01 مايو 2012

وثامنهم كلبهم...


عادل الكلباني

إلى أحمد الزبيدي... أيضا

   سأبحث عن مصحة فما أعانيه لا يستطيع فرزه والشفاء من هلوساته الا طبيب نفسي، هذه التصرفات التي اراها كل يوم من كل الوجوه تجعلك تمتعض وربما تحاول ان تنتحر بمقص، هل سمعتم عن انسان انتحر بمقص؟، سأقص كل شيء من الذاكرة الوجوه والتاريخ والذكريات، وسألقي بها في المهملات، لم اناقش احدا في الامر حتى الآخ ابو الغالية  الذي لم ألتقه منذ خمسة شهور الا بالرسائل، عالم افتراضي الكل يسبح فيه بحمده، هذا الانسان فقط اذا جمعنا لقاء تناقشنا عن الثقافة والادب، عن المثقفين في عمان الذين كانوا احد الاسباب التي ألجأتني مؤخرا للمصحة، لا تستعجلوا سيأتي دور هؤلاء المذبذبين لاحقا، المهم ان لا احد في هذا البلد مهتم بثقافة  او ادب، عدا هذا الآخ الذي تمر اشهر ولا اراه.

***

    ضربت  موعدا للعيادة النفسية، وفي الصباح الباكر دخلت المستشفى مباشرة اليها، ماذا لو رآني أحد من البلد؟ ....  خبر عاجل، خبر عاجل، عادل  تجنن (هيقولوا ما لايمه فيه وهم يسخرون بشماتة) (احنا قلنا هيتجنن) من قراءة الكتب والكتابة التي لم  يحصد منها  الا الكره والضغينة، خاصة من بشر امقتهم، وامقت تجبرهم واستعلاءهم الفارغ على الناس، خشومهم في السماء لكنهم لن يخرقوا الارض ولن يبلغوا الجبال طولا، وليس لهم فضل على احد (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى).

***

    جلست في قاعة الانتظار لم يكن غيري فيها، كان عند الطبيب مواطن يشكو الكآبة والضيقة والغضب، لو تحافظ على اخذ الدواء باستمرار لما تكررت هذه الحالة النفسية التي تعاني منها قال الطبيب له وهو يكتب وصفة اخرى للمريض، طافت في ذاكرتي حالة المواطن المسكين، في المنزل يخشى الزوجة من نظرة او بسمة او خطأ او نسيان، في المسجد يخشى الإمام من أن يراه متقدما او متأخرا في الصف، في المكتب يخشى الحكومة من ان يخونه لسانه الثرثار ويورده المهالك، فابتسمت... لم يكن الفاصل بيننا الا باب الطبيب المفتوح على القاعة، اعاد الطبيب النصح كرة اخرى للمواطن، وهو يدلف خارجا من الباب، وبعد فترة سمعت احداهن تناديني وانا  انظر اليه وهو يغيب بعيدا في الزحام، نهضت واتجهت صوب الطبيب، واغلقت الباب ورائي، ألقيت السلام عليه ونظر الي نظرة تعجب عن الباب المغلق ربما، وعندما رد السلام قلت له: من فضلك دكتور انا  ضربت موعدا معك منذ اكثر من شهر، وارجو ان يتسع صدرك لي، ولقد اغلقت الباب ليكون حديثا بين صديقين، قبل ان اكون مريضا بكل الامراض النفسية التي عرفها ابن سيرين في احلامه او فرويد في نظرياته، سأقص عليك باختصار بعض من المواقف التي مرت في حياتي، كحياة عامة لمجتمع، لعلك تفكك الاحداث، وتجد لي في باطنها ما يؤدي الى الخلاص.

(1)

    احدهم التقاني كالثور الهائج يهدد ويتوعد ويزمجر لأن كتابا صدر لي العام الماضي اساء اليهم كما يعتقد، دون تمحيص او معرفة للحقيقة، وعلى حماقتي ووقاحتي ولا اسمح لمخلوق بأن يسيء إليّ دون وجه حق، الا اني لم اعامله بالمثل. امتصصت صدمته كالاسفنج وهدأت خاطره وهو يفح بالغضب كأفعى رضت على الرأس ولم يبق منها قبل خروج الروح عدا الناب والسم.

(2)

هذا الرجل الذي كنت اوقره واحترمه في الطفولة بل كنت اعتبره مثلا في حياتي، حتى اني كنت اقلده في اكثر تصرفاته التي كان يقوم بها استهزاء وسخرية بالآخرين، فجفاج(1) لا يرى غيره في الشهامة و الشجاعة - بالصوت العالي طبعا-، هذه الشخصية لعبت دورا سلبيا في  حياتي، فحين توالت الايام انكشفت الحقيقة ساطعة كالشمس، للأسف لم يكن له  دور بارز في اصلاح المجتمع ومساعدة الناس كما يدعي في اراجيفه بل على العكس تماما لم يكن له موقف او مبدأ في حياته، الا مصلحته الشخصية، ما يقوله اليوم ويحلف عليه بأغلظ الأيمان ينقضه غدا بكل برود، ليعيد تشكيل نفسه  كالحرباء حسب الفصول والمواقيت.

(3)

    في السابق كان لي كالعنصر الذي لا يمكن الاستغناء عنه، لم اصاحب انسانا في حياتي مثله، اشتاق واحن اليه  اذا سافر او غاب احس ان الدنيا خالية بدون هذا الرجل، لكن ولله الحمد اتأقلم مع أحزان الجرح والغياب، لا اقول ان ذلك لن يترك اثرا في نفسي المأهولة بالخيبة والخيانة والانكسارات، ولكن سيكون كأثر لحريق ضار في الجسد منذ عهد بعيد، وما تبقى منه الآن بعد لسعة  النار سوى وشم للذكريات.

(4)

    معادلة صعبة ومعقدة هذه الحياة، فالانسان الذي كنت تعتبره مهما في حياتك يتحول امام عينيك بمواقفه واسلوبه وتصرفاته كي يسلخ جلده متحولا الى انسان آخر لا يمت بصلة لما كان يقوله ويدعيه سابقا وينسلخ منها، ويمارس عكس الحب والحنين الذي تكنه في قلبك له اثر هذا المسخ المتحول اليه، لا يمكن بأي حال من الاحوال لمثلي بالطبع ان يطيقه او يهضمه او يستوعبه، بل سيحدث ما هو طبيعي في مثل هذه الحالة، ان ترمي بكل اسماله وذكرياته وآخر احترام له في اقرب برميل للزبالة.

(5)

    لقد حزنت من تصرفات هذا الرجل وكيف تحول اخيرا الى مهرج او اراجوز، لا شوقا اليه او حبا فيه كالسابق ولكن ابكي خسارة العمر الذي مر مع فزاعة  كهذا مفتون به حتى الهوس دون موقف او مبدأ للذكر في دنياه.

(6)

     ادعى فارسهم – وهو لا يقرأ في السنة كتابا- أن  بمقدوره أن يكتب عشرات الكتب كالتي اكتبها، وكاتب مغمور مثلي يمارس أبجديات الكتابة كشفاء له من هذا التشظي والتمزق الذي وصل منتهاه يمارس نحت الالم والحزن والضياع و العذابات تفجيرا لما في نفسه من قلق يعتريه ويسكن فيه... كي يهدأ ربما، بعد ان يرسم من دمه صورا لدمار يتكرر على مستوى الإنسان والوطن...، ثم يأتي هذا الشبيه الذي لا ينقصه الا قرنان فوق  رأسه، ويدعي ذلك لحاجة في نفسه، فستلعن نفسك والثقافة المقرفة ألف مرة التي اوصلتك لأن يتندر عليك مخلوق كهذا.

(7)

    من مفارقات الكتابة وجحيمها ان صدمني ابو نظارة  بسيارته في الشارع، وحين قلت له (الحبيب تراك دعمتني) قال لي (انت ما تسوالي ادعمك)، وهذه ليست زلة لسان بالطبع، فالعقل الباطن لهذا  الغر وما فيه من تراكمات موروثة بالدونية للآخرين يجعله ينظر الي كحشرة، بشر يعانون من الشيزوفرينيا مخلوطة بالبرانويا ويصدرونها لاجيالهم  في جيناتهم بمتوالية هندسية وراثية تدعو للدهشة والاستغراب،  لكن والحق يقال ان ابو نظارة الذي لا تفوته صلاة في المسجد ويرحل الى  العمرة كل اسبوعين جاء واعتذر وطبعا قبلت اعتذاره...  لكن ليس بمقدوري البتة ان انسى قوله ما حييت، بينما احدهم حين يلاقيني يأخذني بالأحضان والخشوم وبسمته تملأ الوجه وحين يروغ  كالثعلب عني ويجتمع بأخلائه يحرضهم ضدي ويكيل ما يحلو له من تصغير واحتقارات.

 (8)

    في حفلة حضرتها في فندق مع بعض الشعراء دخلنا البار والمرقص، كانت كؤوس البيرة والخمر تفوح في المكان. (موه تشرب ابو الشباب) قال احدهم  ونحن نجلس على طاولة قريبة من الراقصات، قلت له (نسكافيه) بصوت عال لكن من الضجيج والصخب والرقص لم يستلم الرسالة، اقتربت من اذنه وصرخت فيها (نسكافييييييييه)، ابتسم  صاحبنا، ولم يعلق، خاطبته بأنني رجل يمشي اصلا كالسكران – بحكم الاعاقة – فكيف اذا اغرورقت عيناه بالخمر؟ فضحك كثيرا، متذكرا ربما بأني اخمع كالضبع، خرجنا من البار الساعة الثانية عشرة فجرا، وافترقنا عند باب الفندق، عندما وصلت الى الشقة، ذهبت مباشرة للوضوء ابسمل واحوقل واستغفر الله واصلي العشاء قصرا سفرا موجها وجهي للذي فطر السماوات والارض حنيفا وما انا من المشركين.

----------------------------------------------------

1) الفجفاج: كثير الكلام المتباهي بما ليس فيه.
2) مثل عماني... الذي يخلط لك الحديث دون رابط، فيصبح كلامه غيرمفهوم.

ليست هناك تعليقات: