا وخرابا  لمصلحته الشخصية وحاشيته التي قهرت وأذلت الشعب السوري والمناضلين وسحقت الشرفاء وأقصت كل من تسول له نفسه بنقد هذا الإله الجديد لسوريا، سواء بالاغتيالات التي حدثت على مستوى الرفاق، أو بافتعال كثير من الأزمات على المستوى العربي الفلسطيني اللبناني، وقد تحقق له ما أراد من إيجاد بيئة مناسبة حاضنة لكثير من المرتزقة واللصوص الذين تكاثروا كالطفيليات وتمكنوا فعلا من تحويل بلد عظيم كسوريا والعودة به إلى الوراء عشرات السنوات، واستشرى هذا العبث في التعليم والاقتصاد والثقافة والصناعة والزراعة وإهدار ونهب المال العام لثروة سوريا وتمكينها في أسرته والذين يأتمرون بأمره. 
 
(3)
    من  ينظر إلى خريطة الوطن العربي سيجدها مليئة بهذه الأشكال والصنوف، فنحن في دول الخليج مثلا تحكمنا أسر منذ مئات السنين ونورث كالقطيع من كابر عن كابر إذا مات حاكم أو أسقمه المرض فلن يزحزحها عن كواهلنا الرابضة فوق صدورنا أبدا كالجبال إلا بزلزال يرض شجرتها من الجذور ويمزقها ذاكرة وتاريخاً... وليت هذه الأسر التي تحكم شعوب البدو والأعراب -حسب وصف إعلام حزب البعث في الآونة الأخيرة، قدمت نهضة علمية على الأقل كالنظام الإيراني – على مساوئه- فقد علم شعبه وهو يناطح الآن أمريكا ودول الغرب بقوة علمه... لا بالهروب من حر الخليج إلى ضباب أوروبا والسياحة في الجزر بالملايين، مع أن إيران خاضت حروباً طاحنة كانت هذه الأسر الذكية هي التي مولت هذه الحرب من ثروات شعوب الأعراب في حربها ضد العراق، لكنها نهضت في ظرف سنوات معدودة، بينما دول الخليج غارقة في التأليه والتمجيد لزعماء جهلة وفاسدين بالفطرة (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون). نسوا الله فأنساهم أنفسهم بإعلام عاهر كاذب ومضلل، غيب وعي الجماهير وحيدها عن الحياة المدنية في سبيل فقط أن يحيا الحاكم ويعيش الحاكم ويستقبل الحاكم، وفي عيد ميلاده تفتح خزائن البلد دون حسيب ورقيب ويعبث بها في أكبر مهزلة للتاريخ، شعب يرقص من الحاجة والعوز والبطالة يرى بأم عينه في وضح النهار تبدد ثروته وإهدارها لأجل عيد ميلاد الحاكم ولا يحرك  ساكناً أو ينطق ببنت شفة. (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). ونفوسنا ينخرها الفساد والجهل والانهيارات، فماذا يُـنتظر من شعب كهذا عاش سنوات عجافاً على مثل هذا التطبيل والتمجيد الفارغ ليل نهار، هل تتوقع من أحدهم أن يفوز بجائزة نوبل في الفيزياء أو الرياضيات أو الكيمياء أو يفوز في علم الطيران أو الصناعة أو الزراعة؟ الأمر الذي وللأسف الشديد وصلنا فيه بامتياز إلى التخلف و الإفلاس على كل صعيد واتجاه. إن بلدا يبدأ فيه القانون باسم الحاكم والقضاء باسم الحاكم والتنفيذ باسم الحاكم لن  يعرج إلى السماء أبدا.
(4)
    دول الخليج دون استثناء ليست دولاً ديموقراطية بالطبع كي تطالب من يقتل شعبه بشار الأسد بإجراء إصلاح ديموقراطي في بلده، بل إن ملف حقوق الإنسان في معظمها أسود قياسا بما تعيشه دول الحريات والعدالة والقانون في هذا العصر. ربما لا فرق بينها وبين ما يعانيه الشعب السوري من تضييق على الحريات وتكميم أفواه الناس والزج بهم في السجون دون محاكمة نزيهة باسم الأمراء والحكام والسلاطين، بل إن  منهم من وصل به الأمر إلى الجهل بما يدور في وطنه، من فساد وإذلال ومهانة للشعب، حتى إذا انتفض رجاله استيقظ وعاد إلى رشده قليلا. يذكرك هذا بالمثل القائل: "شر البلية ما يضحك".
(5)
    أطاحت الثورة السورية المباركة بالأقنعة عن الكثير من الوجوه التي حسبها الناس في غاية الطهر عقيدة قول وفعل، وما كانت تعانيه من مرض في قلوبها، فانظر دون تعليق إلى علي خامنئي وأحمدي نجاد ووكيلهما في لبنان حسن نصر الله. هذه الثورة كشفت النفاق واللؤم والخبث المخزي فيهم وأظهرت تصرفاتهم المذهبية على أساس طائفي محض ينذر بالشر والكارثة.
 
(6)
    تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تكسر أنف بشار الأسد وتلطمه على وجهه وتقوده مكبلا بالأصفاد ذليلا مثلما فعلت مع الطاغية السابق صدام حسين، وربما تقدمه للمحكمة الجنائية كمجرم حرب وأفراد أسرته الشبحية، والنظام الإيراني، الذي يفح كثيرا هذه الأيام إذا رأى العين الحمراء من دول العالم الحر كما يدعون فإنه أجبن من أن يقف في وجه القوى الكبرى، لأجل نظام همجي من القرون الوسطى سقوطه مسألة وقت، أما بوتين ووزير خارجيته لافروف، في كل المؤتمرات العربية والذي لم يصدمه أحد بكلمة تحمله نتيجة وقوفه مع نظام مجرم بكل المقاييس يقتل شعبه، فإنه ورئيسه بوتين قد أخذا الضوء الأخضر من أمريكا والغرب لكل هذا التلاعب والمماطلة، وإلا لو كانت الولايات المتحدة الأمريكية ورئيسها الضعيف والجبان، الذي تقريبا لن ينجح في الانتخابات القادمة، هدد بضربة عسكرية إن لم يلتزم هذا البشار وجلاوذته بخطة عنان، ماذا بوسع الروس ورئيسهم بوتين أن يفعلوا إذا حدث خيار كهذا، ألم يدك حلف شمال الأطلسي يوغوسلافيا زمن بيل كلينتون حين تمادى رئيسها السابق رادوفان كارازديتش معتبرا أن روسيا ستقف بجانبه إذا نشبت حرب ضده كحديقة خلفية لها، ولكنها لم تفعل له شيئا ولم تحرك ساكنا، بل كان الروس وأكابرهم يشاهدون عبر الفضائيات ما يفعله شمال الأطلسي من قصف وتدمير القوات التي عاثت في الأرض فسادا قتلا وترويعا وانتهاكات لحقوق الإنسان وذبح آلاف الناس وتشريدهم عبر البلقان وخاصة المذابح التي حدثت في سربرينتشا، ولكن حسابات الربح والخسارة تجاه السلطة التي ستخلف حزب العبث هذا هي التي تجعل تأخر هذا العالم الحر كما يدعي في التحرك العسكري ضد هذا النظام الوحشي مرتبطا بأمن إسرائيل.
 
(7)
    يقول الكاتب حازم صاغية في كتابه "البعث السوري – تاريخ موجز" (ص  160): "لقد حصد هذا النظام العاصفة بعد زرعه الريح، معيدا بلاده ملعبا وباعثا -الصراع على سوريا- مجددا، وفي أسوأ الأشكال وأخطرها، ولأنه زرع الكثير من الريح فإنه يقدر أن تأتي العاصفة قوية جدا، معها يتعلم السوريون السياسة بشروط قاسية جدا، وفي طريقها تجرف فيما تجرف تلك اللعنة التي شكلت عنوانا لكوارث وطنية متتالية وستارا لكذب كثير: حزب البعث العربي الاشتراكي".

ليست هناك تعليقات: