08 مارس 2011

أيها الإعلام... احذر! الطريق شديدة الانحدار

سعود عبدالله الزدجالي
    
        لو رجعنا إلى معاجمنا العربية الكثيرة فبحثنا في ثناياها عن مادة (ع ل م)؛ لوجدنا أنها تدور على كثير من المعاني كلها يتعلق بالوضوح ضد الخفاء، وأبرزها أن العلم ضدُّ الجهل، والعلم هو الوضوح التام الذي لا لبس فيه، وهو مطابقة الواقع بكل أبعاده أو موافقة الاعتقاد في بعض الجوانب كما هو الشأن عند بعض الأصوليين، وهذه المعاني لا تتناسب والمواربة والتقية والتورية، ولذلك كان من أسماء الله تعالى الحسنى: العليم الحكيم؛ يقول الله تعالى: "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء".
وجميع ما يكون في حياة الإنسان من عمل في واقعه مبني على العلم، يخطئ في الممارسة إذا كان علمه غير تام؛ لذا فإن الله تعالى بنى دينه على العلم القويم الذي لا اعوجاج فيه، وأعطى الإنسان أدوات العلم التي بها يتمثل الكون؛ فجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة.
والفعل (أعلم) في العربية فعل متعدٍّ إلى المتلقي الذي تُنقل إليه الحمولة كافة المتعلقة بواقعة بعينها، فأنت تميط اللثام عن الخفي ليسهُل إدراكه؛ وإذا كان الأمر متعلقا بين المعلم (بكسر اللام دون تشديد من أعلم) والمعلم (بفتحها)؛ فلا بد هنا أن تستحضر عمليةُ الإعلام ذكاءَ الجمهور المتلقي ومعارفه، واعتقاداته، وقبلياته بمنطق الفلسفة؛ حتى لا تكون عملية الإعلام في غمة، وقد يزداد الأمر تعقيدا إذا كان الإعلام وسيطا بين مجموعتين بشريتين الأولى هي مادة الإعلام المنقولة وتمارسُ عملياتِ الاستماع والتمحيص والنظر فتدرك الزيفَ الذي يقع على الواقع المنقول عنها إلى المتلقي؛ وإذا كان إخفاء الحقائق وتزييفها  في نظر الإعلام نوعا من أساليب التهدئة؛ فإنها في حقيقة الأمر تصنع قنبلة بشرية موقوتة تكاد تنفجر عن مكبوت مشاعرها التي لم تستطع الإنسانية بما أوتيت من سياسة وقوة السيطرةَ عليها كما قال اسبينوزا في كتابه اللاهوت والسياسة.
        ولقد كان الإنسان يعيش في الأرض دون أن يدرك ما يدور على ظهرها من حوادث، فضلا عما يدور في باطنها أو فضائها كما هي الحال في عصرنا المعجز باختراعاته وشبكاته الاتصالية المخيفة؛ فدخل الإنسان مرحلة اللاممنوع واللامحجوب، لقد انهارت كل الحجب والبرازخ والمنافذ الحدودية حيث تهاجمنا الحقائق شئنا أم أبينا.
وإذا كان الإنسان عاش بمعزل عن الواقع قديما؛ فإنه يدركه الآن بكل أبعاده، والهدف الأساسي من الإعلام بشتى صنوفه هو الكشف عن الواقعة وترك الحقائق تعرب عن نفسها بنفسها في زمن الصورة الجامحة النابضة، يقول الدكتور شاكر عبدالحميد في كتابه عصر الصورة : " نحن نعيش الآن في عالم تتخلله الصور بشكل خاطف وسريع وتهيمن عليه؛ حيث تملأ الصور الصحف والمجلات والكتب والملابس ولوحات الإعلانات وشاشات التلفزيون والكمبيوتر والإنترنت والتلفونات المحمولة بشكل لم يحدث من قبل في تاريخ البشرية عامة".
      ومع ذلك كله استطاع الإنسان تزييف الحقائق، وفي هذه الحالة الأولى أن تبقى الحقائق في عالمها المجهول أفضل من أن تمارس عليها عمليات التزييف والتنميق؛ إن الإعلام إذا قارف هذا الإثم فإنه يغتال نفسه بنفسه، إنه ينسلخ من أخلاقياته وقدرته على أداء الرسالة المقدسة.
      ولم تمارس في تاريخ الإعلام عمليات إجهاض عليه مثلما مارستها السلطة، ولكن تبقى هذه الممارسة خطرة على السلطة نفسها من قبل أن الإعلام متعدد؛ كل شخص يملك اليوم أداة فعالة من أدوات الإعلام، إنه عنصر من عناصر منظومته، ولذلك فإن الإعلام كالجسد الذي يهاجم الأجزاء الفاسدة، وإذا شئت فاذكر في المقام ما حدث من الولايات المتحدة الأمريكية إبان الحرب على فيتنام من مجاملات وأكاذيب أردتها إلى الحضيض، وألقت بها في مستنقعات الخسائر المادية والبشرية؛ هذا النوع من الإعلام هو بحق إعلام القرون الوسطى بنظامها الأبوي المتعالي، أما ما حدث في مصر بعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين من فبراير فلك أن تخوض فيه بحديث دونما حرج؛ حيث كانت الوقائع في واد والإعلام المصري يدندن في واد آخر بشكل سافر يثير فينا الغثيان تارة والحموضة أخرى، وكانت هذه الممارسات المنتنة مستمرة حتى الدقيقة الأخيرة من سقوط النظام بعدها صمت الإعلام المصري؛ "فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون".
     ولكن الغريب أنني أجد في خلجات نفسي عذرا للإعلام المصري، وهو عذر يعد مشروعا من حيث المبدأ وإن خالفني فيه كثيرون؛ ذلك لأن المواربة التي كانت تنبعث بروائحها المنتنة والزيف الصارخ الذي كان يصدر منه؛ كان بسبب واضح يتفق عليه الكثيرون فهو إذن محل إجماع؛ لأن الشعب (مادة الإعلام ومتلقيها في الحدث المصري) كان يطالب بسقوط النظام الجاثم على الأفئدة والأنفاس فما كان من السلطة إلا أن تدفع بالإعلام إلى الهاوية "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين)، وهو ما ذكرني بمثل عربي قديم يقول: ضعيف عاذ بقرملة، والأمر نفسه الذي يحدث في الآن الذي أكتب فيه هذه الكلمات وأخشى أن يستمر إلى حين قراءتكم لها.
     ولكن الأمر يختلف تماما عن إعلامنا المرابط بقوة على ثغور الصمت؛ ذلك لأن الشعب كله ملتف حول القائد المفدى ويقدم له الولاء والطاعة والفداء في آن معا، ويدافع عن منجزات الوطن ضد الفساد بشتى ضروبه وصنوفه؛ فلماذا يصر الإعلام العماني على موقفه الصامت القاتم الضبابي المشوه؟ لا ندري لم هذا الصمت؟ وعلام هذه اللغة الباردة الركيكة التي لا تسمن ولا تغني من جوع؟ ألهذه الدرجة غاب عن الإعلام العماني ذكاء المتلقي فبقي في سباته القديم؟ ألا تتفقون معي على ضرورة إيداع هذا الإعلام بمفرداته في متاحف ذكرياتنا بكل فتوره القاتل؟
     إننا في خضم التطورات المتلاطمة في الاتصالات ولغة الإعلام كنا ننتظر شيئا آخر ربما اعتبرناه خيالا فنامت أعيننا عن متاهات التفكير الذي أرهقنا وأغرقنا فكاد النفَسُ أن يتوقف ونحن ننتظر ذلك الخيال الغائب المستحيل أو كاد أن يكون...، لقد مللنا لغتكم الباردة و(طلتكم) المزعجة وأنتم تمارسون على استحياء أشباه أدواركم أمام كاميراتكم التي لو أدركت لكانت كما قال عنترة:
        لو كان يدري ما المحاورة اشتكى        ولكان لو علم الكلام مكلمي
     أليس خلف هذا الوجه الباهت من وجه آخر مشرق كروابي عمان الرائعة وجبالها الشم وأوديتها المزمجرة إذا داعبتها بدلال يدُ الغيث؟
      ما الذي تنتظره أيها الإعلام؟ هل تنتظر أن نرى واقعنا ونسمع أنيننا ونبض قلوبنا تنقله شفاه الآخرين؟ لماذا تصر وضع مساحيق التجميل التي لم تعد حتى تحاكي صيحات الموضة في أجمل مدن الأناقة؟
      أم أنك تنتظر سنة كونية يديرها الرحمن بقدرته الجبارة فيتغير وجه الأرض لتخضر من جديد..؟ ربما...

ليست هناك تعليقات: