سالم آل تويّه
إنها الثالثة وخمس وثلاثون دقيقة صباحًا في الجناح الأحمر رقم 3 ("الأمراض الباطنية رجال") بمستشفى جامعة السلطان قابوس.
العجوز النائم على السَّرير المقابل يئن ثانية. من يئن هنا ومن لا يئنّ؟. في اللَّيل يتزاحم الأنين من كل ناحية.
الستائر القصيرة المرفوعة تحجب الأسرَّة الأخرى، وتبين فقط خطوات الممرضين وعرباتهم وأرجل كرسيٍّ خارج نطاق سرير العجوز.
إبرة المحلول الوريديِّ على باطن ساعدي الأيمن، لكنْ يمكنني أنْ أُكيِّف رقدتي قليلاً وأحتال بطريقة ما على الألم وأكتب. أصوات الأجهزة صامتة الآن. الرغبة في الكتابة تأتي لأسباب عديدة بعضُها مفهوم وبعضُها يتلبَّسُه الهذيانُ بين نومةٍ وأخرى.
الأنين والهذيان والتأكيد والتخمين أسباب تلقائية تُبعِد المرضى عن دنيوية ما يحدث في الخارج. هنا قد لا تكون المسافة بينك وبين القبر بعيدةً إلا بمقدار الزمن الذي يستغرقه التثاؤب أو العطسة. حتَّى إنْ كنت صحيحًا مُعافَى قد يُحسَم مصيرُك بين أيدٍ لستَ بالنسبة إليها إلا وسيلةً للتجريب.
في الصَّباح، عندما جئتُ متعبًا متألِّمًا من بطني وأضلعي غير قادر على الوقوف، لم أجد موقفًا لسيَّارتي. كنت أقود السيارة كمن ينام على أحد جانبيه، مستشعرًا وهن الحُمَّى الخفيفة، غير قادر على الاعتدال. من موقف إلى آخر دون جدوى؛ كلها مملوءة عن آخرها. "تُوجَد مواقف إضافية أمام كلية التمريض"، وبالفعل كانت هناك سيارات قليلة واقفة فقط ومواقف شاغرة كثيرة، لكن عندما ذهبت اعترضني حاجز المدخل فعدت إلى مواقف المستشفى أبحث من جديد؛ لعلَّ سيَّارة ما خرجت قبل قليل أو ستفرغ موقفها توًّا. لم أصدق...
الجهاز الكهربائيُّ الملحق بالمحلول الوريدي يُصدِر الآن أصواتًا لم يُصدِرها طيلة الساعات الماضية منذ تنويمي في الجناح الساعة الرابعة مساء أمس تقريبًا!. هل هذا من جرَّاء الكتابة؟. هل عليَّ أن أتوقَّف الآن؟.
لأتوقَّف وأحاول النَّوم في هذا الفجر الملفوف بالقطن وروائح الأدوية إن استطعت.
04:04 اث 24/05/2010م
نوم أشبه بنوم العجائز؛ نوم متقطع، في أي وقت، وسط مداولات الأطباء وطلبة كلية الطب واحتجاجات الأوجاع، وفي الخلوات المحمية بالستائر.
لم أصدق خلو مساحة بين سيارتين تقفان عند منعطف. هيّأت سيارتي لأقف هناك غير منتبه إلى سيارة أخرى أمامي تُحاوِل العودة إلى الخلف للوقوف في المكان نفسه، غير منتبه إلا بعد فوات الأوان إلى انطفاء أنوار العودة إلى الخلف البيضاء وانصراف السيارة. الألم أعمى لا يرى إلا ما يستعجل قطع دابره.
حسب تعليمات طبيب "مستشفى بدر السماء" الذي كتب خطاب التحويل إلى مستشفى الجامعة توجهت فورًا إلى الطوارئ. كان الألم قويًّا يجعلني أواجه صعوبة في نصب قامتي. ناولت خطاب التحويل موظفًا خلف نافذة خلفها جهاز حاسوب. سألني: "هل عالجتَ هنا من قبل؟". "لا" –أجبته، ثم استدركت- "زمان، عندما كنت طالبًا. تخرجت عام 1995". ناولته بطاقتي الشخصية.
تغيرت الجامعة كثيرًا.
كأيِّ مشروعٍ عُماني آخر مخططه لا يتجاوز الرؤية أبعد من أنفِ مسؤولٍ لصٍّ في أغلب الأحيان أو غبيٍّ في أفضلها لم تصمد الجامعة كثيرًا أمام التحولات.
كان عددُ السُّكَّان ينتظر سنواتٍ قليلةً فقط ليزيد عددَ الطلبة فجأة بشكل لم تعهده البلاد، وهو ما أدى إلى التخطيط والبناء مجددًا لزيادة المرافق والكليات والشوارع.
في المنتصف الأول لعقد التسعينيات الماضي كنا نذرع الجامعة مشيًا على الأقدام من سكن الطلبة دائرين حول الكليات والمسجد ومتجر الفير وسكن الطالبات والمستشفى، وبين مساكن هيئة التدريس والعمال والممرضات. الآن بعد الخشية من وعي الطلبة الذكور بالتحديد، وبعد عدة مظاهرات ونقمات عالية الصوت، وكي لا يتكاثر التجمع والمظاهرات وتنسحق تمامًا أكاذيب الدولة تحت أقدام أحلام التغيير، أُخرِج جميع الطلبة الذكور من السكن الداخلي ليُقصَر على الطالبات فقط. الآن تشابكت الشوارع، زاد عدد المباني، لكن ألمي فرش الخريطة القديمة في رأسه مستدلًّا بما مضى وحده، وكأن التلفيق الحديث ليس بتلك الكثرة، وهو كذلك في نهاية المطاف في بلد يُحرَم أغلب مواطنيه مواصلةَ التعليم الجامعي حتى في الخارج، ويُبارَك نهب اللصوص أصحاب رؤوس الأموال باسم الجامعات الخاصة لتمتص جيوب الفقراء وأعصابهم إلى يوم القيامة.
- هل كان رقم بيتكم في الشرقية يبدأ هكذا ...481؟.
- 193 نعم يا أخي.
- ما زال رقمك موجودًا.
هل صحيح أنني أصبحت على مشارف الأربعين؟.
سنتان فقط تفصلاني عن صعود السُّلَّم وكسرِه للأبد –ككل السنين التي عبرت في قطار الصحراء الأجرد.
لولا القوة التي يمنحنا إيَّاها التأمُّل والغموضُ اللَّامتناهي، لولا السنون التي تنعجن خبرةً في الروح والعظم والدم والجلد، لما واصلنا صعود السُّلَّم ولما كسرنا أسفله على الدوام. ديدنُ الحياة الذهابُ دومًا وليس العودة.
أحيانًا يفقد الحنين إلى الماضي كل معنًى وصِفة. طالما عشتُ حياتي بصدق مُرٍّ، لذلك لا حنين ينتابني إلى أيِّ ماضٍ ما دام طائشًا جلَّابًا للغمّ. ومهما شطَّت المسافة لا يكون الغفران ها هنا إلا سذاجةً ومازوشية مع سبق الإصرار والتَّرصُّد. النسيان يُوقِف ميوعة العواطف أو تدفقها بجميع الصور، حتى لا يعود ثمة مفتاحٌ ولا طريق ولا دليل ولا إشارة.
أيها المُضارِعُ أنا في قلبك، أنتَ في قلبي.
بعد أن كتب لي الموظف رقمي القديم، تحت اسمي، على ورقة طلب إليَّ دخول الغرفة التي خلفي مباشرة. من الشباك رأيت ممرضًا ملتحيًا يقرأ القرآن حالما دخلت وضع المصحف على الطاولة دون أن يضع شيئًا على الصفحة التي توقف عندها. خمنت أنه يحفظ رقم الآية والسورة أو الصفحة. سألني -مرَّةً أخرى- عن اسمي وعمري!. أجرى فحصًا للأكسجين والضغط والحرارة سجل نتائجه على ورقة سلَّمني إيَّاها لأسلمها إلى حارس قسم الطوارئ الذي طلب مني الانتظار على مقاعد انتظار الرجال.
كان هناك خمسة شرطة يتحلقون حول شاب بدا أنه سجين.
لم يستغرق انتظاري دقيقة!. ناداني حارس الطوارئ. كان ألمي في الصدر والبطن قد بلغ مداه، ولانسداد أيِّ منفذ لتخفيف كربته ضرب الظهر وجانبي الخصر.
16:09 اث 24/05/2010م
أخبرني الحارس بأن أسلك يمينًا حتى نهاية القاعة الكبيرة. ضللت الطريق قليلاً. رأيت الممرض المطوَّع الذي سجَّل بياناتي واقفًا يُحادث شخصًا. حيَّاني. سألت. ردت ممرضة مشيرة إلى الناحية التي عليَّ الانعطاف من خلالها. استقبلني هناك ممرض فيلپيني. بدأت فحوص الطوارئ وإبرة المحلول الوريدي الأول وعينات دم عديدة اندحقتْ إحداها وجعلت الممرض يطلق صرخة قبل أن يسيطر على الوضع ويتحكم في خروج الدم من وريدي ويقوم بعملية التنظيف.
ثم جاءت طبيبة سألتني عشرة آلاف سؤال. ثم أُجرِيتْ لي أشعة سينية، واقفًا ونائمًا، للظهر والبطن. يظهر الممرض ويختفي ويظهر لإجراء فحص جديد: الحرارة، الضغط، الأكسجين، تخطيط القلب. بين وقت وآخر أنام وأصحو مستسلمًا ليديه الخشنتين أحيانًا ومنذ البداية حين غرز إبرة بذراعي اليمنى ركَّب فوقها أنبوب المحلول الوريدي.
فهمت ممن مر عليَّ وفحص بطني مرارًا وتكرارًا أنهم لن يستطيعوا تشخيص مرضي إلا بعد إجراء أشعة مقطعية.
عند الرابعة عصرًا قرروا نقلي إلى جناح الأمراض الباطنية للتنويم أيامًا لم يُحدِّدوا عددها. قالوا إن أسرَّة الجناح مملوءة عن آخرها بالمرضى. نقلوني إلى "غرفة الملاحظة" ذات الأسرة العديدة لكنني كنت المريض الوحيد فيها ساعتها. جلست على كرسي متحرك دفعته ممرضة أعادت وصل المحلول الوريدي بذراعي بعد أن استلقيت على سرير غرفة الملاحظة. طيلة الأوقات التي كنت فيها وحدي قمت بكتابة بعض الرسائل الهاتفية بيدي اليسري والرد على العاجل منها وبعض المكالمات. هنا –في غرفة الملاحظة- أصبح الحال مواتيًا أكثر لإجراء المكالمات. كان الألم يعصر أحشائي لكن قوَّته تتقهقر. جاءت ممرضة هندية بكرسي متحرك. مرة أخرى أبطلت سريان المحلول وفصلت الأنبوب عن الإبرة المغروزة بذراعي. دفعت الكرسي عابرة بي مسافة طويلة من الطابق الأرضي حيث الطوارئ عبر أبواب وممرات عديدة، ثم بالمصعد حتى الطابق الثالث حيث الجناح الأحمر رقم 3.
لأول مرة في حياتي يحدث لي هذا: أُقاد كل هذه المسافة على كرسي متحرك، ولا أمشي على قدميّ!. أخافني هذا الأمر. نعم إنني مريض الآن وهذا ما أخافني. وما أخافني بالتحديد أسئلة الممرضة وهي تدفع الكرسي: هل أنت متزوج؟. لا، لماذا؟. من الأفضل أن يكون معك أحد يرعاك. هل حالتي خطرة؟. تردَّدت الممرضة في إجابتها، ثم إن إنجليزيتي لم تسعفني لأفهم الحِكَم التي تفوَّهت بها، وكل ما ترسَّخ في رأسي خوفٌ عاتٍ من أنني مصابٌ بمرض عضال يحفر لي قبري وأنا لمَّا أبلغ الأربعين بعد. أخافتني الممرضة حين قالت إن الأشعة المقطعية ستبين إن كنت بحاجة إلى عملية... عملية؟!. ياللهول، واستيقظ في رأسي ما قاله لي صديقٌ عن مستشفى الجامعة مؤخرًا: مستشفى الجامعة ألعن من المستشفى السلطاني بمئة مرة فيما يتعلق بـ"الجرائم" "الطبية"!. ساردًا لي كيف كادوا يقتلون زوجته بعملية جراحية أعاد إجراءها لها ثانية على حسابه في أحد المستشفيات الخاصة.
فكرت أن التاريخ يعيد نفسه ألف مرة في بلد متخلف كبلدي يمتلك من المظاهر ما يجعله يبز اليابان والقارة العجوز وأمريكا وأستراليا وجوهرُه سفَّاحٌ أعمى. كثيرون في وزارة الصحة يؤكدون أن نوعية الأدوية المصروفة للناس "العاديين" تختلف عن تلك المصروفة للناس "غير العاديين"!. يا إلهي، حتى هذا أيضًا!.
فكَّرت أيضًا أنني ربما أواجه مصير أيّوب نفسِه/الشخصية المحورية في روايتي التي لم تر النور بعد. وعندما توقفت بي الممرضة عند سريري الجديد في جناح الأمراض الباطنية، وأسدلت الستارة حولي، امتلأت نفسي بالسكينة والسلام: السنوات التي عشتها تكفيني. سأرحل عن هذه الحياة دون ندم... وإذ بي لا أستطيع إيقاف انهمار الدموع، أمسحها بيدي اليسرى فتزداد انحدارًا.
04:10 ث 25/05/2010م
عندما جاء ممرض فيلپيني ليأخذني بالكرسي المتحرك إلى غرفة الأشعة المقطعية كانت الدموع لم تجف تمامًا بعد؛ بظاهر يُسراي الخالية من محقن الإبرة مسحتها في الممر دون أن أفلح في إخفائها تمامًا. كان نفق النهاية يبتلعني، ولم أكن أنتظر إلا أن أستلقي آخر مرة وتُظلِم الدنيا وتُفارِق روحي جسدي المؤقَّت. لكن أيضًا كان قد مر وقت أصبحت فيه نفسيًّا أتأرجح بين القناعة والغضب. بعثت عدة رسائل إلى أهلي حدَّدت فيها المقبرة التي أريدهم أن يدفنوني فيها، لأنني خشيت ألا يُحالفني الحظ، واعتبرت كل إجراءات فحصي شروعًا في عملية قتل اشتهر بها المستشفى إزاء أغلب مرضاه، انطلاقًا من مَقْتَلِ الأطباء في عُمان: الخطأ في التشخيص، وبالتالي في كل شيء، وتحويل البسيط عقدةً لا يحل لغزها إلا الموت.
كان عليَّ أن أبعث برسالة عاجلة إلى امرأة لن أقول لها الحقيقة كاملةً (الحقيقة انطلاقًا ممَّا قالته الممرضة الهندية وممَّا أثاره قولها من تخوُّفات وأوهام)، إلا أن مجيء الممرض الفيلپيني قطع عليَّ كتابة تلك الرسالة الهاتفية.
11:42 ث 25/05/2010م
الآنَ أطيافٌ وروائحُ وأصواتُ بكراتِ ستائرَ تُزاح، وتلك اللوحة المعلقة فوق سريري، اللوحة التي لم ألحظها إلا بعد ساعاتٍ، أو بعد يوم، قبل اختفائها في يد إحدى الممرضات: "لا شيء عن طريق الفم". ثلاثة أشهر مرَّت وعلامة إحدى الإبر لا تزال دائرةً سوداء على راحة ساعدي الأيمن. بين حين وآخر لا يزال وخز إبرة في العضل يؤلمني بقوة خاطفة تعبر في أجزاء من الثانية وكأنها تُحقَن توًّا خطأً في المكان الخطأ، لكنني لم أمت!؛ شفيت من التهاب البنكرياس. أتذكر أن اثنين من الأطباء قالا: الحمد لله أن البنكرياس لم ينفجر. !. هل كانا يمزحان؟!، ومع ذلك، وبرغم ما قاله صديقي من أن المصادفة وحدها السبب في خروجي حيًّا، مع ذلك أشكرهما من أعماق قلبي.
لينبتَّ بعضُ الأفكار والأحداث عن تتمَّة السِّياق. ما ألذ "لقمة القاضي" بالعسل في إفطار هذا اليوم.
سأذهب لأمشي قرب البحر.
19:15 س 21/08/2010م -الموالح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق