عرض: سالم آل تويه
"ولد إرنستو ساباتو في بلدة روخاس التابعة لمحافظة بوينس آيرس في عام 1911م، وحصل على الدكتوراه في العلوم الفيزيائية والرياضية من جامعة "لابلاتا"، وعمل في حقل الإشعاعات الذَّرِّيَّة في مخبر "كوري" في فرنسا، ثم في معهد "ماساشو ستيس" للتكنولوجيا في بوسطن- الولايات المتحدة الأمريكية.
في عام 1945م هجر العلوم بصورة نهائيَّة ليكرِّس وقته للأدب، وكتب عدَّة أبحاث حول الإنسان وأزمة العصر، وثلاث روايات، هي: "النَّفق" عام 1948م، "أبطال وقبور" عام 1961م، و"أبدون" عام 1967م. ونالت روايته الأخيرة في پاريس جائزة أفضل رواية أجنبية في فرنسا في ذلك العام.
عندما استعادت الأرجنتين الحياة الدِّيمقراطية في عام 1983م كلَّفته الحكومة الدَّستوريَّة برئاسة اللَّجنة الوطنية للتحقيق في قضية المفقودين نتيجة القمع السِّياسي في أثناء حكومات الطُّغمة العسكريَّة، وقد قدَّمت تلك اللَّجنة تقريرًا عن نتائج أعمالها كان له وقع مثير.
في عام 1948م نال ساباتو جائزة "ميجيل دي سرڤانتس"، وهي أرفع جائزة للآداب الإسپانية". هذا ما جاء في تقديم الكتاب من قبل المترجم عبد السلام عقيل الذي ترجم أيضًا-عن الإسپانية- روايات ساباتو الثلاث، مستفيدًا من إلمامه بأوضاع الأرجنتين ودراسة تاريخها، حيث عاش فيها سنواتٍ في أثناء عمله سفيرًا للجمهورية السورية هناك. أمَّا كارلوس كاتانيا، مُجري الحوارات، فقد ولد عام 1931م في "سانتافي" الأرجنتينية، وهو الآخر مبدعٌ متعدِّد الاهتمامات، يكتب المسرحية والرِّواية؛ كتب أولى مسرحيَّاته ("غيمة في القناة") وهو في الثالثة عشرة من عمره لتعرض في بوينس آيرس بعد عشر سنوات من صدورها، وعمل مخرجًا مسرحيًّا في عدة بلدان أمريكية لاتينية، ومديرًا للفنون الجميلة في جامعة "كوستاريكا"، وسينمائيًّا، كما أخرج ستة أفلام للسِّينما الألمانية؛ إضافة إلى كتابه "ساباتو بين الحرف والدَّم" 1973م- الذي نعرضه هنا- كتب كاتانيا أيضًا: "المدينة تختفي" 1964م، رواية النِّساء المسترجلات 1978م، دراسة أولية من صفحات مختارة من "إرنستو ساباتو" 1981م.
حوار يستغرق عشرين عامًا
يقول كارلوس كاتانيا في تقديمه للكتاب: "لقد تمكَّنت عبر فيضٍ من الرسائل، وأثناء لقاءاتٍ قصيرة خارج البلاد، وزيارات متكرِّرة لمنزله القديم في "سانتوس لوغاريس"، وحتَّى عبر محادثات هاتفية، من إدارة حوار شخصي مع إرنستو ساباتو استغرق ما ينوف على عشرين عامًا، وقبل أن أصوغ الأسئلة التي اخترتها لهذه المقابلة كنت متأكِّدًا من معرفة الأجوبة: من سلسلة أبحاثٍ بدأها بـ"الفرد والعالم" (1945م) وأنهاها بـ"دفاعٌ ورفض" (1979م)".
الكتاب-لمن لم يقرأه وتذكرةً لمن قرؤوه- شائق جدًّا، يشدُّ الأنفاس ويزعزع الثوابت الكسولة التي يركن إليها كثيرٌ من الكتَّاب ويُروِّجون لها، متضادِّين بين أفكارهم وممارساتهم، خالطين الحابل بالنَّابل وهم يُقدِّمون القرابين تلو القرابين للسُّلطة التي من أجلها يفعلون الأعاجيب، وفي نهاية المطاف-وكي لا يكونوا سلبيِّين!- كلُّ شيء قابلٌ للتبرير ما دام الأمر يتعلق بـ(الأدوار العظيمة) التي يلعبونها في ملعب المجتمع، وبإنقاذ الإبداع والسَّقافة و(الجمهور المسكين المضحوك عليه دائمًا) من الموت المحقَّق!.
قَيْدُ العلومِ ومَنْفَذُ الأدب
في ما يتعلَّق بالرِّواية لم يكتب ساباتو سوى ثلاث روايات، ليس لأنه لم يكتب غيرها، بل لأنَّه- ربَّما كشخصيَّاته في "النَّفق" و"أبطال وقبور"- قلقٌ ويُراجع أعمالَه كثيرًا إلى حدٍّ قد لا نبالغ إذا وصفناه بالمؤذي والخَطِر؛ يسأل كاتانيا ساباتو: "*نعلم أنَّ الجزء الأكبر ممَّا كتبت قد أُحرق بالنَّار. أيمكن أن أعرف بدقَّة لماذا قمت بذلك..؟ فقد شغلني كثيرًا، أكان تطهيرًا؟". يردُّ ساباتو: "-نعم، ربَّما. أو ربَّما لأن جميع الأطفال تقريبًا مهووسون بالنَّار. (يبتسم).
*ولماذا احتفظت بثلاث رواياتٍ وحسب ممَّا كتبت؟
-لست أدري، لكنَّ واحدة منها وهي "أبطال وقبور" كانت أيضًا على شفا الدَّمار.
*وما الذي حال دون ذلك؟.
-أنَّ ماتيلدي مرضت بسبب ذلك القرار". ماتيلدي واحدةٌ من زوجات المبدعين الكبار النَّادرات جدًّا (ربَّما نتذكَّر هنا "مرسيدس" زوجة غارسيا ماركيز). حوالى 1970م- كتب كاتانيا في مقدمة كتابه- "قالت زوجة الكاتب "ماتيلدي كوسمنسكي ريختر" ردًّا على إحدى رسائلي: "ساباتو رجلٌ مثيرٌ للجدل على نحوٍ مريع، وهو غير مستقرٍّ، وكئيب، لكنَّه يعي بوضوح قيمته، يتأثَّر بكل ما هو سلبيٌّ، ويتوق للحنوِّ والعطف، مثلما يمكن لطفلٍ متشرِّدٍ أن يكون. تلك الحاجة إلى الحنان التي تكاد تكون حالةً مَرَضيَّةً تجعله يفهم بالطَّريقة نفسِها المعوَّقين والمتشرِّدين ويُحسُّ بهم. ولكنَّه أيضًا تعسُّفيٌّ وعنيفٌ وعُدوانيٌّ أيضًا، ويجب أن أؤكِّد هنا أن تلك صفات تخمد فيه يومًا بعد يوم- وإن كنت أعتقد أن هذه العيوب ناجمة عن نفاد صبره- فهو يحتاج لكي يكتب، لكي يتحرَّر من هواجسه وجروحه، إلى أن يكون محاطًا بسياجٍ من الحُنُوِّ والتَّفاهم والعطف (...). كان منذ طفولته روحًا تُفكِّر وفنَّانًا ينطوي على دخيلةٍ كئيبة، ولكنَّه في الوقت ذاته متمرِّدٌ وصاخب، قيَّدته العلوم بشكلٍ مريع، فكان أمرًا منطقيًّا أن يبحث عن المنفذ الوحيد الذي يمكن أن يُساعده على التَّعبير، على تقيّؤ عذابه الدَّاخلي: الرِّواية".
إنَّه مريعٌ حقًّا، ساباتو، هذا الذي تتلمذ على علماء الرياضيات والفيزياء، ومن بينهم أحد تلاميذ آينشتاين، هذا الذي نَقَمَ على العقل بسبب العلوم وغادرهما معًا نحو جهنَّم الحمراء: الأدب.
الروائي والمجنون
"يُشكِّل الحنين إلى مثل عليا ممزَّقة، والتَّوتُّر النَّاجم عن البحث الشَّيطانيِّ عن معنًى للحياة، أساسَ الرّؤية الكونية عند ساباتو... ويعتقد أنَّ الفارق بين الرِّوائيِّ والمجنون يتلخَّص في أنَّ الأوَّل يمكن أن يذهب حتَّى الجنون ثمَّ يعود. إنه يعرف تمامًا: ذلك الذهاب وذلك الإياب يتيحان للعقل أن يكون أسيرَ الظُّلمات، وللتَّاريخ أن يكون أسيرَ الرِّواية، وللمؤلِّف ذاته أن يكون أسير عملِه، يلتهم كلٌّ منهما الآخر، يُمزِّقه إربًا....". وهذا بحذافيره ما تستشعره عندما تقرأ "النَّفق" و"أبطال وقبور"؛ إنَّ قراءة الفصل الأشهر في هذه الأخيرة- والمعنون بـ"التَّقرير عن العُميان"- وحدَها تجعل القناعات تتصدَّع وتغور عميقًا دون أن يقرَّ لها قرار، ذلك أن الرُّسوخ والمسالمة والطُّمأنينة دروبٌ مخدَّدة ينتهكُها السُّوء البشري بامتياز ضالع في التَّخفِّي والمراءاة. ولعل هذا ما حدا بكثير من القرَّاء إلى التعبير عن استنكارهم للـ"تقرير". يردُّ ساباتو على سؤال كاتانيا عن استنكار القرَّاء بقوله: "كان أمرًا لا مفرَّ منه. إنَّ أيَّ تفحُّصٍ لا يرحم يمكن أن يجرَّ إلى مصاعبَ مع أغبياء ومرائين. لم يُكتب "التقرير" بدوافع منحطَّة ولمجرَّد استساغة الفضيحة، أو ما إلى ذلك، فتلك الأهواء المنحطَّة نحمل جميعًا بذرتَها، بمن في ذلك، (وبشكلٍ خاصٍّ) أولئك السَّادة الذين يستنكرون".
بقي أن نشير إلى التواضع المريع أيضًا الذي تتَّصف به شخصية ساباتو ا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق