الكاتب محمود الرحبي |
محمود الرحبي
إن إخفاء الوجه القبيح للمال غدا سمة عصرية مألوفة وضرورية لدى معظم رجال الأعمال في العالم، وذلك بأن يتبرعوا بسخاء لإحياء وتفعيل مناشط ثقافية وفنية وترفيهية واجتماعية وإنسانية، وبصورة بدت عجيبة ومحمومة وتنافسية، حتى إنه بلغت كمية المبالغ التي تبرع بها بعض الأثرياء ما يساوي ميزانيات دول بأكملها.
لماذا يفعلون ذلك يا ترى؟ في رأيي ثمة أسباب كثيرة من أهمها أن المال بطبيعته قبيح ومربوط بالجشع والاحتكار والشره والتنافس، فلا بد بالتالي من زراعة مساحات خضراء حوله، مساحات عطرة يمكن لأريجها أن يخفي ولو قليلا نفاذ تلك الرائحة العطنة.
في بلادنا المسألة تخضع لاستثناءات كثيرة. حتى أولئك الذين استفادوا من سخاء الدولة، بل كانوا يوما ضمن أركانها، وغدوا أثرياء ومترفين ومنعمين، عندما يأتي الأمر للتبرع، حتى بالقليل القليل من المال، ترى أياديهم مغلولة، وأصابع راحاتهم منقبضة.
لم أسمع إلا فيما ندر عن تاجر عماني، وما أكثر تجار عمان وأثرياؤها، بأنه تبرع بقسم يسير من ماله على وقف نشاط ثقافي أو فني أو حتى ترفيهي، إلا من ندر منهم ورحم ربه، وإذا تبرع فإنه مرات معدودة، وذلك لانتفاء نية قصد الاستمرارية، بيد أن هذا المشروع لن يكتب له الاستمرار بدون وقوف المال إلى جانبه طويلا، ورعايته كما يرعى الشجر المثمر.
أذكر أني زرت مرة مؤسسة العويس، صاحب جائزة العويس الثقافية الشهيرة، كنت أحسب بأن تبرعات صائد اللؤلؤ الثري تقتصر على الجائزة وقيمتها المجزية فحسب. ولكني انبهرت حين علمت بأن سخاء التبرع عنده يمتد إلى مشاريع كثيرة ضمنها مكتبة عامة للطلبة والقراء والباحثين، مزودة بمقهى مجاني، ناهيك عن الكثير الكثير من المدارس والمنح ومما لا حصر له من تبرعات تركت الناس يلهجون باسمه وبحسناته حتى بعد رحيله بسنين. وقد أصبحت الآن جائزة العويس ترعى نفسها بنفسها، حيث أوقفت –مع الوقت- لنفسها مشاريع استطاعت بموجبها، ليس أن توظف الكثير من القوى العاملة فحسب، إنما أن تدعم كل مشاريعها المقبلة وتفرعت الجائزة بسبب هذه الأرباح. ورغم أن الجائزة اكتفت بأرباحها لكن بقي اسم العويس- صاحب الفكرة والنية– خالدا بخلود الجائزة، ومقترنا ذكرها بذكره، ومشعا إلى جميع أنحاء العالم العربي. وذلك من خلال جائزتها القيمة ماديا ومعنويا. هكذا تكون الحسنة بعشر أمثالها حتى على الأرض، فالخير الذي تتضاعف حسناته عشرات المرات يغدو مع الزمن لانهائيا، وحسناته لانهائية في عدها دنيا وآخرة.
وعلى سبيل مثال العويس، وثمة أمثلة عربية كثيرة: مؤسسة كومار للتأمين في تونس، وبنك الوفاء في المغرب، ومؤسسة شومان في الأردن.. إلخ. وليس هذا المقام المناسب للحصر. ولكني أطرح تساؤلا ملحا، يدور في أذهاننا منذ عشرات السنين، وهو أين أمثال هؤلاء في بلادنا؟.
سيكون من المجحف طبعا إنكار العديد من أصحاب الأعمال الذين يتبرعون في السر، ولكن أين هم أصحاب المشاريع الخالدة الولودة، ذات الرحم الخصبة التي تتوالد خيراتها بدون انقطاع أو توقف. فجمعية الكتاب والأدباء على سبيل المثال لا الحصر – وأنا عضوا فيها- تستصرخ بصمت، بأن ليس في خزينتها ما يكفي لإحياء مؤتمر ثقافي ذي شأن، أو لدعوة مثقف هو صديق لعمان ومحب لتاريخها وحاضرها، مع عدم إخفاء الجهد المضني الذي يبذله رئيسها محمد العريمي، ورؤساء وإداريون سابقون لهذه الجمعية الدائر أعضاؤها كل سنتين.
ثمة وجوه كثيرة للمال، هناك من يحسن ثروته بالذكر الحسن والتبرع والإنفاق اللامحدود. هناك من يسرح ماله في الخير وسد الحاجات بأنواعها، ولكن بالمقابل هناك من يقبضه كل القبض، ويدفنه كما تدفن الجثث.
ما يحتاج إليه كل عمل معرفي أو ثقافي هو ما يحتاج إليه تاريخ المكان وتصريف طاقاته في حقول البحث والعمل والإبداع والنماء المعرفي المتكامل. ما تحتاج إليه المناشط الثقافية هو ما يحتاج إليه الوعي، وما يحتاج إليه الوعي هو ما يحتاج إليه العقل، وما يحتاج إليه العقل هو ما يحتاج إليه الرضيع في مهده.
هناك حكمة عمانية قديمة ترى أن البخيل إذا اغتنى فجأة فإنه يحتاج إلى أربعين عاما حتى يظهر غناه عليه، ويحتاج إلى أربعين عاما أخرى حتى يظهر غناه على غيره.. ولا بد أن هذا المثل الساخر يقصد به الأغنياء البخلاء، والمثل يشتد ويمتد ويتمادى في سخريته حين يجعل هؤلاء الأثرياء يستمتعون بغناهم وهم في أراذل العمر، ثم يستمتع غيرهم بغناهم حين يتحولون إلى عالم الغيب.. وإلى جانب هذه الحكمة هناك مثل عماني ساخر يقول: "مال البخيل ياكله العيار". والمثل لا ريب يقصد به البخيل الغني، فصفة البخل لا تطلق عادة إلا على صاحب مال، أي البخيل بماله، ولكن كان جزاؤه أن يسلط على هذا المال المقبوض والمدفون فتى أو صبي عيار عابث، يظهر فيما بعد، أي بعد أن يوارى صاحب المال التراب، أو ربما قبل ذلك بقليل، أي أن ما كان (مدفونا من مال يظهر فجأة بسفور ويبذر ويعبث به بدون حدود، وصاحبه مدفون أو في طريقه إلى الدفن) وربما ذلك القدر المنتقم يبرز نكاية بصاحب المال البخيل. وعقابا على قبضه وبخله. فما أكثر القابضين أموالهم في بلادنا، وما أكثر العيارين الذين ينتظرون بفارغ الصبر.
كتب الكثيرون عن هذا الأمر. وأبرز من أتذكره في هذا السياق الأستاذ أحمد الفلاحي الذي أفرد لهذا الموضوع أكثر من مقال، داعيا وحاثا أصحاب المال أن يدعموا جميع حقول المعرفة في بلادنا، وأن يتبنوا جوائز ويوقفوا مجالس خير ومنفعة عامة، ولكن كل ذلك لم يلق استجابات واضحة، فخزائن المعرفة والبحوث والأدب ظلت فارغة تستصرخ بصمت، بينما خزائن المال تصرف بسخاء في الهواء الطلق.
إن إخفاء الوجه القبيح للمال غدا سمة عصرية مألوفة وضرورية لدى معظم رجال الأعمال في العالم، وذلك بأن يتبرعوا بسخاء لإحياء وتفعيل مناشط ثقافية وفنية وترفيهية واجتماعية وإنسانية، وبصورة بدت عجيبة ومحمومة وتنافسية، حتى إنه بلغت كمية المبالغ التي تبرع بها بعض الأثرياء ما يساوي ميزانيات دول بأكملها.
لماذا يفعلون ذلك يا ترى؟ في رأيي ثمة أسباب كثيرة من أهمها أن المال بطبيعته قبيح ومربوط بالجشع والاحتكار والشره والتنافس، فلا بد بالتالي من زراعة مساحات خضراء حوله، مساحات عطرة يمكن لأريجها أن يخفي ولو قليلا نفاذ تلك الرائحة العطنة.
في بلادنا المسألة تخضع لاستثناءات كثيرة. حتى أولئك الذين استفادوا من سخاء الدولة، بل كانوا يوما ضمن أركانها، وغدوا أثرياء ومترفين ومنعمين، عندما يأتي الأمر للتبرع، حتى بالقليل القليل من المال، ترى أياديهم مغلولة، وأصابع راحاتهم منقبضة.
لم أسمع إلا فيما ندر عن تاجر عماني، وما أكثر تجار عمان وأثرياؤها، بأنه تبرع بقسم يسير من ماله على وقف نشاط ثقافي أو فني أو حتى ترفيهي، إلا من ندر منهم ورحم ربه، وإذا تبرع فإنه مرات معدودة، وذلك لانتفاء نية قصد الاستمرارية، بيد أن هذا المشروع لن يكتب له الاستمرار بدون وقوف المال إلى جانبه طويلا، ورعايته كما يرعى الشجر المثمر.
أذكر أني زرت مرة مؤسسة العويس، صاحب جائزة العويس الثقافية الشهيرة، كنت أحسب بأن تبرعات صائد اللؤلؤ الثري تقتصر على الجائزة وقيمتها المجزية فحسب. ولكني انبهرت حين علمت بأن سخاء التبرع عنده يمتد إلى مشاريع كثيرة ضمنها مكتبة عامة للطلبة والقراء والباحثين، مزودة بمقهى مجاني، ناهيك عن الكثير الكثير من المدارس والمنح ومما لا حصر له من تبرعات تركت الناس يلهجون باسمه وبحسناته حتى بعد رحيله بسنين. وقد أصبحت الآن جائزة العويس ترعى نفسها بنفسها، حيث أوقفت –مع الوقت- لنفسها مشاريع استطاعت بموجبها، ليس أن توظف الكثير من القوى العاملة فحسب، إنما أن تدعم كل مشاريعها المقبلة وتفرعت الجائزة بسبب هذه الأرباح. ورغم أن الجائزة اكتفت بأرباحها لكن بقي اسم العويس- صاحب الفكرة والنية– خالدا بخلود الجائزة، ومقترنا ذكرها بذكره، ومشعا إلى جميع أنحاء العالم العربي. وذلك من خلال جائزتها القيمة ماديا ومعنويا. هكذا تكون الحسنة بعشر أمثالها حتى على الأرض، فالخير الذي تتضاعف حسناته عشرات المرات يغدو مع الزمن لانهائيا، وحسناته لانهائية في عدها دنيا وآخرة.
وعلى سبيل مثال العويس، وثمة أمثلة عربية كثيرة: مؤسسة كومار للتأمين في تونس، وبنك الوفاء في المغرب، ومؤسسة شومان في الأردن.. إلخ. وليس هذا المقام المناسب للحصر. ولكني أطرح تساؤلا ملحا، يدور في أذهاننا منذ عشرات السنين، وهو أين أمثال هؤلاء في بلادنا؟.
سيكون من المجحف طبعا إنكار العديد من أصحاب الأعمال الذين يتبرعون في السر، ولكن أين هم أصحاب المشاريع الخالدة الولودة، ذات الرحم الخصبة التي تتوالد خيراتها بدون انقطاع أو توقف. فجمعية الكتاب والأدباء على سبيل المثال لا الحصر – وأنا عضوا فيها- تستصرخ بصمت، بأن ليس في خزينتها ما يكفي لإحياء مؤتمر ثقافي ذي شأن، أو لدعوة مثقف هو صديق لعمان ومحب لتاريخها وحاضرها، مع عدم إخفاء الجهد المضني الذي يبذله رئيسها محمد العريمي، ورؤساء وإداريون سابقون لهذه الجمعية الدائر أعضاؤها كل سنتين.
ثمة وجوه كثيرة للمال، هناك من يحسن ثروته بالذكر الحسن والتبرع والإنفاق اللامحدود. هناك من يسرح ماله في الخير وسد الحاجات بأنواعها، ولكن بالمقابل هناك من يقبضه كل القبض، ويدفنه كما تدفن الجثث.
ما يحتاج إليه كل عمل معرفي أو ثقافي هو ما يحتاج إليه تاريخ المكان وتصريف طاقاته في حقول البحث والعمل والإبداع والنماء المعرفي المتكامل. ما تحتاج إليه المناشط الثقافية هو ما يحتاج إليه الوعي، وما يحتاج إليه الوعي هو ما يحتاج إليه العقل، وما يحتاج إليه العقل هو ما يحتاج إليه الرضيع في مهده.
هناك حكمة عمانية قديمة ترى أن البخيل إذا اغتنى فجأة فإنه يحتاج إلى أربعين عاما حتى يظهر غناه عليه، ويحتاج إلى أربعين عاما أخرى حتى يظهر غناه على غيره.. ولا بد أن هذا المثل الساخر يقصد به الأغنياء البخلاء، والمثل يشتد ويمتد ويتمادى في سخريته حين يجعل هؤلاء الأثرياء يستمتعون بغناهم وهم في أراذل العمر، ثم يستمتع غيرهم بغناهم حين يتحولون إلى عالم الغيب.. وإلى جانب هذه الحكمة هناك مثل عماني ساخر يقول: "مال البخيل ياكله العيار". والمثل لا ريب يقصد به البخيل الغني، فصفة البخل لا تطلق عادة إلا على صاحب مال، أي البخيل بماله، ولكن كان جزاؤه أن يسلط على هذا المال المقبوض والمدفون فتى أو صبي عيار عابث، يظهر فيما بعد، أي بعد أن يوارى صاحب المال التراب، أو ربما قبل ذلك بقليل، أي أن ما كان (مدفونا من مال يظهر فجأة بسفور ويبذر ويعبث به بدون حدود، وصاحبه مدفون أو في طريقه إلى الدفن) وربما ذلك القدر المنتقم يبرز نكاية بصاحب المال البخيل. وعقابا على قبضه وبخله. فما أكثر القابضين أموالهم في بلادنا، وما أكثر العيارين الذين ينتظرون بفارغ الصبر.
كتب الكثيرون عن هذا الأمر. وأبرز من أتذكره في هذا السياق الأستاذ أحمد الفلاحي الذي أفرد لهذا الموضوع أكثر من مقال، داعيا وحاثا أصحاب المال أن يدعموا جميع حقول المعرفة في بلادنا، وأن يتبنوا جوائز ويوقفوا مجالس خير ومنفعة عامة، ولكن كل ذلك لم يلق استجابات واضحة، فخزائن المعرفة والبحوث والأدب ظلت فارغة تستصرخ بصمت، بينما خزائن المال تصرف بسخاء في الهواء الطلق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق