تم إنتاجه كثمرة لحركة تحرير المرأة في سبعينيات القرن العشرين
"هدفنا إسعادكم".. تحفة فنية أسترالية صغيرة مجهولة
عبدالله خميس
"هدفنا إسعادكم" We Aim To Please فيلم تجريبي قصير مدته 12 دقيقة، كان ثمرة تعاون بين المخرجتين الناشئتين آنذاك روبين لوري Robin Lauriو مارجوت ناشMargot Nash . أنتج الفيلم عام 1976 من قبل هيئة الفيلم الأسترالية بالتعاون مع شركة إنتاج خاصة تحمل مسمى As If Production. يمكن ببساطة إدراج فيلم "هدفنا إسعادكم" باعتباره ثمرة من ثمار حركة تحرير المرأة التي كانت في أوج عهدها في سبعينيات القرن الماضي، إلا أن الزعم أن المرء بإمكانه أن يكون متأكدا من جميع ما أراد الفيلم قوله من أفكار ورؤى ترتبط بأيديولوجيات حركة نُصرة المرأة هو زعم غير سهل. إلا أنه، وفي ذات الوقت، فإن ثمة جوانب أخرى من رؤى الفيلم واضحة وسهلة الاقتناص، لاسيما أن بعضا منها مذكور لفظيا في سياق التعليق الصوتي بالفيلم.
يبدأ الفيلم بشاشة سوداء، وسرعان ما نسمع غمغمات نسائية وصوت صرير باب. بعد ذلك تظهر لقطة مقربة لشابتين عاريتين واقفتين على منصة ما وكأنهما تتأهبان لإلقاء نص أو تمثيل إسكتش مسرحي على جماهير لا يظهرون أمامنا على الشاشة. الشابتان تتحركان بحرية ومرح وتتضاحكان أحيانا. الأمر كله يبدو ارتجاليا وكأنه فيديو منزلي أو لقطة تم تصويرها عفو الخاطر. اللقطة التالية متحركة أفقيا من اليمين لليسار وتظهر فيها طوابير من البنايات والشوارع بمدينةٍ ما، تتخللها لقطات مقربة للتماثيل والنُصُب الفنية هنا وهناك. هذه التماثيل والنُصُب جميعها لشخوص نسائية وبعضها نحتٌ لنساء عاريات ابتدعته أيادي الفنانين عبر العصور. هنا يدخل للمرة الأولى صوت ساردة أنثى تقول التالي: "هنالك خطر عظيم يفصلنا عن أهدافنا"، وتمضي- في اقتباس على الأرجح من مقولة أو كتابة لشخصية معاصرة- متحدثة بإيجاز عما يجعل المرأة مكبلة عن بلوغ كافة مراميها، مختتمة كلامها بنبرة أسى قائلة باختصار: "ما أشد عزلتنا. ما أحوجنا للأمان". أثناء التعليق الصوتي تستمر الكاميرا في التقاط تفاصيل المدينة بضجيجها وتماثيلها النسائية، عبر استخدام الكاميرا المحمولة.
يلي ذلك إظلام فجائي، تليه لقطة لامرأة تضع أحمر شفاه (هي نفسها روبين لوري إحدى مخرجتيّ الفيلم). تعبث المرأة بأحمر الشفاه بشكل عابث وتلطخ به كافة وجهها. هنا يأتي صوت الساردة مرة أخرى ليبين ما معناه أنه حين يتم تصوير امرأة ]في الفنون كافة والسينما خاصة[، فإنه يتم التعامل مع الأمر مسبقا على أنّ المتفرج هو رجل، وأن صورة المرأة بالضرورة لا هدف لها سوى "مغازلة هذا الرجل" وإبهاجه. على أية حال، وسواء أكان الأمر رغبة من المخرجتين في السخرية من هذه الحقيقة (حقيقة أن صورة المرأة يتم تصميمها على افتراض أن جميع النُظّارة هم رجال)، أو كانت لهما رغبة في إنتاج صورة ضديّة تناقض هذه الصورة النمطية الجاهزة، فإن اللقطة التالية في فيلمهما بعد فراغ الساردة من الحديث تعود بنا لذات الشابتين المرحتين اللتين التقيناهما في بداية الفيلم، ولكن هذه المرة معهما فتاة أخرى منهمكة في الكتابة بقلم ذي خط كبير على أجساد الفتاتين: هدفنا إسعادكم!
يمكن اعتبار ما سبق مقدمة الفيلم (أو التترات)، بعدها يواصل الفيلم إبحاره لتقديم شكل سردي تجريبي ومغاير يتعاضد مع حركات التجديد والمد النهضوي والتمردي العام الذي شهدته الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. في الفيلم لقطات مقربة لتفاصيل جسد المرأة بشكل احتفائي بجماليات الجسد. وثمة مقاربة بين المرأة والشجرة، ربما ترميزا للاثنتين كرمز للخصوبة والعطاء والتجدد. ويحفل الفيلم أيضا بموسيقى عذبة لاسيما في اللقطات التي تتأمل جماليات جسد الأنثى. كل ذلك محاط بمونتاج متحرك متغير قافز من ثيمة إلى أخرى بحرية كبيرة، مع ضحكات نسائية جذلة نسمعها هنا وهناك من فريق العمل في الفيلم وهن مبتهجات أثناء التصوير وجذلات بالمرح الذي يحظين به أثناء العمل في الفيلم.
يستخدم فريق العمل في الفيلم خليطا من التقنيات السردية لإعطاء فيلمهن شخصيته الخاصة باعتباره عملا نسويا أستراليا حقيقيا رائدا. جميع لقطات الفيلم تقريبا تم تصويرها بالكاميرا المحمولة، وهو ما يتناسب مع المناخ العام المرح والمتحرك للفيلم. كما يتناسب ذلك مع الهدف المعلن للفيلم وهو إسعاد الجماهير. خيار استخدام الكاميرا المحمولة في الفيلم كان موفقا لأنه كان ملائما للشخوص التي كانت في
حالة حركة دائمة لا تنقصها العفوية. إن الإيقاع البصري المتحرك للفيلم وضحكات شخوصه المبثوثة هنا وهناك جميعها منحت إحساسا بالارتجال. يشير الارتجال في هذا السياق إلى الحرية التي أعطتها مخرجتا الفيلم للممثلات ليكنّ على طبيعتهن ويقدمن أنفسهن كما هن عليه بلا حواجز بشكل خلاق. إن التجريب في هذا العمل، فضلا عن أي شيء آخر، هو في إيجاد المتعة الذاتية لفريق من صانعات السينما النسويات أردن صناعة فيلم وسعين في ذات الآن إلى المتعة عبر أن يكنّ متحققات كذوات. لا يحتوي فيلم "هدفنا إسعادكم" على قصة تقليدية أو شخصيات تنمو وتتطور بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح. عوضا عن ذلك فإن السرد السينمائي للفيلم اعتمد على تقنية المونتاج الحر الشبيهة بأسلوب المونتاج الذي اعتمدته الموجه الجديدة في فرنسا. إنه من الواضح بجلاء أن الوصول للقطيعة مع أسلوب السرد السينمائي المتبع في السينما الرائجة (لاسيما سينما هوليوود) كان غاية استهدفتها صانعات الفيلم. فلِأنّ السينما الرائجة مسؤولة عن الصورة النمطية الذكورية عن الأنثى والتي تحتل الأفلام التجارية، فإن مجافاة أسلوب السرد الذي قاد إلى خلق هذه الصورة هي ضرورة لا محيص عنها لتحقيق الرؤى المغايرة لصانعات الفيلم. إن الأسلوب الذي اختارته روبين لوري ومارجوت ناش لصناعة فيلمهما لا يرتكز فقط على تقنية المونتاج، ولكنه يعتمد كذلك على جماليات سينمائية أخرى مثل الإضاءة والسرد واستخدام الكاميرا. فيما يتعلق بالسرد السينمائي للفيلم، فإن استخدام الأسلوب الشبيه بالارتجال (مثلما أوضحنا أعلاه) قد منح الفيلم حسّا من الطزاجة، وهو ما يومئ منذ النظرة الأولى للفيلم إلى أن ثمة ما هو مغاير بهذا الفيلم ولا بد أن لديه طرحا جديدا ليقدمه. على أية حال فإن المخرجتين كانتا واعيتين أن استخدام القصة التي بلا عقدة قد يؤدي إلى تشويش تركيز المشاهد، ولذا فقد اختارتا وجود ساردة في الفيلم (أو ربما جاز تسميتها معلِّقة أو معقِّبة) تقوم بين فترة وأخرى بقول شيء ما يحفظ المشاهدين من الضياع في غابة اللقطات والصور. كمثال على ذلك: ثمة لقطة مقربة في منتصف الفيلم تقوم فيها زجاجة بيرة (تحملها يد رجل، حيث البيرة كناية عن واحد من أكثر أفعال الرجال شيوعا) بتهشيم بطيخة مكتوب عليها "ضاجعني". الزجاجة تهشم البطيخة بغضب فيسيل عصير البطيخة كالدم مختلطا بأشلاء البطيخة الذي يبدو كاللحم الممزق. هنا يأتي صوت الساردة لتقول: "إياكِ أن تخطئي فتخلطي بين إفرازات التطور الرأسمالي وإفرازات العذاب الدائم"، فيرد صوت امرأة غير ظاهرة على الشاشة بحزم: "كلا لن أخطئ. لن أخلط". إن التعليق الصوتي يعمل هنا كموجّه للمشاهدين يقود اهتمامهم مجددا نحو الأفكار الرئيسية في الفيلم والتساؤلات التي يطرحها.
بالنسبة لاستخدام الكاميرا، فإنه تقريبا لم يتم استخدام الكاميرا الثابتة في أية لقطة من اللقطات، ذلك أن استخدام الكاميرا المحمولة يتيح للممثلات حرية أكبر للعمل. هذا الاستخدام السلس للكاميرا يذكّر بالبند الثالث من البنود العشرة لحركة دوجما 95 والذي يقول: " إنه ليس على التمثيل أن يتم حيث تتواجد الكاميرا، ولكن على الكاميرا أن تذهب إلى حيث يوجد التمثيل". إن فيلم "هدفنا إسعادكم"، بهذا المعنى، هو محاولة مبكرة لتخليص السينما من بعض الشوائب التي عَلِقت بها وحدّت من قدراتها الواسعة الأصيلة.
فيما يتعلق بالإضاءة، فقد عمل طاقم الفيلم على التجريب في الإضاءة لمشاهدة النتائج المختلفة التي تنتج عن استخدام إضاءات مختلفة. بعض الإضاءة المستخدمة في الفيلم يمكن النظر إليها باعتبارها ثمرة للتجريب الخالص. بعضها الآخر كان لعبا مرحا من قبل صانعات الفيلم، إذ كان شبيها بلعب الأطفال وهم يستخدمون مصباحا يدويا يصوبون إضاءته على وجوه بعضهم بعضا فيرون الوجوه وقد صارت مضحكة أو مخيفة وفقا لمصدر الضوء. لقد بدت الممثلات مستمتعات حقا باللعب بالإضاءة، وكانت ضحكاتهن وكركراتهن الجذلى مسموعة أثناء تعرضهن لإضاءات مختلفة. في نهاية المطاف، فإن فيلم "هدفنا إسعادكم" لم يهدف فقط لإسعاد جماهيره (لاسيما المشاهِدات النساء لأنه قدم لهن منظورا جديدا مغايرا للمنظور الذي يتم فيه عادة تقديم صورة المرأة)، بل كان الفيلم أيضا يهدف إلى إسعاد فريق العمل نفسه الذي قام بصناعة هذه التحفة الفنية الأسترالية المجهولة.
* تم نشر هذه المادة سابقًا في ملحق "أشرعة" الثقافي بجريدة "الوطن"، وحذفت منها بضع كلمات أثرت كثيرًا على المعنى. المادة بشكلها الحالي أجريت عليها تنقيحات وإضافات تختلف عن المادة المنشورة في "الوطن".
** الصور الأربع لقطات من الفيلم قام الكاتب بالتقاطها إلكترونيًّا من نسخة الفيلم التي بحوزته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق