كُتبت بتاريخ 31 يوليو 2012 في قسم السابع والعشرون, سياسة
عن الكاتب: عبد الله حبيب
إلى الذين كانوا في قفص الاتهام في المحكمة في يوم الأحد الماضي، كانوا ولا يزالوا وسيظلوا دوماً نبض الحياة بين ضلوع القفص الصدري في كل الأيام وعلى مدار السنين.
يقول المثل العربي الشهير: “شر البليّة ما يضحك”.
واستئناساً بما يحدث في “تراجيديات” شكسبير الكبرى فإنه لا بد أن يتوافر
شيء من الكوميديا حتى في أكثر الأفلام التراجيدية في السينما الكلاسيكية
الغربية (والأمثلة أكثر من تحصى أو تعد—تأمل في “المواطن كين” لأرسون ويلز
مثلاً). أما في أفلام تشارلي تشابلن (والأمثلة أيضاً أكثر من أن تحصى أو
تعد – أمعن النظر إلى “الديكتاتور” مثلاً) فإن ما يبدو في الفيلم على السطح
الخارجي وللوهلة الأولى إنه كوميدي فهو تراجيدي في جوهره وعمقه (“لقد
أصابني منك ما يكفي أيتها البلاد التَّعِسَة”، هكذا قال تشارلي تشابلن وهو
يصعد سلّم الطائرة مغادراً الولايات المتحدة للمرة الأخيرة إلى بلاده*.
ويبدو أن قضاءنا الهمام قد تعلم هاتين الممارستين السينمائيتين مؤخراً، تماماً وبالضبط كما تعلمتهما درامانا التلفزيونية قبله!.
هكذا تنبأت إحدى كاتباتنا العمانيات المجهولات والرائيات
بما سيؤول إليه مجرى الأمور، وبأن المتهم يمكن أن يعلن موقفه من الحكم حتى
قبل صدوره:
- أنا: “إني أعترض يا حضرة القاضي، وبشدة. أنا بريئة”.
- حضرة القاضي: “أحكم عليكِ بالسجن في دهاليز دماغك، والحكم غير قابل للطعن فيه إلا بكفالة مقدارها غلطة شنيعة أخرى”!. (أمل محمد).
في ما حدث في جلسة يوم الأحد، 29 يوليو 2011 تتضح أكثر –
ونهاراً جهاراً — وطادة الوشائج التي اتضح انها حميمة أكثر مما ينبغي وأكثر
مما كان أكثرنا تشاؤماً يعتقد، والتي تجمع فيما حِيْكَ بليلٍ بين ثلاث
مؤسسات مهمة في بلادنا كان يفترض أن كلاً منها يقوم بوظيفته، كل في مجالها
وفق المهام المنوطة بها. الأولى هي المؤسسة الأمنية التي تصدر القرار
(والتي كنا نعتقد أن مهمتها تكمن في حماية أمن وسلامة الوطن والمواطنين،
وليس اقتحام أفرادها وهم مدججين بالأسلحة والأقنعة غرف نوم المواطنين وهم
راقدين إلى جانب زوجاتهم في هدأة المحبة بملابس النوم، أو اختطاف مواطنة
شابة عازبة وتعذيبها ثم رميها وحيدة في العراء في مدلهم الليل في أسوأ
انتهاك يمكن أن يطال حرمة المرأة واحترام كرامتها في تقاليد وأعراف
وأخلاقيات هذي البلاد، التي تقول لنا السلطة نفسها في خطابها الرسمي أنها
حريصة عليها، أو اعتقال المواطنين فرادى وزرافات وتعذيبهم بشتى الطرق).
المؤسسة الثانية هي المؤسسة الإعلامية بما في ذلك جانبها
الصحفي التي تنفذ القرار عوضاً عن أن تحتج عليه بوصفها “سلطة رابعة” (والتي
كنا نعتقد بسذاجة الأطفال أن مهمتها هي كشف المستور في كل الشرور،
والانحياز إلى الحق والحقيقة، والوقوف إلى جانب المواطنين والدفاع عنهم،
ونقل شكاويهم واستياءاتهم إلى المؤسسات المعنية في جهاز الدولة، وليس
التشهير بهم وبعائلاتهم وقبائلهم على شاشتها وصحفها – وللمفارقة الغريبة
التي، في الحقيقة، لم تعد غريبة كثيراً فإنه في نفس يوم محاكمات الأحد نشرت
إحدى صحفنا الجليلة في صفحتها الأولى خبر اعتقال مواطنة “آسيوية” إذ لا
يحق لنا حتى أن نعرف جنسيتها ناهيكم عن تاريخ ميلادها، ومكان وطبيعة عملها،
وفي أحشائها 79 كبسولة معبأة بمخدر الكوكائين، هي التي جاءت بغرض تدمير
عقول عدد من مواطنينا، بينما الذين تم نشر صورهم ومعلوماتهم الشخصية
الدقيقة، وبينما الذين وضعوا في قفص الاتهام في جلسة يوم الأحد، هم من أبرز
كتّاب البلاد هذي ومثقفيها وناشطيها من الجنسين، والذين حفّز مسعاهم
التفكير السويِّ، وتنوير العقول وليس تخديرها بغرض تدميرها. آسيا كبيرة،
أما عمان – الآسيوية أيضاً–فيمكن أن يعرف فيها سكان مسندم ما حدث في ظفار
بعد دقائق من حدوثه).
أما المؤسسة الثالثة فهي المؤسسة القضائية التي يتضح
يوماً بعد آخر أن قراراتها وأحكامها إنما هي مصطبغة لدرجة الإحمرار الفاقع
للشفاه المُمَكْيَجة إسرافاً بتوجهات – إن لم توجيهات—مؤسسات وأجهزة من
خارجها (والتي كنا نعتقد بنزاهتها وحياديتها وعدم تسييسها وأمننتها [من
الأمن]). ذلك أن من ينشر في صحفه صوركم بوجوهكم المنهَكة وبملابس السجن
المُهينة مرتين مع ذكر تفاصيل عن حياتكم الشخصية والعامة يمكن أيضاً أن
يتلذذ بالتفرج عليكم على نحوٍ ساديٍّ في قفص الاتهام بحضور زوجاتكم وأهلكم
وذويكم لأكبر عدد ممكن من المرات.
“عدم تدخل الجهاز الأمني في شؤون الحياة المدنية”، و”استقلال الصحافة” و”نزاهة القضاء”!. هه، قديمه – عطيني غيرها!.
حقاً إننا “دولة المؤسسات والقانون” بامتياز شديد، ولكن
بطريقة فريدة للغاية (وفي هذا السياق فقد كان المرحوم تعوّب الكحالي، وهو
أحد صيادي الأسماك في قريتي الفقيرة، يُكثر من استخدام هذا التعبير في
المواقف المناسبة تماماً: “علامها بالمختلاف”؟؛ أي – لمن لا يحسنون اللهجة
العمانية القحّة” في منطقة الباطنة—”لماذا هي معكوسة”؟)!.
يحاضرون علينا – بالأحرى يلقنوننا ويلقموننا وكأننا أطفال
في مدرسة – عن ضرورة إطاعة القانون، أما الشهيد الأمريكي مارتن لوثر كنج
فيقول لنا: “يوجد القانون والنظام بغرض تحقيق العدالة. وإن هما أخفقا في
تحقيق هذا الغرض فإنهما يصبحان على نحوٍ خطِر السدود التي تعيق جريان
التقدم الاجتماعي”. ويضيف:”إن من يخالف قانوناً غير عادل يقول له ضميره عنه
إنه قانون غير عادل، ويقبل طواعية عقوبة السجن من أجل تحريك ضمير المجتمع
فيما يخص عدم عدالة ذلك القانون، فهو في الواقع يعبر عن الاحترام الأعلى
للقانون”.
وحقا: “أيها الفتى: هذه محكمة قضاء، وليست محكمة عدالة”،
و”كثير من القوانين، قليل من العدالة”، و”إن هيئة القضاء العليا هي كاهن
القوانين، والقضاة هم مؤِّليها. أما بقيتنا فإنهم خَدَمُ قانون، إنه يتعين
علينا جميعاً أن نكون أحراراً” (ماركوس تولوس سيسرو).
وسأزيدكم من الشعر بيتاً: “إنها السلطة وليست الحكمة هي من يسن القوانين” (توماس هوبس).
شخصياً، أفضِّل أن أتذكر هذه المقولات وأمثالها، وأنسى محاضراتهم.
لم نعد نكتفي بنشر غسيلنا في بلادنا فقط، بل إننا نريد
الآن لكل العالم أن يتفرج عليه. وما حضور محامية أجنبية (تحسن بعض العربية،
بالمناسبة) في جلسة محاكمات يوم الأحد، 29 يوليو 2012، سوى دليل رمزي على
ذلك.
إنها خطوة رائعة إلى الأمام، فنحن لدينا فندق قصر
البستان، ولكن لا بساتين للحرية لدينا. ونحن “حقّقنا في سنين قليلة ما لم
يحققه غيرنا في زمن أطول” كما يقول خطاب الإعلام الرسمي لدينا، ولا نزال
نعدو نحو المستقبل بسرعة هي أسرع من العدّائين، لم تحدث حتى في أولمبياد
لندن الأخير، أخشى أنها ستجعلنا نسقط أرضاً وتتحطم رؤوسنا “في سنين قليلة”
قد تكون أقل مما حققنا فيه ما نباهي به الآخرين!.
“إن القاضي هو طالب يدرس الحقوق ويقوم بمنح نفسه الدرجات على أوراق امتحاناته”. (إتش إل منكين).
ما أشبه الليلة بالبارحة؛ ففي جلسة محاكمات يوم الأحد
بسبب قيامكم بعمل سلمي ومدني في القرن الحادي والعشرين ما يجلب للمرء صدى
قوياً من محاكمات العام 1971 في إثر اكتشاف خليّة مسقط التنظيمية، ومحاكمات
العام 1975 في إثر الاشتباك المسلح في كمين الرستاق الذي استشهد فيه واحد
من أروع العمانيين في الذاكرة السياسية العمانية على الإطلاق (أعني زاهر
الميّاحي طبعاً – الإسم الحركي: أحمد علي) ، والإعدامات التي تلت تلك
المحاكمات الهزليّة (المثال الأقوى هو اعتذار القاضي المرحوم إبراهيم
العبري عن إجراء محاكمات العام 1975 بعد أن كان قد أجرى محاكمات العام 1971
التي في إثرها حدث ما حدث، وكان ما كان الذي يكون حتى اليوم، وأخشى شخصياً
أنه سيكون حتى غداً).
حقاً: “يعيد التاريخ نفسه. في المرة الأولى بوصفه تراجيديا، وفي المرة الثانية باعتباره كوميديا” (ماركس).
“ثمَّة موتى ينبغي قتلهم” (عبدالقادر الجنّابي).
يا المادة الخاصة بما يسمى “التجمهر” في قانوننا الجزائي
العتيد: ترى ماذا سيحدث لو أني عزمت عشرة من أصدقائي – وهم من مختلف
الأمشاج وطرق التفكير — لتناول العشاء في مطعم، وكان أحدهم بمحض الصدفة
الكارثية خطَّاطاً يريد أن يرينا ليستمع إلى آرائنا حول نماذج من لوحات
جلبها معه، كتب عليها بالخط الكوفي الذي يجيده مقولات من النظام الأساسي
للدولة؛ مثل المادة رقم 29 التي تنص على أن “حرية الرأي والتعبير عنه
بالقول والكتابة وسائر وسائل التعبير مكـفوله…” ولكن حدث بمحض المصادفة
البائسة أننا كنا الأحد عشر شخصاً في المطعم في تلك الليلة المشؤومة؟.
أليس المطعم “مكاناً عاماً” أيضاً.
آه، إنني لا أريد حتى مجرد التفكّر في الاحتمالات!.
أيكون حال وطننا من خلال هذه القضية هو حال قصيدة قسطنطين
كافافيس الشهيرة “في انتظار البرابرة” أو مسرحية صمويل بيكيت الأشهر “في
انتظار غودو”: في انتظار القاضي الرابع!.
——————————————-
*الاقتباسات غير العربية الواردة في هذه المادة من ترجمتي.
تجيء هذه الإشارة بغرض تحمل المسؤولية الأخلاقية والأدبية فيما يخص صوابيّة
ودقة الترجمة.