مؤخرًا انتشرت بين الناس أخبار عن قضايا تعذيب وقتل على أيدي شرطة عُمان السلطانية ضد مواطنين مسجونين. تُجمع تلك الروايات على أن تعامل الشرطة لم يتم وفقًا للقوانين، بل بمختلف التجاوزات التي تستغل النفوذ والسلطة من قبل صغار المسؤولين وكبارهم، وأن الأمر أصبح في حكم المعتاد. وهناك من يسرد عشرات الأمثلة على الضرب والإهانات التي يوجهها بعض الشرطة إلى أصحاب قضايا مختلفة ومراجعين، إلا أنه، وبسبب الغياب التام لأي مؤسساتٍ وجمعياتٍ مدنية وحقوقية مراقبة ومتابعة، تبقى أغلب هذه الحوادث غير مؤكدة وغير مدعمة بالأدلة، وغير متابعة، ولهذا السبب وبسبب غياب الوعي العام بالحقوق وضرورة الإبلاغ من قبل المواطنين عن هذه الحالات فإن حالات الانتهاك مرشَّحة للتصاعد.
وقبل أيام نشر موقع "فرق" خبرًا تحت عنوان "شباب يقتلهم التعذيب في مركز شرطة الخوض"، وعنوان فرعي شبه تفصيلي لفحوى الخبر "وفاة ثاني شخص بمركز شرطة الخوض في غضون شهر". وقال الخبر إن الملازم ح المقبالي رش مواد كيميائية على بعض المتهمين بالسرقة لنزع الاعترافات منهم. (خبر منشور باسم "الصمت")!
وحسبما جرت العادة لا يجد الناس أي ردود أو توضيحات رسمية من ذوي الاختصاص، ولا تتناول الصحافة المحلية تلك الأخبار، ولا تضغط من أجل توضيح الحقائق للرأي العام.
والمتعارف عليه في المجتمع- كقاعدة- أن الصمت سيد الموقف في مثل هذه الحالات، ودائمًا يتنامى حس الخوف الذي بسببه يصرف كثيرون النظر عن تقديم الشكاوى ويلازمهم يقين بأن الآية ستنقلب ضدَّهم ويتحولون من أصحاب حق إلى مدانين! وهو منطق شديد الغرابة لكنه مترسِّخ لدى أغلبية العُمانيين إلى الدرجة التي تُوهم الآخرين بأن المجتمع خال من تلك الحوادث.
إن المخيف حقًّا والباعث على القلق وما يحتاج إلى تحرُّكاتٍ عاجلة أن تلك الانتهاكات قائمة بالفعل، لكن التستر عليها يُحوِّل الضحية إلى متهم، وفي أحسن الأحوال يتولَّى التجاهل بعث اليأس والخوف المضاعف في الضحية التي تجد نفسها وحيدةً مستفردًا بها وبلا حيلة، إن لم يحدث العكس وتتحوَّل الضحية إلى كائن متوتر ممتلئ بالضغائن وقابل للانفجار في أي لحظة- وبالتأكيد لن تصيب شظايا انفجاره أحدًا سواه!
للتدليل على ذلك سنختم بالقضية التالية:
مساء أول من أمس، الثلاثاء 23/4/2008م، وبالتحديد في برنامج "البث المباشر" الذي تبثه إذاعة سلطنة عُمان بين الثانية والنصف والثالثة والنصف ظهرًا اتصل أحد المواطنين بمقدم البرنامج المذيع بدر الشيباني، وسرد عليه قصته، حيث كان متَّهمًا بقضية جنائية قضى محكوميتها في سجن الرميس. كان هذا الشخص مصابًا في إحدى عينيه ويستخدم قطورًا أوصاه الطبيب (قبل دخوله السجن) بالضرورة القصوى لحفظه في ثلاجة، إذ يخضع استخدامه لشروط صارمة دونها قد يصبح الدواء بلا جدوى.
وعبر سلسلة من المحاولات التي يقوم بها المتهم مع الشرطة، ومنهم ضابطان برتبتي ملازم ونقيب، لا يفلح في إقناعهم بالضرورة الملحة للاحتفاظ بالدواء في الثلاجة، بل إنهم يضربونه ويتسببون في تفاقم حالته وتردي بصره إلى درجة غير محمودة العواقب.
وبعد خروجه من السجن، ونتيجة لما وصلت إليه حالة عينيه، حاول الشخص مقاضاة المتسببين في تردي حالته، وعلى الرغم من انقضاء فترات طويلة على خروجه من السجن وعلى تقديمه شكاوى إلى أعلى المسؤولين في شرطة عُمان السلطانية ورفعه دعاوى إلى المحاكم إلا أن عدم الإنصاف والتجاهل كانا حصاده الوحيد.
سيجد القارئ مع هذا الخبر مرفقًا صوتيا يستطيع عبره سماع دقيقتين وست وعشرين ثانية من الحديث الذي دار في برنامج "البث المباشر" بين الشخص المتضرر والمذيع، علمًا بأن الحديث الكامل استغرق ما يقارب الربع ساعة.
لعب برنامج "البث المباشر" دورًا كبيرًا في امتصاص غضب المواطنين وشكَّل متنفسًّا لبعضهم، وهو البرنامج الذي أثار كثيرًا من الجدل، وأُوقف بثه، وبعد السماح بعودته بقي دائمًا مثار قلق للمسؤولين الذين لولا ولولا! يريدون منع بثه اليوم قبل الغد.
وفي هذا التسجيل وفي غيره ينبري المذيع للدفاع في كثير من الأحيان عن الدولة ومؤسساتها ومحاكمها، انطلاقًا من التعليمات الصارمة التي تبقيه كـ"موظف" حكومي قاب قوسين أو أدنى من فقدانه وظيفته. ويجد مذيعو ومقدمو هذه البرامج أنفسَهم في مواقف حرجة حين استقبالهم لمثل المكالمة المذكورة أعلاه ليصبح همُّهم الوحيد والأوحد التخلص من المتصل وإنهاء المكالمة لكن بطريقة لا تُشعر المتابع بتعمدهم ذلك، على الرغم من أن المذيع نفسه قد يكون مؤيِّدًا تمامًا للمتصل ويعلم علم اليقين بالظلم الواقع عليه، كما يعلم أن الدور الأساسي لبرنامجه ليس إتاحة الفرصة والحرية لطرح القضايا والبلايا التي تحصد بلادنا بل ذر الرماد على العيون والإيهام بتلك المبادئ!
إنها تناقضات لا تُحصى سببُها السياسات العُليا وانعدام الوازع الوطني والضمير الأخلاقي اللذين ينشدان الصالح العام ولا يرتاب أصحابُهما في المواطنين ولا يتخذونهم أعداءً ولا يقمعونهم ولا يتجاهلونهم.
إذًا من يستطيع أن يؤكد أو ينفي أو... أخبار التعذيب والقتل والتهديد والتجاهل والاستغلال والتخويف والأيدي الحديدية التي تبطش ولا تبالي!
ِ