«إننا ما نفعله .. تَكرارًا»
أرسطو
«دعونا نتذكَّر مدى قلَّة ما نعرفه عن الشَّخصيَّة»
ﭬرجينيا وولف
توطئة
تعتمد هذه الدراسة على تتبع
الشخصيات وتحليل هُويَّاتها عبر سلوكها وطباعها ومشاركتها في صنع الأحداث.
إن هذا التتبع يربط بين شخصية وأخرى، لذلك يقتضي الإحاطة بالمناخ العام
الذي تحضر فيه الشخصيات موضوع الدراسة، وهو أعمال الكاتب أحمد الزبيدي
الثلاثة المنشورة: (انتحار عُبيد العُماني)، (إعدام الفراشة)، (أحوال
القبائل عشية الانقلاب الإنكليزي في صلالة). كما يقتضي تحليل الشخصيات
الانتباه الشديد إلى أسلوب الراوي وما يُصرِّح به وما يُضمِره، وهو ما يمكن
قراءته بين السطور بطرق شتى تُشكِّل رموز التاريخ أحد مفاتيحها، فكتابة
أحمد الزبيدي تحفل بمراجع عديدة يتقهقر السرد زمنيًّا ومكانيًّا أحيانًا
ليبعثها من النسيان أو الغياب والتغييب.
تطورت فكرة كتابة هذه الدراسة من
تطلُّع كاتبها إلى محاولة إعادة ولو بعض الاعتبار إلى أحمد الزبيدي الكاتب
المناضل المهمش وتجربته الثرية المغيبة إبداعيًّا وسياسيًّا – وذلك بنشر
حوار طويل ومقالة بانورامية عن أعماله الثلاثة - إلى ما هي عليه الآن. ثم
تم الاتفاق على إلغاء الحوار وكتابة الزبيدي شهادة عن تجربته الإبداعية
والسياسية تضاف إلى المقالة وتنشر في الكتاب، لكن حسنات المصادفات شاءت أن
يمتد نص الشهادة ليصبح كتابًا مستقلًّا بنفسه سيصدره الزبيدي في وقت لاحق.
في هذه الأثناء كانت الدراسة بدورها تخرج عن إطار المُخطَّط لها وتستغرق
مساحة نصِّيَّة أطول. ومع ذلك ينبغي القول إن هذه المقارنة بين بداية العمل
ونتيجته لا تنفي إدراك كاتبه التامَّ ما يعتوره من نقص وهَنَات، لاسيَّما
أن الاستعانة بمراجع نقدية سابقة درست تجربة الزبيدي وأضاءت عتماتها غير
ممكنة لانعدام تلك المراجع، حسب علمي، عدا ما كتبه شوكت الربيعي في صدر
مجموعة الزبيدي (إعدام الفراشة)، وهو احتفاء وإشارات عامة أكثر من كونه
دراسة. لا بد من الإشارة إلى أن الدراسة صحَّحت بعض الأخطاء اللغوية وأهملت
أكثرها، وفي الوقت نفسه لا تستبعد وقوعها – أي الدراسة - هي الأخرى في
أخطاء لغوية، مدركة أن اللغة العربية المعاصرة، أو بالأحرى كتابها،
يتناسخون أخطاء لغوية لا تُغتفَر كرَّستها الصحافة الثقافية خصوصًا ومدت
رقعة انتشارها.
إن هذه الدراسة تنفر من وعورة
المصطلحات، ولا تتبنى منهجًا مسبقًا تصب في قالبه شخصيات الزبيدي وفضاءاتها
وتقسره قسرًا عليها لتصل إلى مراميها برغم أنف الممكن والمحال، بل تطرح
رؤية تبذل قصارى جهدها لإقامة علاقة نقدية بين النص وقارئه، علاقة يؤسسها
التحليل والتأويل الممكن وعدم استباق الوصول إلى النتائج، ومحاولة التتبع
والربط وتحليل أعماق الشخصيات وإشراك القارئ ضمنًا في ما يشكل سرد الزبيدي
القصصي والروائي نفسيًّا واجتماعيًّا وتاريخيًّا وبنيويًّا، بقدر ما تُسعِف
كاتبَها إمكانياتُه المحدودةُ، وانطلاقًا من النص نفسه وما تثيره قراءته
من لواعج وأفكار وأسئلة. هنا لا بد من إقراري بفقر درايتي بالمناهج
النقدية، واعتمادي الأساس على إعادة قراءة أعمال الزبيدي، وما تبثه القراءة
الثانية وما بعدها من تفاعل بين القارئ والنص واتصال بخفاياه ومنطقه
السردي، فلكل نصٍّ منطقه الخاص المختلف في الأسلوب والأفكار والحيثيات
والعناصر والتقنيات عن ما سواه من نصوص، إلا أن الفروق شاسعة ومتباينة، وهي
ما يؤسس فرادة نص عن آخر. وتتسم عوالم سرد أحمد الزبيدي بثراء يميزها عن
تجارب الكتابة السردية الأخرى في عُمان.
إن دراسة أي عمل يحكمها العمل نفسه
كي لا تصبح تثاقفًا واستعراض نظريات ومناهج وأسماء ومصطلحات. ولا غضاضة في
الاستعانة بكل ما يدعم تعميق التحليل مهما كان منبعه شريطة الإلمام قدر
المستطاع بما ينبش دفائن المدروس ويُجليها. كل عمل نقدي يدرس عملًا سرديًّا
لا يمكنه تفادي القيام بمهمة سردية هو الآخر، بل إن التغاضي عن هذه
البداهة مستحيل، فكل ما يُكتَب – مهما كان تصنيفه - يتخذ شكلًا من أشكال
السرد. وهكذا فإن تتبع الشخصيات ومناخاتها وظروفها وأحداثها ونفسياتها
ومصائرها لا ينفصل عن إعادة سرد سيرورتها داخل العمل بالتوازي، وإنتاج سرد
جديد يحتوي مادة السرد الأساس وينبني عليها، وذلك من خلال التفسير والتحليل
وطرح الأسئلة وتتبع الخيوط المتصلة والمتقطِّعة واقتفاء أثر الإشارات
والعلامات والتلميحات والملامح والثنايا الفارغة المملوءة بمعطيات تحذفها
بلاغة النص وفطنة مؤلفه ولا يقود إليها إلا مثابرة التحليل وسعيه الحثيث
وصبره وانهماكه وتوحُّده والعمل المدروس.
الفضاء الثقافي: آليات الاحتواء والتهميش:
يشكل أحمد الزبيدي حالة فريدة في
فضاء الإبداع السردي في عُمان، حالة لم تتكرر، وليس هذا المطلوب من غيرها
عمومًا، لكنها أيضًا حالة تتشبث بمسعاها وهدفها ولا تحيد عنهما ولا تهن ولا
يعتورها الطمع والكلل والأقنعة وعوامل الزمن. أحمد الزبيدي المولود عام
1945م في مدينة صلالة بجنوب عُمان هو الكاتب العُماني الوحيد الذي انفصل
إبداعه كليًّا عن الدولة ومؤسساتها، فلم ينشر في الصحافة المحلية، ولا حتى
في تلك المسماة جزافًا بـ«المستقلة»، ولم يلق قصصه في محافل السلطة:
(النادي الثقافي، المنتدى الأدبي، نادي الصحافة، جامعة السلطان قابوس...
إلى آخر القائمة). وهو ما جعل اسمه ينأى عن الوسط الأدبي، إلا أنه آثر
التهميش، فتلك الصحافة والمؤسسات نفسها كانت تحرص حرصًا شديدًا على تغييب
اسمه وعدم ذكره ولو في خبر. ويمكن القول إن اسم الزبيدي كان ممنوعًا في
الصحافة والإعلام العُمانيين حتى سنوات قريبة، إذ نشر ملحق «شرفات» الثقافي
الصادر عن جريدة عُمان حوارًا مع الزبيدي أجراه القاص حمود الراشدي (يونيو
2008) حذفت رقابة الجريدة أغلبه، وما سوى ذلك من أخبارٍ خجولٍ أو أسطر
مندسة في ملحق ثقافي أو صفحة مجلة فهي إما للتضليل والإيهام بعدم المنع
وإما أنها جهود قام بها محرر حاول قدر الإمكان كسر قيود التعليمات الرسمية.
وحتى في السنوات القريبة التي ما زلنا نعيش خدعتها حتى اللحظة لم تنطل
الأضحوكة الاعتباطية ("جمعية الأدباء والكتاب العُمانيين") على الزبيدي،
وحافظ على لاانتمائه، هو البالغ السادسة والستين من عمره الآن، المُعرَّض
للتحقيق الأمني في 30 مايو عام 2009م بسبب مجموعتيه القصصيتين انتحار عبيد
العُماني وإعدام الفراشة وروايته أحوال القبائل عشية الانقلاب الإنكليزي في
صلالة، ناهيك عن سجنه في بداية السبعينيات فور عودته إلى عُمان،
والمضايقات الدائمة التي عاشها سنوات طويلة إثر عودته إلى عُمان ولم تخفت
حدَّتها إلا عند مطلع الألفية الجديدة.
يعاني أحمد الزبيدي منذ سنوات من
أمراض القلب وضغط الدم والسكري، وكل هذا لم يمنع الأجهزة الأمنية من مواصلة
التحقيق معه في مايو 2009 مدة ثلاثة أيام، بمعدل اثنتي عشرة ساعة يوميًّا.
كان يتناول أدويته خلالها تحت وطأة الإجهاد قبالة محققين لو عرفوا الأدب
لاستقالوا من وظيفتهم، لأن الذين عاثوا في البلاد فسادًا ما زالوا يعيثون
فيها فسادًا ولا يُستجوبون، بل هم أنفسهم من يصدرون أوامر استجواب الكتاب!
وهل هناك فسادٌ أبلغ فسادًا من استجواب أولئك المحققين الأبطال للكاتب أحمد
الزبيدي؟! لقد خاض أحمد الزبيدي تجربة سياسية نضالية في مطلع شبابه مكنته
من أن يكون – في مهجره - لصيقًا بقضايا وطنه، ففي دمشق خصوصًا مارس العمل
السياسي عبر الحركة الوطنية الطلابية العُمانية، وترأس رابطتها منذ عام
1968م وحتى انعقاد المؤتمر التأسيسي للاتحاد الوطني للطلاب العُمانيين
ببغداد عام 1973م. كان أحمد الزبيدي مؤيِّدًا لثورة ظفار، إلا أن هذا لم
يحل دون انتقاده الجبهة من موقع الدفاع عنها. وفي هذا السياق كتب عدة
دراسات نشرت في صحف لبنانية، وفي مجلة (الأرض) حينها وهي اللسان الناطق
باسم الحركة الطلابية العُمانية، وظل يكتب فيها حتى عام 1975م، ومن دراساته
المنشورة «تاريخ الحركة الوطنية العُمانية» الحديثة، وقد قدمت في المؤتمر
التأسيسي للاتحاد الوطني للطلاب العُمانيين ببغداد عام 1973، وأُقرَّت
كوثيقة من وثائق المؤتمر. وللزبيدي أشعار منشورة في مجلات يمنية وسورية
وعربية، وفي شبابه كان يجوب الروابط الطلابية في دمشق وبغداد والقاهرة
والكويت محاضرًا ومتكلِّمًا في نضال حركة التحرر الوطني الديمقراطي في
بلاده.
إن هذا يقود إلى الكتابة عن تواضع
الزبيدي الشاعر والقاص والروائي والإنسان. كم من النفاق والمهازل سادت
الساحة الثقافية العُمانية؟ كم من الأكاذيب؟ إن أحداث فبراير 2011 التي
أطلقت الاحتجاجات العُمانية الجديدة لم يقدر لها أن تبلغ أهدافها لأسباب
كثيرة ليس أولها ضعف الوعي السياسي، وليس آخرها الدور السلبي للمثقف
العُماني الكاذب الذي خدع نفسه وخدع عددًا كبيرًا من مواطنيه بتنظيره
الفارغ وأقنعته ووجوهه المتعددة التي يرتديها (حسب المرحلة وضروراتها).
وعلى الرغم من الدور النضالي الفاعل الذي قام به أحمد الزبيدي في الحركة
الطلابية العُمانية في دمشق، وعلى الرغم من جرأة أعماله السردية، إلا أنه
قلَّما يتحدث عن ذلك، في الوقت الذي نجد فيه أسماء أخرى لا تستحي من أن
تعلي شأن تجربتها بكل الأشكال، ومنها الكذب والدجل وإيهام المثقفين العرب
بأنها أصوات معارضة، وهي في صلب السلطة ومخابراتها وقضت عمرها تعتاش على
هباتها وعطاياها. بل إنها قامت بأدوار تخريبية خطيرة أسست لخراب جيل من
الكتاب وتجهيله وتشكيله على نحوٍ مخزٍ بإفقاده شرعية طرح السؤال الوطني
وإدانة الفساد السياسي والاجتماعي والديني والثقافي الذي تقوم به السلطة.
إن أحد أسباب تخلفنا – كما يرى
الزبيدي - هو المثقفون الانتهازيون، هؤلاء الذين عناهم كثيرًا جدًّا
الظهورُ الإعلامي، وخدَمتهم العلاقات العامة والمناصب والمنابر، ولعقوا
أحذية السلطة حتى أصبحوا جزءًا لا ينفصل عن الأحذية العفنة. وبعضهم انحطَّ
إلى أدنى دَرَكات الانحطاط الإنساني والأخلاقي في سبيل المال والخضوع
للسلطة، وانكشف كل تاريخه الكاذب بانغماسه في الثرثرة والتبجيل، وقضى
نهائيًّا على ما كان يمكن أن ينقذه من التردِّي والانبطاح والقذارة، بل إن
هذه الأوصاف لا تصف جزءًا يسيرًا مما صارت إليه حاله، وبعضهم بجَّل السلطة
وخدمها بطريقة أدهى، فهو صامتٌ عن التبجيل المسموع أو المكتوب، لكنه، في
الخفاء، يخدمها ويمارس أبشع أدوار المثقف الانتهازي. إن الوضع الثقافي في
عُمان يدعو إلى وقفة عاجلة تسائل ما مر، وتعري أدوار من لعبوا على كل
الحبال واحتكارهم الإبداع باسمهم وتعمدهم التام إلغاء المبدعين الآخرين،
ففي الشعر والسرد معًا هناك أسماء بعينها أتاحت لها علاقاتها العامة الظهور
على حساب الآخرين، واعتبار كل ما تكتبه إبداعًا وإضافة مهما كان مستواه.
ولهذا السبب كثيرٌ من الغث اعتُبِر تجارب متميزة، دون الالتفات إلى أن
مجاملة على هذا القدر من النفاق لم تفعل على مدى السنين الماضية سوى
الإضرار بسيرورة الكتابة عمومًا، وكتابة الكاتب المُجامَل نفسه. ومن فرط
الغرور والنرجسية وعدم الانتباه أصبح بعض الكتاب يعد كل ما يكتبه مهمًّا
ويجمعه بين فترات متقاربة للنشر في كتاب كي يزيد عدد قائمة إصداراته!. وإذا
راجعنا قائمة الكتاب العُمانيين المُترجَمة أعمالُهم إلى لغات أجنبية سنجد
أغلبهم كتاب السلطة. إن هذا يعود إلى «مكافآت» السلطة لعناصرها وإلى مصالح
المناصب والعلاقات العامة، كما يعود إلى الدور السلبي الذي لعبه المثقفون
والكتاب العرب ذوو النفوذ وأصحاب المنابر، فهؤلاء باعوا ذممهم وضمائرهم من
أجل بريق المال، ولم يروا في عُمان إلا تلك الأسماء التي تربطهم بها مصالح
مالية عليا، ومنافع متبادلة ظاهرُها الهم الثقافي والحرصُ على تفعيل
الخبرات وإبراز الإبداع المتميز. لذلك ليس مستغربًا تهميش مبدع مثل أحمد
الزبيدي آثر العزلة الإيجابية – وليس السلبية، فهو كاتب تقدمي منتج - كما
ليس مستغربًا سيادة الغث والفاسد واحتكار زمرة بعينها واجهة الثقافة
والإبداع في عُمان، فما أرخص العربي اليوم وما أفسده، حين لا يرى بصره
وبصيرته سوى بريق المال مهما كان مصدره، وحين لا يرى إلا نفسه.
ليس هذا دفاعًا عن تجربة أحمد
الزبيدي بقدر ما هو محاولة إنصاف متأخرة تتوخَّى الحقيقة وتنبذ الصمت وقلب
الحقائق، علمًا بأن المبدعين الوطنيين المهمشين في عُمان ليسوا قليلين. إن
اختيار الزبيدي العزلة في بيته كان منجاة له من المشاركة في السياسة
الثقافية التي تولَّت زمامها زمرة من المثقفين الانتهازيين الانفصاميين ذوي
القيم المتصارعة، فهم من جهة (طليعيون) و(حداثيون) ومن جهة أخرى غارقون في
التقليد والتخلف والرجعية والتبرير، على نحو يُفكِّك الروابط بين إنتاجهم
وبين شخصياتهم، ويجعل حداثة نصوصهم حداثة لغوية محضًا وصدًى لقراءات
وانبهارًا وتنظيرًا لا تُصدِّقه الممارسة. إن فساد بعض المثقفين والكتاب
صار لا يُبالي بتشويه القيم الإنسانية الخلَّاقة التي دونها ينحط الإنسان،
أي إنسان، فما معنى تمجيد الخيانة؟!. إن هذا التمادي مكتوب في نصوص بعضهم،
ومُمارَس في حياة آخرين. إن الخيانة خيانة مهما جمَّلها النص، وفي جميع
الأحوال لن يكون الخائن إلا منحطًّا مريضًا. تتبدَّى هذه الخيانة في الواقع
بأشكال كثيرة منها العلاقة المريضة بالمرأة، وإذا كان هذا شأنًا خاصًّا
إلا أن الخيانة هنا تتمدَّد وتتخذ أشكالًا وثيقة الصلة بالعام والمشترك
منها – على سبيل المثال - السلبية تجاه القضايا الوطنية بتبني مواقف حيادية
حين لا تعني الحيادية إلا جُبْنًا وانبطاحًا وتخلِّيًا عن واجب المثقف
العضوي الفاعل ومشاركة في الهدم. يرتبط الأمر بأزمة مثقف يُعاني تبعية
لسلطات شتى تقوده دون إرادته واستطاعته ردعها، أولها السلطة السياسية
وآخرها السلطة السياسية أيضًا، وفي المنتصف قائمة طويلة يتقدمها صراع القيم
داخل المثقف المريض. فما معنى الحرية؟ ما معنى الصدق؟ ما معنى الوفاء؟ ما
معنى الارتباط والالتزام؟ ما معنى الحداثة؟ ما معنى الأخلاق؟ ... كل هذه
القيم لا يستطيع الالتزام بها إلا مثقف يدرك تمام الإدراك معنى أن يكون
مثقفًا أو كاتبًا وقبلهما يدرك معنى أن يكون إنسانًا.
عزلة الزبيدي لم تكن عزلة عن قول
الحقيقة بل عزلة عن الانغمار في لعبة السلطة وتبجيلها والرضى بتلميع
صورتها. خلال أحداث الاحتجاجات العُمانية المُجهضَة بقوة السلاح والأجهزة
الأمنية القمعية خرج المثقفون مع من خرج من العُمَّال والمظلومين والمنتهكة
حقوقهم، ولأنهم رأوا أن (المرحلة) اختلفت عن سابقاتها لبسوا ثيابها وهتفوا
وتحدثوا عن حقوق المواطن وفساد السلطة، وهناك منهم من خرج بحسن نية كما
انخرط في السياسة الثقافية للدولة بحسن نية أيضًا، وبلا وعي سياسي، وهناك
من المثقفين من لم يجرؤ على الخروج مع المحتجين بسبب شدة تورطه في سياسة
السلطة، لكن الغرابة بعد كل هذا أن ينخرط المثقفون مجدَّدًا في لعبة السلطة
السابقة، وكأن شيئًا لم يحدث! هناك من عُرِّض للتحقيق والاعتقال، ثم عاد
ليشارك في جمعية الأدباء والكتاب العُمانيين، دون أن يمتلك ذرة وعي يفكر
فيما حدث وأسبابه، ولماذا خرج محتجًّا أصلًا؟ وماذا يريد؟ وما مفهوم
الإصلاح في نظره؟ وهل يقتصر الفساد على مؤسسات الدولة دون مؤسساتها
الثقافية؟ ألا يستطيع رؤية دوره المشارك في هذا الفساد؟! ما معنى استئثار
أعضاء مجلس إدارة جمعية الكتاب والأدباء بجوائز مسابقات ينطبق عليها وصفها
بالوهمية؟ فقبل سنوات أجاز بعضهم لنفسه الفوز بأكثر من جائزة مسابقة لم
يتقدم إليها غيره! أليس هذا فسادًا واضحًا؟!
أحد أسباب خيانة المثقف العُماني
لقضايا وطنه هو بريق المال وسطوته، والاستعداد للمشاركة في الفساد ما دام
هناك مقابل وشهرة تُعلِي مكانته المتوهَّمة، والجميع يعرف سباق المسافات
الطويلة الذي تسابق في ميدانه الكتاب العُمانيون، وشهد أوجه ابتداء من عام
2006م حين اختيرت مسقط عاصمة للثقافة العربية، فكم من الكتاب (طمعوا) في
ريالات وزارة الثقافة والتراث والنادي الثقافي، وطبعوا كتبهم في مشاريعهما
المسماة زورًا وبهتانًا بالمشاريع الوطنية، وهم يعلمون أن كتبهم لن تُباع
حتى في مسقط؟! إن التبرير سمة من سمات ثقافة من هذا النوع تتوسَّل وتُريق
ماء وجهها وفي الوقت نفسه تزعم العكس، ولا تتورَّع عن الزعم الكاذب بنقيض
ما تفعله دائمًا. كم من المثقفين العُمانيين انتهز جهل الآخرين من رفاقه
بحقيقته وادَّعى أنه ثوري وناقم على السلطة ومطالب بالإصلاح وحقوق الإنسان
والديمقراطية والقيم النبيلة وهو يفتقر إلى الصدق وقيم العدالة والإنصاف؟!
ولم يكن هذا وأمثاله بحاجة إلى كل تلك المزاعم أصلًا، فلماذا لا يكون مثلما
هو على حقيقته؟! لماذا ينزع جلده ويلبس جلودًا أخرى وأقنعة؟! لأنه يدرك
فداحة ذنبه وانتمائه.
الأزمة الأخلاقية والقبلية.. والعزلة كفعل مقاومة:
يعاني الوسط الثقافي العُماني أزمة
أخلاقية مريرة قادها أولئك الذين لم يظلموا تجربة أحمد الزبيدي فحسب، بل
ظلموا تجارب أجيال، ففي الوقت الذي كانت فيه قُوى السلطة السياسية تُمارس
التشويه والفساد، كانت مجموعة من المثقفين العُمانيين تمارس التشويه
والفساد بطريقتها (الثقافية) أيضًا. كانت هذه المجموعة – ولا تزال - تعيش
واقعًا مغايرًا لواقعها المُعلَن، فكم من مثقف من هؤلاء عاش على نفقة ديوان
البلاط السلطاني و«في عزِّه» منذ طفولته وحتى الآن. لكنه يقول العكس حتى
دون أن يسأله أحد، وإنما بوازع من انفصام شخصيته يجد نفسه مسوقًا دائمًا
إلى الكذب. إننا نرى، ببصرنا وبصائرنا، هؤلاء الذين جمعوا ثروة من السلطة،
وسافروا وعاشوا سنين طوالًا في الخارج وباعوا واشتروا، نراهم يشتكون من
غلاء المعيشة وأسعار الكحول المرتفعة، في حين يكون إلى جوارهم مثقفون آخرون
فاغرين أفواههم دهشة أو غباءً أو شماتة؟! بل وصل الأمر ببعض المثقفين
العُمانيين إلى عدم التورع عن الذهاب أبعد من ذلك بكونهم رجال أعمال
ومليونيرات في النهار ومساكين وفقراء وشعراء وكتابًا في اللَّيل!. لقد
قلبوا ظهر المجن على أنفسهم ليزدادوا تشوُّهًا وانفصامًا بمرور الزمن.
والآن، هنا، يزدادون تشوُّهًا وانفصامًا إلى درجة تدعو إلى الشفقة. مَنْ
كان في مقدمة صفوف المدعوين إلى ولائم وزير ديوان البلاط السلطاني طيلة
السنوات الأخيرة؟ أليسوا أولئك الكتاب (الكبار) في مقدمة الذاهبين إلى بيت
الوزير في كل عام؟ لقد بلغ الجشع والانحطاط والرذالة مبلغًا تسابق فيه حتى
المليونيرات إلى تسلم مبالغ تافهة مقارنة بثرواتهم. وبعد إجبار السلطة
المحتجين – بقوة السلاح وشحن المواطنين ضدهم - على ترك أماكن اعتصاماتهم،
وبعد الأحكام القضائية الغاشمة التي أصدرها قضاتها معدومو الضمير عليهم
خلال عام 2011، زاد استشراء الفساد على نحوٍ غير مسبوق في عُمان، فتم توزيع
الهبات والأراضي، وكان في مقدمة المشتراة ذممهم – أو بالأحرى المُعاد شراء
ذممهم - كثير من الكتاب والمثقفين، ولا شك أولئك (الكبار) المعروفون
عربيًّا، الذين لا يشق لهم غبار. ومن العلل المزمنة أيضًا ارتباط بعض
المثقفين والكتاب، كبارًا وصغارًا، ذكورًا وإناثًا، بالأجهزة الأمنية على
نحو مريب ومخجل.
ليست هذه مناسبة للشماتة وتصفية
الحسابات، لكن الواجب يقتضي قول الحقيقة. إن ما أكتبه هنا أعتبره وصفًا لما
يحدث بحذافيره في الوسط الثقافي العُماني وليس تعدِّيًا على أحد. وأولئك
المنزهون عن كل هذا يعرفون أنفسهم ويعرفهم الآخرون أيضًا مثلما يعرف كثيرون
– بمن فيهم الانتهازيون أنفسُهم - فداحة ما ارتُكِب. لقد بلغ الفساد
مبلغًا مريرًا، وللأسف الشديد هناك مثقفون وكتاب وطنيون التزموا الصمت حيال
ما يحدث. لا يوجد وسط ثقافي لا يحتاج إلى اتحاد يجمع شتاته، ولكن لم لا
يكون هذا الاتحاد أو الرابطة (أو الجمعية حسب التَّحرُّزات العُمانية
الحريصة جدًّا على اللغة) مستقلًّا؟! انتظر المثقفون والكتاب العُمانيون
طويلًا جدًّا إلى أن ترفَّقت بهم السلطة، ورضيت عنهم، وأسست لهم جمعيتهم
تلك في عام 2006م، وهم – بسبب الفساد والانفصام وحسن النية واللامبالاة
وانعدام المسؤولية (كل حسب دوره) - غبطوا أنفسهم على ذلك، وأكملوا مشوار
برنامج السلطة السياسي الثقافي. يقول الكاتب أحمد الزبيدي (في حوار منشور
في نهاية هذا الكتاب) عن عدم نشره في الصحافة العُمانية: «كان ذلك مرهونًا
بشروط في مقدمتها السماح بقيام تنظيم مهني أو نقابة للكتاب والمبدعين،
نقابة يضع هؤلاء دستورها وينتخبون قيادتها، وكنا نقول للسلطات إن ذلك لن
يكون "نهاية الدنيا ولا يوم قيامة العالم في كل حال"، غير أن أولي الأمر
كان لهم رأي آخر.» وهذا القول نفسه ينطبق على جمعية الكتاب والمثقفين
العُمانيين التي قَبِلَ منتسبوها بقانون الجمعيات الأهلية الذي لا يمكن
اعتباره قانونًا على الإطلاق، في أيِّ بلد لا يخنق حرية التعبير، ولا يخاف
من المثقف والكاتب، ويرفع مسدسه في وجهيهما. الحال هكذا! لكن المثقفين
والكتاب رسَّخوا جَوْرَهُ وقبلوا به. وفي السنوات الأخيرة، ابتداءً من
أواخر تسعينيات القرن الماضي خصوصًا، أولت السلطة عناية (فائقة) بالكتاب
والمثقفين بعد أن استرعى انتباهها ازدياد أعدادهم (يعتبر المجتمع العُماني
مجتمعًا فتيًّا)، فلمَّعت وجوه من أرادتهم في مقدمة الصفوف للذود عن فسادها
والاستقتال في تلميع صورتها. بل إن السلطة قامت بصنع الكاتب المعارض حسبما
تريد، كي تضمن عدم فقدانها السيطرة على زمام الأمور، وكي تُنَمِّطَ رد
الفعل المطلوب حسب سياستها، رابطةً إيَّاه بالعادات العُمانية وتقاليدها
و(دينها!) وتراثها وأخلاقها وخصوصيتها! وتولت هذه النماذج استنساخ صور أخرى
منها، وبمرور الوقت أصبح الفكاك صعبًا فصار طبيعيًّا جدًّا عدم الاعتراف
بجريرة المشاركة هذه، وصار طبيعيًّا أيضًا تبريرُها وقلبُ حقيقتها بعد
الانغماس فيها وفي ما يرافقها من إفلاس قِيَمِيٍّ وانحطاط وجشع.
تذكيرًا بما قاله الزبيدي عن
التنظيم المهني والنقابي المشروط بالعمل الثقافي نسأل: لماذا لم يتكاتف
الكتاب والمثقفون العُمانيون لتأسيس اتحاد أو (جمعية) مستقلة غير خاضعة
للسلطة وبرامجها السياسية الثقافية؟ لقد طرحت هذا السؤال على عدد منهم في
سنوات ماضية لكن الفرق بين إجابتهم وإجابة الزبيدي كانت شاسعة جدًّا بقدر
الشساعة بين الصدق والكذب، وبين المقاومة والتخريب، وبين العمل والانتفاع،
وبين الواجب والخوف. وإذا كانت الحال على هذه الشاكلة المتردية. فلا غرابة
أن يحتج بعض المثقفين والكتاب، ويعتقلوا ويحجزوا ويُعرَّضوا للترهيب
والتحقيق والإجبار على كتابة التعهدات، ثم يخرجوا من معتقلهم ليقوموا
بدورهم (المطلوب بقوة والضروري جدًّا) من أجل خاطر عيون ثقافة ومجتمع عملت
السلطة طيلة أربعين عامًا على النهوض به وإخراجه من الظلمات إلى النور! ما
يدعو إلى الأسف أيضًا النتيجة التي أدت إليها هذه الأوضاع المزرية، إذ
اختفى كتاب من الساحة الثقافية بعضهم كان قد بدأ بداية قوية، وآخرون انتهوا
نهايات مبكرة، وآخرون أهدروا طاقاتهم الإبداعية الخلَّاقة في الذرائع
والحجج وإدمان الكحول والكسل والاستسهال والتأجيل وتبني قناعات مُكابِرة
وانعدام التأمل ومحاسبة النفس والاعتراف بالأخطاء والعمل على تداركها،
وآخرون كتبوا وظلوا يكتبون دون إدراك أنهم عالة على الكتابة. قبل عدة سنوات
كتب أحد قادة ثورة ظفار ذكرياته المتعلقة بالجبهة، وقبل أن يهم بنشرها في
كتاب ألقت السلطة القبض عليه، وزجت به في السجن على الرغم من كبر سنه
ومرضه، ثم شاع وقتها أن صفقة مالية قضت على المُذكِّرات واجتثتها من
جذورها!
يقول سرﭬانتس: "استَبْعِدِ السَّببَ
فتتوقَّف النتيجة تلقائيًّا". هكذا يصبح واضحًا ومفهومًا استشراء نتيجة
فساد المثقفين وامتدادها لتشمل الأجيال الأحدث منهم، فمثقفو عُمان (الكبار،
مدلَّلوا السلطة المتمرغون في نعيمها) يُلقِمون نار الفساد – الفساد
الثقافي وفساد السلطة عمومًا - حطبًا كافيًا لسنوات أخرى مقبلة، ويُبرِّدون
قلوبهم بالمكافآت الباذخة، ويواصلون الكذب في الحياة والنص معًا، فهذا
انعكاس لتلك، والذين يدركون مرارة الوضع قلة للأسف الشديد. وهناك من يريد
اختراق السلطة عبر مؤسساتها وجمعية كتابها ومثقفيها، لكنْ هل ينجح في هذا
وهو منضوٍ تحت لوائها؟ هل يَعتبِر إقامة أمسية أو ندوة مختلفتين اختراقًا
للفساد الثقافي؟ إن هذا الاختراق – إنْ صحَّ - مُعرَّض للإصابة بعدوى
الفساد نفسها، وفي أحسن الأحوال الرضى بمساحة الحرية الممنوحة والتسليم
بها، ولأن السلطة أشد خبثًا ونفاقًا، لا يلبث أن يصبح اختراقها المزعوم
ديمقراطيَّة ووسيلة تزيد صورتها لمعانًا، إذ كل ما يصدر من مؤسساتها
مُسجَّل باسمها، ويستحيل حدوثه دون إذنها.
الأمرُ الغريبُ الذي افتقد هذه
الصفة وما عاد يدهش قطُّ أنه بينما كان الزبيدي يتعرض للتحقيق في "القسم
الخاص" بـ"القيادة العامة لشرطة عُمان السلطانية" كان من يفترض أن يكونوا
الأشد قربًا منه، ومن تجربته، يُشاركون في مهازل السلطة، ويُحيون إحدى
أمسياتها الميِّتة، ويقرأون نصوصهم الافتعالية الركيكة أمام وزير من أعتى
وزراء السلطة العُمانية تخريبًا وتدميرًا؛ هؤلاء الأموات اتصفوا دائمًا
بنفاقهم المتذاكي، الذي ما عاد مستترًا ومنطليًا، كما كان قبل سنوات، فقد
جاءت الأعاصير في السنين الأخيرة وتغيرت الأيام والأوهام، وانقشعت الغمامات
الكاذبة. سقطت أوراق التوت، وأشرقت الشمس وعرَّت ما كان يصنع ظلامه الخاص،
وهَتَكَتْ أستار أقنعته. وبعد السابع والعشرين من فبراير 2011، بعد انطلاق
الاحتجاجات في صحار الحُرَّة وامتدادها إلى ظفار وصور ومسقط، وما تبعها من
أحداث حتى إخماد شرارتها الوليدة، وبفضل أولئك العُمَّال والوطنيين
الخُلَّص غير الباحثين عن أي مجد، أُجبِرت السلطة على إجراء بعض التغييرات،
وإفساح مساحة أوسع لحرية التعبير، لكنْ دون إدراك عميق لما يجب أن يناله
المواطن من كرامة وحرية وعدالة ومساواة وحق. إن من حسنات الاحتجاجات
الشعبية أنها كشفت الفساد السياسي الاقتصادي والثقافي أيضًا، وكثر –قليلًا-
عدد الذين يعون مزالق الفساد الثقافي التي أوقعهم انعدام تبصُّرهم في
أتونه.
تستدعي الكتابة عن الكاتب أحمد
الزبيدي الإنسان والمبدع، وما ناله من تهميش وظلم، الحديث عن وضع ثقافي
طالما مارس أشد أخطائه و(جرائمه) صَلَفًا، وطالما سكت عن محاسبة نفسه. أليس
إلغاء الوعي جريمة؟ أليس الخداع والتشويه جريمة؟ أليس الاستسلام والانصياع
والتذرع جريمة؟ أليس الافتعال والكذب والدجل جريمة؟ أليس التواطؤ والتعامي
والاستسهال جريمة؟ أليس التهميش جريمة؟ هناك من العداوات بين المثقفين
والكتاب العُمانيين، باتجاهاتهم شتى، ما يحول دون قراءتهم الواقع المزري
قراءة متعمقة. ولعل المشكلة تتفاقم أكثر بسبب توحُّد الأهداف النهائية لمن
هم في طليعة هذا الوسط. نقصد بالأهداف النهائية هنا (مكاسب الانتهازية)،
وهي الحرب الدفينة المشبوبة بالغيرة الشخصية، والممارسة بمسميات برَّاقة لا
تفتقر إلى مزاعمها ومبرِّراتها الخادعة. المكابر فقط ينكر تأثير القبلية
الخطير في توجيه سلوك العُمانيين عبر الزمن، ووظيفتها الجديدة بعد الانقلاب
الإنكليزي، وأغلب المثقفين والكتاب والأكاديميين العُمانيين ينكرون ذلك،
وهناك منهم من يتقاضى راتبًا شهريًّا من الدولة باعتباره شيخ قبيلة! السؤال
هنا كيف تتواءم قيم القبيلة والحداثة معًا؟ كيف يحارب المثقف والكاتب فكرة
وهو يمارسها أصلًا؟ كيف يكون المثقف والشاعر والقاص والروائي والكاتب
والأكاديمي والباحث طليعيًّا حداثيًّا وقَبَلِيًّا في وقت واحد؟! هذه صناعة
عُمانية بفرادة منقطعة النظير.
أحمد الزبيدي يكسر القاعدة ويوجه
عبر روايته ومجموعتيه إدانة ضمنية إلى مظاهر القبيلة السالبة لكرامة
الإنسان، والمانعة لقيام مجتمع مدني متحضر، بيد أنه يعي مقتضيات السياق
السردي ولا يقتحم النص كيفما اتفق، وتُهيِّئ له السخرية معينًا لا ينضب
لتبني آراء شخوصه أو ترك الراوي يقوم بمهمته العسيرة دون تكلف. الإيمان
بالقبيلة في هذا السياق يتعلق بالإنسان والكاتب معًا. كثيرون يستحقون
الشفقة والرثاء، لأن وعيهم لم يستطع تجاوز ما تربَّوا عليه من العنصرية
القبلية، وظلوا أسارى التخلف. وهم بذلك لا يفعلون في الحقيقة إلا الرضوخ
لأمراضهم وعقد نقصهم الدفينة، فأنْ يكون معيار تقييم الإنسان أصله العرقي
ولونه أمرٌ مفهوم إذا تعلق بكبار السن مِمَّن ترسَّخت الفظاظة والرؤية
المنغلقة في أرواحهم، وانتفت أهميتهم خارج هذا الإطار. لكن كيف لمثقف وكاتب
أن يفكر بهذا المنطق ويتعامل من خلاله؟ إن ما لا يدركه هؤلاء أن كل إنسان
في الواقع تراثُ أبويه، لكنه يجب أن يُفارِق كل تراثٍ لاإنسانيٍّ مهما كان
مصدره، ناهيك عن أن سلوكهم يفضح أعماقهم تمامًا مثلما تتكشف شخصية خالد عوض
الريحة وتنفصم بين خالد وفهد، حين تغلب انتهازيته أعماقه وتنتصر لقيم
الانحلال الخلقي.
يتناول أغلب المثقفين والكتاب
العُمانيين مسألة القبلية بريبة وحذر، إلا بين المتفقين في توجههم،
إنسانيًّا أو لاإنسانيًّا. والملاحظ أن هناك من يمقتها تمامًا لكن وطأتها
عليه تحول دون استطاعته الفكاك منها، بل هناك من بدَّل اسمه بسببها، ولعل
السبب في ذلك عدم اجتثاثه إيَّاها من جذورها، وغَلَبَة سنين التربية
القبلية عليه وفشل شخصيته المستكينة في محوها، وهناك من يتخذها سلاحًا بسبب
انعدام وزنه خارجها، إذ يشبه آباءه حدَّ المفاخرة بسموِّ (أصله) ودناءة
(أصل) من يتخذهم موضوعًا لممارسة عنصريته. وهناك من ينكرها ولا يستطيع
ملاحظة طغيانها عليه في مفردات حديثه وسلوكه! يحدث هذا بسبب ركاكة الرصيد
القِيَمِي الأخلاقي عادة، ناهيك عن تضخم الفشل الذاتي المتعلق بالكتابة
والإبداع وتفاقمه وطفوه على السطح كلَّما اعتقد بتفوق من يحتقره عليه.
وآخرون لهذه الأسباب مجتمعة أو لبعضها أو لأسباب أخرى يتحسَّسون من بسط
الموضوع على طاولة النقاش والبحث متهمين الطرف الآخر بالقبلية، على الرغم
من تاريخ القبلية المجرم في عُمان، ونتائج ترسخه فيها واستمراره، وقيام
السلطة بأشكالها كافةً على قاعدته حتى الغد.
ولعل أحمد الزبيدي أول من تطرق إلى
"حقوق الإنسان" في عُمان من خلال عمل إبداعي، وإن بصيغة تهكمية، في فترة
تعتبر باكرة بالنسبة إلى بلد منغلق. يقول في قصة "انتحار عبيد العُماني":
«وعلاقتك مع الجثتين، وتلك العادة السرية.
وماذا في الأخيرة؟
- طابعها السري.
- ولكنها مسألة تتعلق بحقوق الإنسان.
- هذه أيديولوجيا مستوردة.
- من أميركا.
- ولو!
- والآن؟
- من باب حقوق الإنسان اختر طريقة موتك.
- أفهم من هذا أنني محكوم عليّ؟
- بالإعدام"(1).
تعتبر
حقوق الإنسان قضية مرعبة للسلطات العُمانية لكنها، بسبب فشلها في إدامة
سياستها ذات الطابع السري، وبسبب فضحها في العالم الخارجي، أُجبِرت على
إنشاء مهزلتها الجديدة ("لجنة حقوق الإنسان"). قليل من الكتاب العُمانيين
يفضحون انتهاكات السلطة لحقوق الإنسان، وأغلب الكَتَبَة والمخبرين
المأجورين الحديثي السن يهرفون بما لا يعرفون، وهم ينفذون سياسات السلطة
الساعية إلى تشويه صورة ناشطي حقوق الإنسان في عُمان، وهؤلاء –برغم ذلك-
يتصدون لهم ويلقنونهم أقسى الدروس على شبكة الإنترنت، وخاصة أولئك الشباب
الوطنيين الثائرين في مواقع الاحتجاجات الإلكترونية. أما الكتاب (الكبار)
فإن الدولة ألقمتهم منذ زمن بعيد مالًا كافيًا لسد أفواههم وكل ثقوبهم
المرعبة، وضمان ألا تَصِرَّ أقلامهم، على الرغم من أنهم استطاعوا الحفاظ
على صورهم كـ"مناظلين" و"ثوَّار" و"ناقمين" في الوسط الثقافي العربي الذي
يجهل كل شيء تقريبًا عن عُمان، ما عدا المكانة العظيمة لهؤلاء الثوار
العظام، وتجاربهم الإبداعية العظيمة! بل إن بعض الكتاب والمثقفين العرب لا
يعرفون حتى كيف ينطقون اسم عُمان بشكل صحيح ويقولون: سلطنة عمَّان!، وبعضهم
تبرع بالكتابة والظهور في القنوات الفضائية ليشكر الدولة التي كرَّمت
مبدعيها الكبار! إن ما لا يستغرب منه، في أجواء وأحوال ملتبسة كهذه، أن
تُجرَى مقابلات صحفية مع مسؤولي السلطة الجهلاء – كأغلب مسؤولي السلطة
ووزرائها - لينعتوا ما يكتبه أحمد الزبيدي بالتخريبي والهدَّام.
أحمد الزبيدي.. الكاتب والمتن السردي:
في بداية التسعينيات عرفنا -نحن
الذين نسبت كتابتنا في وقت لاحق إلى هذا العقد- اسم الكاتب أحمد الزبيدي
مثلما عرفنا اسم مظفر النوَّاب وما يثيره حتى ترديد عناوين قصائده. قليلون
–في ذلك الوقت وربما حتى الآن- قرأوا أحمد الزبيدي الذي حتى سنوات قريبة لم
يكن قد نشر إلا مجموعته القصصية الأولى (انتحار عبيد العُماني)، فوقتها
كان محظوظًا من يستطيع الحصول على نسخة مصوَّرة من هذه المجموعة. كانت
تمثيليات السلطة في أوجها، وتلك العناوين البرَّاقة المصبوغة بمكياج
الخديعة الباهر ("النهضة المباركة" ومرادفاتها) تكاد تندمغ على جباه
الكتاب. الآن اندمغت على جباه الأكثرية، وصار واضحًا ومحسومًا أن الثرثرة
وأحاديث الحانات والمقاهي لن تمحو أبدًا حقيقة الأفعال الممارسة على أرض
الواقع. إن التهميش الذي طال أحمد الزبيدي لم يقتصر على التجاهل الرسمي
المتعمد فقط، بل إن مجموعة من الكتاب العُمانيين أنفسهم ظلموه بصور شتى،
أثَّرت في صورة إبداعه الحقيقية، وطبعت صورة خاطئة أخذت دائرتها تتسع وتؤثر
في آخرين لم يقرأوه، وبالتالي حرَّضتهم على عدم معرفته وقراءته في مجتمع
يكذب فيه الكتاب كثيرًا، ولا يقرأون، ويبنون آراءهم على آراء آخرين
وانطلاقًا منها؛ فهناك شعراء مثلًا يرون أن الزبيدي لا يجيد الكتابة! ويرون
كتابته هذيانًا! هذه الصورة هيمنت –بالتقادم- على وعي كتاب آخرين، وحالت
بينهم وبين سعيهم إلى تكوين رأي حيادي في مجموعة (انتحار عبيد العُماني)
وفي مكانة أحمد الزبيدي الإبداعية في مسار القصة القصيرة في عُمان،
باعتباره رائدًا مجدِّدًا تجاوز تأسيس عبدالله الطائي وخطا به خطوات أبعد،
رسَخَت في أرض الحداثة المفتقدة أساسًا في عُمان الناشئة على صعيد كل شيء
في ذلك الوقت، إلا على صعيد امتداد الدكتاتورية بمظهر جلبه الاستعمار
والبترول بطريقة تُلائم "التغيير" المطلوب المفروض من طبيعة المرحلة
الجديدة.
في عام 1985م نشر أحمد الزبيدي في
دمشق مجموعته القصصية الأولى (انتحار عبيد العُماني)، إلا أن زمن الانتهاء
من كتابة قصص المجموعة يعود إلى أواخر السبعينيات ورأس عقد الثمانينيات
الماضية، فأحدث قصصها «العُمانية في السّكّة» مؤرخة في 21/12/1981م، بينما
أقدمها، وهي القصة التي تحمل عنوان المجموعة ("انتحار عبيد العُماني")
مؤرخة في 28/4/1978م(2). وإذا
ما وضعنا في الاعتبار –كما في أغلب الكتب- أن بداية الكتابة تعود إلى زمن
أسبق، فقد تعود البداية الفعلية إلى منتصف عقد السبعينيات أو إلى تاريخ
أسبق؛ وفي جميع الأحوال فإن كتابة قصص (انتحار عبيد العُماني) تمت في زمن
لم يكن قد ابتعد بعد عن وقوع أحداث ثورة ظفار وتداعياتها، وهو ما يعني أن
التفاصيل كثيرة جدًّا، تنبع من الذاكرة الطرية المزدحمة بالأسئلة الأكثر
حرارة عن أسباب النهاية، ومآل الرموز، وافتضاح المستتر، ونبش المدفون،
وانكشاف المفاجآت، وتحليل المواقف وربطها ببعضها بعضًا، وما إلى ذلك من
متعلقات.
ثورة ظفار و«الانقلاب الإنكليزي»
وما جرَّه على البلاد إذن، هي محور أعمال أحمد الزبيدي، لكن لا يعني هذا أن
الهم السياسي طاغ على العمل الأدبي. إن تفحص أكبر الأعمال الأدبية في
العالم وأشهرها وأعمقها يُسقِط التكهنات المبنية على أساس الفصل بين العمل
الإبداعي ومحيطه، ويكفي هنا أن نستحضر ماركيز وعمله (خريف البَطْرَيَرْك)،
وجميع أعمال زكريا تامر القصصية، ورواية (البصيرة) للروائي البرتغالي جوزيه
ساراماغو، ورواية (اللجنة) لصنع الله إبراهيم، و(الرهينة) لـزيد مطيع
دمَّاج، و(ثلج) لأورهان باموق، فما دامت هناك سلطات دكتاتورية سيكون أمرًا
مفروغًا منه أن تتشكل شخصيات العمل الروائي من الناس الواقعين تحت هيمنة
هذه الدكتاتورية، وهكذا، فهؤلاء –حتى إن عاشوا منعزلين عن مجتمعهم- يقعون
تحت سطوة سلطته السياسية بأشكال ومضامين شتَّى.
يقوم بناء أي عمل قصصي أو روائي على
شخصياته، فهي التي تصنع أحداثه، وفي غيابها يتهدَّم البناء وينهار وتنتفي
قوة العمل الفنية. إن شخصيات الأعمال القصصية والروائية صدًى وانعكاسٌ
وظِلالٌ وصورٌ لشخصيات الواقع. حتى الفنتازيا نفسها تنبجس من واقع الإنسان
لتُعبِّر عن مكنونٍ فكريٍّ معيَّن ينبع من سلوك الإنسان نفسه وليس من خارج
ذاته، وحتى إن فارق الخيالُ المعقولَ والممكنَ ينبغي عدم تجاهل أن مصدر هذا
الخيال ذاتٌ إنسانية، أي أن المنبع والمصب في نهاية الأمر لن يتجاوزا عقل
الإنسان، إلا إن كان العمل السردي مكتوبًا من قبل كائن غير إنساني، وهذا
مستحيل، في الأقل فيما يتعلق بالروايات والقصص التي نحن بصددها. هكذا يتبين
أن شخصيات أحمد الزبيدي بدورها انعكاسٌ لواقعه، لمكانه، لوطنه، في برهته
الراهنة وفي تاريخه، لكن فارقًا شاسعًا بين الواقع وبين النص، إذ ينبش النص
ويحفر ما لا يطفو ولا يتضح على الواقع، ففي الوقت الذي تكاد تكون فيه
شخصيات الواقع ساكنة مستكينةً خاملةً ميِّتة تثور ثائرة شخصيات النص وتنفجر
معارضة ومتمرِّدة ورافضة ومحاربة! بلغة أخرى: شخصيات النص فاعلة، وشخصيات
الواقع خائفة منكمشة منافقة. إن ما لا نستطيع ملاحظته –في كثير من الأحيان-
في الواقع يسبر النص غوره وينير ظلمته. هذا هو دور الفن والأدب. ومهما
آمنا بالفروق بين الواقع والنص لن نستطيع قطع أواصرهما، لأنهما متصلان على
نحو يستحيل تجاهل عراه الممتدة من أحدهما للآخر. إن الخلاف –إن وُجِد- سببه
الكيفية والأسلوب والتقنية وقوة الكتابة أو ضعفها، وليس انبتات الصلة. نص
الزبيدي في نهاية المطاف يبرز لنا ما خفي وتستر في المكان وشخصياته.
وطالما مثلت الأعمال الأدبية أهمية بالغة انطلاقًا من شخصياتها وفضاءاتها.
معرفتنا لأي شخصية يُحدِّدها العمل
وأفكاره. هناك أعمال أدبية لا تذكر إلا بأسماء شخصياتها، مثل (الجريمة
والعقاب) لدوستويـﭭسكي وشخصية «راسكولنيكوف»، وقصة (المسخ) لكافكا وشخصية
«غريغوري سامسا»، و(اللص والكلاب) لنجيب محفوظ وشخصية «سعيد مهران» وشخصية
«السَّيِّد نسيب» في رواية (غابرييلا وردة وقرنفل) لجورجي أمادو، وشخصية
«سعيد نصَّار» في رواية (سرد أحداث موت معلن) لغابرييل غارسيا ماركيز،
وشخصية «زوربا» في رواية (زوربا) لنيكوس كازنتزاكي. هذه الشخصيات تستمد
أهميتها من حركتها وفعلها داخل العمل وكونها محور أحداثه. وعمومًا فالشخصية
هي صميم أي عمل سردي. وفي أعمال أحمد الزبيدي الثلاثة تمثل الشخصيات مركز
السرد، وتقدمها الأحداث مغلفة بالرمز. ولعلَّ هذا انعكاسٌ لطبيعة الأفكار
في أعمال الزبيدي، فأعماله الثلاثة جميعًا تقوم بشكل أساس على "ثورة ظفار"
و"الانقلاب الإنكليزي" وما تلاهما. نابشة في التاريخ العُماني ومثيرة
الأسئلة حول ظروف الإنسان في هذه البقعة وما حدث فيها من استعمار وأنظمة
حكم وحروب واضطهاد وتمرد ورفض. وعلى النقيض ممَّا قد يحيل إليه التصاق
الأفكار بقضية وطنية يكتب الزبيدي بحساسية عالية تجعل حضور كل شيء
أساسيًّا، لا وصف أو عوامل ثانوية ممهدة تتوسَّل لغة تتراصُّ في جملها
معانٍ جوفاء زائدة. يكاد كل سطر يشترك في صياغة الحدث ودفع سيرورة
الشخصيات. سرد ينبغي قراءته بحذر، فكل ما يرد فيه قد يتأنسن فجأةً، وحتى إن
بقي كما هو قد يمتلك إمكانياتٍ غير متوقعة أبدًا تخوله الدخول في بنية
السرد وصنع أحداثها. وإن بدا الأمر حينًا أنه مجرد صيغ شعرية يأتي فجأة
ليداهم أي تصور سابق، أيَّ وتيرة متعارف عليها ويفعل فعله عبر تراكم
الإشارات: «قهقه الكولونيل وأكد: هذه محكمة عسكرية ... –وأضاف- الإجراءات
هنا سريعة وميدانية .. ثم لبس وجه الغضب وتكلف الجد وقال: "لقد حكمت على
صديقتك الفراشة بالإعدام ... وحكمنا عليك أنت باستبدال رأسك»(3).
وفيما كان الجنود يحشون بنادقهم ويصوبونها على صديقتي الفراشة كان "عمال
البلدية" يعملون على قدم وساق لتفكيك رأسي القديم وتركيب إشارات المرور
برأسي الجديد ... وعندما دوت طلقات الجنود وسقطت صديقتي الفراشة جثة
هامدة.. وبفعل من رأسي الجديد .. ربما.. وربما بفعل خطأ من جهاز الكمبيوتر
الذي زود به رأسي الجديد ذهبت وبلت على الجثة الهامدة ... ثم حزنت لذلك
حزنًا شديدًا حتى إنني لفرط حزني استعرت مدية الكولونيل وقطعت عضوي الذي
فعل ذلك.(4)
ثورة ظفار.. فك الشفرات السردية وحضور الطبيعة:
فك شفرات الرموز ودلالاتها في كتابة
الزبيدي ليس عملية سهلة على الإطلاق. المفتاح الرئيس في يد القارئ، ألا
وهو "ثورة ظفار" وحضورها بطرق شتى إحداها تاريخ قيامها 9 يونيو 1965م، ووصف
تلك الليلة بـ"الليلة البيضاء الكبيرة" –مثلًا- في قصة «النعش»(5)،
لكن ماذا بعد ذلك؟ ألا توجد مفاتيح أخرى لأقفال أخرى؟. على القارئ أن يلم
بتفاصيل بالغة الدقة فيما يتعلق بالظروف المحيطة بالثورة، بالتاريخ السابق
عليها والتحولات التي جاءت بعد إخمادها ومجيء العهد الجديد الفاسد كما يظهر
في قصص أحمد الزبيدي وروايته المُوجِزة للحكاية كاملة عبر وصفها بكلمتين
بليغتين «الانقلاب الإنكليزي». وعلى القارئ أن يتسلح بالمعلومات كي يستطيع
فك شفرات سرد الزبيدي ورموزه، ليس لأنه يكتب ألغازًا بل لأن أسلوب كتابته
ينحو نحوه الخاص الذي يحتاج إلى مفاتيح تفك مغالقه، فكل شيء يحدث في هذه
القصص: ينبعث الميت من قبره، الحيوانات تحدث الإنسان، الطبيعة لسان حال
المظلومين تغضب وتنطوي على نفسها بناءً على سياق الأحداث، والشمس تُعلِن
انحيازَها لعبيد ورفاقه(6). هكذا تصبح الطبيعة في أعمال الزبيدي
شخصيَّات ثانوية داعمة للأحداث المفصلية الجارية، إذ ينعكس المناخ العام
على البشر والطبيعة: «أطبقت الحرب أنفاسها على صدر المدينة المسلول، ولبست
السيدة الشمس قناعها ركامًا فوق ركام، وتظاهرت طيور المدينة وحيواناتها
منذرة كما في حالات العواصف الزاحفة من العوالم البعيدة أن في الجو ثمة
شيئًا ... شيئًا بلون الكارثة»(7). "البحر كان غنوصيًّا، مواربًا، انكفأ على حافة المدينة يُغالِب ضحكة مكتومة"(8).
«لم يرق هذا المزاج البحري لأخته رحمه فنهرت البحر بـ: بس يا بحر. غير أن
البحر الذي اعتاد على مزاج صبايا صلالة المتقلب تعرى أمامها مواصلًا رقصته
الأبدية واصطخاب موجه الدائم وكأن شيئًا لم يحدث في ليل صلالة المدلهم.
لِمَ احتكم عوض الرّيحة إلى البحر يطالبه بجواب»(9). «كانت الشمس تتسلل كسلى، شاحبة، ضجرة، مكدودة من نهار سخيف. ولم يكن شحوبها وضجرها هذا تعبير(10)
عن طور من أطوار طبيعتها المتقلبة التي ترتديها السيدة الشمس في نهاراتها
المعتادة حين تضاجع أو «يروق لها أن تضاجع أراضي وسهوبًا أخرى.»(11). «والنبع الصفصاف كعادته يعصر لهما من سويداء قلبه رحيق الخمر الحميري الرَّقيق»(12). «السهوب المحاصرة بالساحرة الشمطاء ... وذبابة الجبل السوداء السمينة»(13). «تساءل الهدهد الصغير في حيرة: ماذا أرى؟»(14). «إن السيد المطر يرسل له في يونيو من كل عام "... مطيرة من لبن بمناسبة دخول السيد عبدالله عدن.»(15)
لقد اقتبسنا أمثلة كثيرة للدلالة
على حضور الطبيعة في أعمال الزبيدي، لأن هذه السمة تشكل سمة رئيسة في سرده،
ولأن حضورها قوي وبارز، فأحداث فضاءاته تتركز أغلب الأحيان –بما في ذلك
أحداث الثورة- وسط طبيعة جبال ظفار الخلَّابة بأشجارها وعيون مائها
وطيورها. على القارئ أن يكون قارئًا للكتب المؤرخة لثورة ظفار والمحللة
لها، لتاريخها والتاريخ المضاد لها، لتواريخ وأسماء الشخصيات والاتفاقيات
والظروف، فالقصة والرواية لن تفكا له مغالقهما إلا بإلمامه بتفاصيل تفاصيل
المرحلة، وإلا فإن جهله سينعكس قراءة ظالمة للنص. هذه هي طبيعة سرد
الزبيدي. هكذا في جميع قصصه برغم ارتباطها بالأجواء نفسها تقريبًا، وبرغم
تكرار ثيماتها إلا أنها لا تتكرر، فثمة فروق بين قصة وأخرى؛ وهذه وتلك –مرة
أخرى- تحتاج إلى ما يفك مغالقها. إلام ترمز الأم في قصة "النعش" مثلًا؟
إلام ترمز امرأة مخزن الذرة الصفراء؟ إلام يرمز الموت والانبعاث في عالم
منهار؟ مَنْ هؤلاء: الميجر تيم، السيد بيلي، السير بلتر فرير، الليفتننت
نجيلي، الميجر مالكوم جرين، كوتون وي، الكابتن جورج اتكنسون، تشونزي ...
الطرادان فيجلاند وارجوس، السلطان تاج الرؤوس ولعبته المفضلة؟ في أي سياق
ترد هذه الأسماء وما مرامي ورودها: ابن المقفع، أحمد بن حنبل، الخليفة
المأمون، بشار بن برد، المتنبي، الحلاج، السهروردي، أبو ذر الغفاري،
الحسين، ابن رشد، الفاروق عمر، عثمان، ابن أباض، علي بن أبي طالب، ناصر بن
مرشد، ملك الجن سليمان، مينرفا، ذو نواس، المنجوي، ديونيسيس، سيف ديموقليس،
كارلوس، بريجيت باردو، ميامي، هاييتي، جابي الضرائب البريطاني، كريستين
كيلر، لين بياو، بون ماريوف، لوط، طرزان، أرسين لوبين، بوكاسا، مضيق هرمز،
عنترة العبسي, البرامكة، حمدان بن قرمط، الإمام أحمد بن سعيد، حمزة بن عبد
المطلب، المنغستو بن مريام، الحجاج بن يوسف، الطاغوت، ماركو بولو، بليكور
كالاتشا، مطلق المطيري، سيتون، بروس، طومسون، شيشرون، مضيق هرمز، أعشى
همدان، بنو العباس، بنو أمية، الجلندى، خارجي، ثلاثة الكباتنة، الرجل
الأشقر، القناص الأشقر؟. من أين استُلَّتْ هذه العبارة: "حتى يبلى التراب
ويشيب الغراب"؟. ما دلالات "يأجوج ومأجوج" و"حثالات البدو"؟
والآن سنقتبس أجزاء من قصة
«العُمانية في السّكّة» ونترك تحليل رموزها للقارئ: «السيد سلطان نفسه يبدو
مولعًا بالأسئلة أكثر منه بالإجابات. وإلا كيف يتجاهل وهو العالم ببواطن
الأمور أن السيدة الوصل طالما خلعت جلدها وتوشحت قناعها.
- .. نعم.. أعرف ذلك. يؤكد السيد سلطان.. ما عادت الوصل إلا أثرًا بعد عين..
- هي الآن دبي .. الظاهر قناع من زمرد والباطن
- والسكة ما شأنها..؟
- النقطة غسلت عارها بماء البحر.. والسكة شرفة يطل منها المجوس.»(16)
«السكة في قناعها الأفعواني الباهي الجديد الذي رصعته
رؤوس أفاعٍ فغرت أشداقها.. وحمته أذرع ملتويات عابسات لا حصر لها ولا عد لم
تكن تطيق امرأة مشوشة كالسيدة راية تدعي علاقة بشخص مشبوه يطارده البوليس،
وينفر من سيرته أصحاب العقول الواعية الرصينة .. ومع ذلك فقد تحملتها
القوَّادة على مضض:
- لأن هناك في البوليس من يهمه هذه الخرافات.
وواستها جارتها الإيرانية بـ..:
- "لا تقنطوا من رحمة الله..".
وأكدت لها زميلتها العراقية بأن:
- العمل شرف..
الزبائن نظروا لها مشدوهين ومضغوا شفاههم بـ:
- كأنها عُمان.»(17)
ينبني سرد الزبيدي وينمو من خلال
تقنيات عديدة منها: التقطيع، والعناوين الفرعية، وتداخل الحكايات،
والاسترجاع، والمونولوغ الداخلي، والتقسيم حسب الحروف الأبجدية، والرموز،
وإشراك القارئ واستمالته وتحييره، والنَّفَس الواحد الطويل الممتد الذي لا
تتخلله عناوين ولا ينقطع حتى النهاية. ويشكل النقد والإدانة سمتين رئيستين
تضافان إلى سمات كتابة الزبيدي الأخرى، وتظهران بأكثر من وسيلة حين
يستدعيهما احتدام الأحداث والشخصيات. وتُوجَّه الإدانة من خلال الشخصيات أو
من خلال الراوي نفسه. على سبيل المثال يرى أكثر من راو في أعمال الزبيدي
أن الإنكليزي لا يأتي بالخير أبدًا، يأتي بالفتنة والمؤامرة والتعذيب.
ولنقتبس مثالًا آخر من (إعدام الفراشة): «قارئ هذه الأسطر سيعتب ... سيقول:
وما الضير في ذلك ما دامت الحكاية برمتها قد عفا عليها الزمن؟ وما دامت
المرحلة المحكي عنها قد بال عليها الأبناء والأخوة والأعداء والأصدقاء،
ولعنت "سنسفيل" أجدادها الصحف الحمراء والبيضاء ... السوداء والصفراء،
وتخلص من تهمة مناصرتها وحتى معاصرتها ما أمكن كهنتها، صناعها، عسكرها،
قضاتها، شيوخها وحتى مخانيثها.»(18) ويقول الراوي في (أحوال القبائل عشية الانقلاب الإنكليزي في صلالة): «الجلندى كان جيفارا عصره».(19)
وهذا رأي نقدي في الإمام الجلندى بن مسعود الذي يعتبره الراوي شهيدًا
وطنيًّا لم يستغل منصبه لأغراض شخصية، وفي أكثر من سياق آخر ينتقد الراوي
أئمة الإباضية الضعاف والمتغطرسين.
التناص والرمز.. والإحالات السردية:
وبسبب اشتراك أعمال الزبيدي في
ثيمتها الأساس يشكل التناص سمة أساسًا فيها هو الآخر. ولا يقتصر التناص على
(انتحار عبيد العُماني) و(إعدام الفراشة) فقط، فحتى روايته الوحيدة
المنشورة (أحوال القبائل عشية الانقلاب الإنكليزي في صلالة) تتناص
ومجموعتاه القصصيتان، ليس على صعيد الموضوع (ظفار الثورة وتداعياتها) فحسب
وإنما على أصعدة شتى منها التوظيف والوصف أيضًا. ولأن عمل الزبيدي الأخير
رواية وليس قصة فإنه يدخل في تفاصيل إيضاحية رمَّزها كثيرًا في القصص.
سنتناول هذا التطور في تجربة الزبيدي من زوايا مختلفة لاحقًا، ولكن سنشير
هنا سريعًا إلى التناص بين (أحوال القبائل عشية الانقلاب الإنكليزي في
صلالة) وبين (إعدام الفراشة)؛.في (إعدام الفراشة) على القارئ أحيانًا إكمال
المعنى بنفسه، وحسب مقتضى السياق الرمزي، إلا أنه في الرواية يتلقى سردًا
أكثر تفصيلاً. إن المدى السردي المرتبط بعدد الصفحات في القصة القصيرة،
والظروف السياسية التي يعيشها الكاتب، يشتركان في تمكين الرمز من احتلال
وعي الكاتب والقارئ معًا، عبر سرد يُذكِّر –من ناحيةٍ ما- بمنحى (كليلة
ودمنة)، وإن كانت الأسباب والنتائج مختلفة. الرمز يقول ما لا يستطيع الكاتب
قوله مباشرة. الرمز دثار الكلمات وحليفها وكنفُها المُضلِّل لسلطة
الإدانة، الرمز حامل التورية، مُعبِّد المسالك الممنوعة والمحرمة
ومُعدِّدُها يشكل سمة واضحة في سرد الزبيدي. قبل إيراد أمثلة على التناص في
أعمال الزبيدي نتشعب قليلًا في ما يتعلق باستخدام الرمز في سرده والسرد
الذي كتبه سُرَّاد عُمانيون آخرون. في تسعينيات القرن الماضي كثر استخدام
الرمز وأصبح مطية الكتاب الكسالى لإيهام أنفسهم والقارئ بعمق نصوصهم وصعوبة
قراءة رموزها، ولم يكن الأمر في غالب الأحيان إلا هذيانًا محضًا يسترسل
فيه الكاتب مدفوعًا بانبهار لغوي يتدفق دون معنى. إن أحلام المنام والوعي
السياسي منبعان خصبان للرمز. لم يستخدم الزبيدي الرمز في سرده عبثًا أو
كيفما اتفق، بل لأن مساحة القصة القصيرة القصيرة ومداها كان أضيق من أن
يتسعا للتفاصيل الكثيرة ومضامينها ومغازيها، وهذا سبب يرتبط بظروف المرحلة
وقتها –كما أسلفنا- لذلك جاءت روايته "أحوال القبائل عشية الانقلاب
الإنكليزي في صلالة" لتُفصِح عن كثير مما احتواه الرمز وحجبه. إن الرمز هنا
–أي في الرواية- يكتسب رؤية أعمق، لأنه ينمو في سياق مضطرد أبعد أفقًا،
تتيحه التفاصيل وإمكانية الذهاب والمجيء والانقطاع والقطع والنسيان
والتمويه والتذكير والإهمال ... إلى آخر ما يتميز به النص الروائي من رحابة
وإمكانيات.
والآن لنعد إلى "التناص" في أعمال
الزبيدي. نقرأ في الصفحة 56 من (إعدام الفراشة): «في الفاتح من يونيو فاجأ
الأطفال المدينة بتظاهرة صاخبة وهم يهتفون:
"يا مطيرة صبي لبن
سيد عبدالله داخل عدن".
بعدها جاء السيد المطر يجرجر عربات
السحاب .. نظر شزرًا لكثيب البيوت. لوح للأطفال. وأرسل تحيات للسيد عبيد
ورفاقه بيد أنه ما أرسل نقطة من نمير السحاب أو "حتى قطيرة من لبن"....".
بينما في الصفحتين 11 و12 من الرواية نقرأ: "... وصبية عراة حان موعدهم مع
السيد المطر فطفقوا يغنون متحدين أوامر السلطات بمنع الغناء بـ:
"يامطيرة صبِّي لبن سيد عبدالله داخل عدن"
صلالة كانت محاصرة بلا لبن ولا
غذاء. وعدن كانت طرفًا في حرب مستعرة. والأطفال وحدهم كانوا الأخبر بفن
إغاظة السلطات بأهازيج. والسيد المطر كان جسورًا حين عرى المدينة ونثر
رضابه بين أشيائها اللذيذة"(20).
تقتضي الكتابة عن "التناص" في أعمال
الزبيدي الإشارة إلى أن عدم التعمق في قراءته قد يُحمِّل كتابته ذنبًا لم
ترتكبه، بمعنى أن مواضيع كتابته تتفرَّع من أصل شجرة واحدة قد يتشابه بعض
غصونها لكنه غصن قائم بذاته وليس نسخًا أو صورة مكررة له. ولنتناول مثالًا
آخر ونحاول هنا شرح المقصود بـ"التناص" الرابط بين قصة «السيدة صلالة» في
مجموعة (انتحار عبيد العُماني) وبين رواية (أحوال القبائل عشية الانقلاب
الإنكليزي في صلالة)، مستدعين ما تمت ملاحظته سابقًا مما يطبع كتابة أحمد
الزبيدي عمومًا، مكثفين الكتابة عن قصة «السيدة صلالة» وحدها، مؤجلين
الكتابة عن الرواية إلى ما سنلاحظه لاحقًا من تناص عند الحديث مباشرة عن
الشخصيات، وبالتحديد عن شخصيات الرواية. هيكل قصة «السيدة صلالة» يقترب من
أن يكون نواة لهيكل الرواية: غموض، طبيعة يكاد الدم يسري في أوردتها لتصبح
شخصياتٍ بشرية مشاركة بفاعلية مخيفة، شخصيات تتناسخ من نفسها إلى درجة
الانقسام والتعدد وعدم التفريق بينها وبعضها بعضًا أحيانًا، أحداث تتداخل
وتتشابك لتقود إلى تأزم ينتهي بالانهيار، ثم أمل معقود على الزمن المقبل!.
لكن الحكاية هنا وهناك أعمق بكثير من هذا الإيجاز المُخِلّ.
«- وما اسم تلك التي تدب في السماء؟
- طائرة.
- والأرض التي حرثوها؟
- مطار.
- وبيت الأفعى؟
- مطار صلالة.
- إذن اسمها صلالة.
يومها لم تكلف السيدة نفسها عناء
الشرح والتفسير أمام التساؤلات التي انهمرت كالغمام الظفاري الجميل، اكتفت
فقط بأن سرحت ببصرها صوب الجبال المسمرة أنظارها على الغراب الإنكليزي الذي
حط من عليائه بخيلاء ما عرفتها أسوأ غربان الحارة تكبرًا»(21).
هنا أيضًا يذكر تاريخ قيام الثورة: «اليوم: التاسع من يونيو.
العام: عام الدوري.
المطالع الفلكية: برج الأفعى- تحولات الدمامة ش –طالع السرطان.
التاسع من يونيو:
كبرت الطفلة صلالة، غدت شحرورًا يصدح في الحارات.»(22)
الثورة المحبوبة تصبح رمزًا للفرح والخصب والنماء؛ «ليونيو في التقاويم الظفارية شأن. تهرع(23)
الغيمة الهندية من الجزر المتوحشة وسواحل السحرة ومحيطات الجان .. تزفها
رياح .. تحيط بها أغان.. ويتقدم محفلها الجليل شحارير وسنونوات.»(24)
كل شيء يدخل باعتباره مكمِّلًا ضمن ضرورات الوصف أو السرد، لكن قد يتحول شخصية في القصة: "قالت الريح للطائرة:
- أنت التي أطفأت الشمعات .. روعها صوتك.
جاوبتها الطائرة:
- بل أنت..
.. و.. دوت طلقة.
عام الدوري.
في مطلع الغابة صادفها دوري:
- لم أنت هنا؟
- أبحث عن أختي.
- ما اسمها.
- فضيحة.
- وأنت؟
- صلالة.»(25)
وكما تحضر شخصية طفول في الرواية
تحضر في هذه القصة أيضًا، وتتشكل الثورة أغاني وفرحًا في الطبيعة. ويحتفظ
نص الرواية ونص القصة عند قراءتهما بمرجعهما التاريخي، كما يمكن –أحيانًا-
قراءتهما بمعزل عنه والاكتفاء بعوالمهما، لكن لا غنى عن معرفة التواريخ
والأحداث الحقيقية والرموز ودلالاتها من أجل فهم السياق على نحو أعمق
وأوضح. وتتناص الرواية وهذه القصة في توظيف الفنتازيا باعتبارها أساسًا من
مكوناتهما، وبرغم أن المغزى النهائي يصب في الموضوع الأساس (ثورة ظفار)،
إلا أن قراءة واحدة تظلم القصة والرواية معًا ولا تكشف مغازيهما المستترة
في القراءة الأولى، إذ يتفشى الرمز عبر السطور وبينها. الأموات يحيون!
وتتداخل الأسماء والأحداث تداخلًا شديدًا يستدعي التركيز والانتباه للتفريق
بين أكثر من صلالة واحدة لكل منها دلالتها: تبدأ القصة بصلالة واحدة، ثم
اثنتين تصبحان ثلاثًا! «صلالة الطفلة .. صلالة العاصمة .. ثم صلالة الأخيرة
وقد أبدلت هيئتها حورية تتمايس في حضرة ملك الجن سليمان .. وما أن يرحل
الأخير حتى تبدل هيئتها مرة أخرى إلى ما أسعفها الحظ ومشقات القبح .. تتلذذ
بالدمامة .. تمارس الدعارة .. وتعلن بغيه ا.. راية وصولجانًا.»(26)
وبحساسية الزبيدي المعهودة ينبني
عالما قصة «السيدة صلالة» ورواية (أحوال القبائل عشية الانقلاب الإنكليزي
في صلالة) متناصين بدءًا من العنوان، ويتواصل تكشف فضاءي نصَّي القصة
والرواية بروح لا تهمل تفصيلًا دون غيره دون أن يتفكك اجتماع مفاصل النص
والهدف الذي يقود قارئه إليه، لكن –أيضًا- دون حسم كلي وزعم بفهم لا يحتاج
بدوره إلى تأويل! وكما تصبح الطبيعة الخلابة رمزًا لروح الثورة الحقة
وتجلِّيًا لألقها في أحداث القصة وأحداث الرواية، كذلك تبدو الطبيعة
"الشريرة" رمزًا للعدو: "أطبقت الأفعى على الدوري، والتفَّت على الطفلة
صلالة وهي تضحك."(27) ومثل صلالة فالأفعى أيضًا ليست أفعى واحدة فقط:
"- لقد أعطيت عقدي وكل ما أملك للأفعى الكبيرة في مطار صلالة.
- .. آه.. هذه أفعى نصرانية.. أنا أفعى وطنية. (قهقهت الأفعى)"(28).ٍ
وتتناص القصة والرواية أيضًا في
دلالات تحول الطبيعة وإشاراتها في سياقَي النصين وكنه التحول ومصير الأحداث
والشخصيات فيهما: "وتكر الأيام وتفرّ.. تلملم السحابة أشياءها وترحل
وتهاجر الغمامة صوب بحار لم تزرها بعد. تتعرى الغابة. تصفر الأكمات. تشحب
المروج الخضر.. وتعتصر الغدران لعابها كيما تواصل الجداول مساراتها... ترى
ما كنه كل هذه التحوُّلات؟ أيكون للغابة حزنها الخاص؟»(29)
والتحول يتناقض حسب سياقه وإشاراته أيضًا، فقد يكون من القبح إلى الجمال أو
من الجمال إلى القبح. كما –في القصة والرواية أيضًا- يصبح للتجدد
والاستمرار مغزاه المراد دون غيره أيضًا: "الدوري لا يموت.. يتناسخ"(30).
حتى إن كانت رواية (أحوال القبائل
عشية الانقلاب الإنكليزي في صلالة) تبدأ من نهايتها، أي من المرحلة التي
تعقب الثورة، أو بالأحرى قُبَيْلَ وقوع الانقلاب وبدء مرحلة جديدة إلا أن
التناص بينها وبين قصة "السيدة صلالة" يقوم على أعمدة عديدة؛ إن هذه القصة
قصة الثورة كاملة في تسع عشرة صفحة تسرد قيام الثورة ومخاضها ووأدها من قبل
أبنائها، أما نهايتها فكما هي نهاية الرواية: نهاية مفتوحة، عدم حسم، أمل
مرتجى. ويتجلى التناص في الأعمال الثلاثة من خلال اللغة التهكمية الساخرة
المستعينة بالفنتازيا في تقديم الأحداث والشخصيات ورسمها بريشة الكاريكاتور
الضاحك الأسود. شخصيات أعمال أحمد
الزبيدي عديدة، منها: عبيد العُماني، سلطان الخروصي، راية، رضوان، السيدة
هدية، السيدة صلالة، سيادة العقيد، الوزير، الجثث، الكلب، الصخرة(31)،
القطة، المستشارون الأجانب، عوض الرّيحة، الرفيق فهد، خالد، سطيح الشاوي،
طفول، مسلم، رحمة، رمضان الأبرص، أيوب كيلة، الفأر، الشيخ شعبان. هذه
شخصيات بعضها محوري وبعضها ثانوي وبعضها مكمل في سياق الأعمال السردية
الثلاثة. فيما يأتي سنحاول بقدر الإمكان تحليل بعض شخصيات الزبيدي المحورية
في أعماله الثلاثة المنشورة.
عبيد العُماني:
أشهر شخصيات الكاتب أحمد الزبيدي.
عرف بهذه الشخصية منذ أصدر مجموعته الأولى عام 1985م باسمها، واستمرت
الشخصية تذكر بالزبيدي حتى عقب إصداره عملين آخرين بعدها. يقدم أحمد
الزبيدي شخصية عبيد العُماني في أول قصة من قصص مجموعة (انتحار عبيد
العُماني). في هذه القصة يظهر عبيد العُماني باعتباره إحدى ثلاث جثث كما
سيتضح في الصفحة الثالثة التي تسميه الأحداث فيها باسمه: "عبَّ عبيد
العُماني الثمالة الأخيرة وأطلق ضحكة صافية وهو يردد:
- فنتازيا يا جماعة.. فنتازيا"(32).
ثم يغط عبيد والجثتان الأخريان
سكرانين في النوم، وفي الساعة السابعة صباح اليوم التالي يذهب عبيد
والجثتان بالباص إلى العمل. ويعرف القارئ أن عبيدًا العُماني يُطرَد من
عمله، وأنه لا يفهم معنى "الوفاق الطبقي" و"الصك الاجتماعي" ولا يعرف
القراءة والكتابة، وأنه "عَامِلٌ يومي"، وسياق الأحداث منذ الصفحة الأولى
يُخبرنا بأن المخبرين يراقبونه، وأنه والجثتين الأخريين يتجادلون في "أشياء
تمس القيم العليا.. زئبقية يا سيدي من العليا حتى تصل إلى السفلى"(33) حسب وصف أحد المخبرين لرئيسه.
تدور أحداث هذه القصة عبر تقطيعها
تحت خمسة عناوين فرعية يمثل كل منها وصفًا للمكان والزمان؛ تبدأ من "الساعة
الثامنة مساء 18 تموز-يوليو 1977م-الوادي الكبير-مسقط". وفي المقطع الرابع
يزيد الوقت يومًا واحدًا ويصبح المكان "كل الأرض العُمانية"، ليعود المقطع
الخامس الأخير إلى اليوم الذي ابتدأت به القصة بفارق ساعتين ونصف ساعة
فقط، وكأن سياق الأحداث بالنسبة إلى شخصية عبيد العُماني يتمثل في عدة
مراحل: يقظة، سُكْر، يقظة، ذهاب إلى عمل يطرد منه، انتحار، موت، سُكْر! لا شك أن تموز/ يوليو
المحدد به سياق الأحداث يشكل فاصلًا محوريًّا في تاريخ "كل الأرض
العُمانية"، لكن أحداث القصة تدور عام 1977م، ولا تتضح هنا مرامي جريان
الأحداث في هذا الشهر تحديدًا؛ هل ترتبط بواقعة معينة جرت في التاريخ
المذكور أم تستدعي التاريخ المراد بصيغة أخرى تستمد أهميتها من يوليو 1970
تاريخ قيام الانقلاب الإنكليزي؟.
"ابن المقفع"، "ابن حنبل"،
"المتنبي"، "الحلَّاج"، "السهروردي"، "الفاروق عمر"، "عثمان"، "أبو ذر
الغفاري"، "الحسين"، "ابن أباض"، "علي بن أبي طالب". شخصيات من التاريخ
العربي الإسلامي تختلف في توجهاتها وأدوارها وتشترك في ظاهرة تاريخية
متواترة هي أنها «لم تسلم من المدية العربية ... من الخلف دائمًا غيلة
وغدرًا» حسب حوار الجثث الثلاث، أي عبيد العُماني وصديقه سلطان الخروصي
الميت أصلًا «الذي يرقد في الجهة الشرقية من المقبرة»(34)
وصديقهما الثالث الذي لا تذكر القصة اسمه. وفي الباص الذاهب إلى العمل
يتورط عبيد العُماني بالجلوس على مقعد قذر: «كل شيء محتمل إلا عار الغائط
وثيابي المبللة وبركة البول على ذلك الباص اللعين»(35). هذا
الأمر يشكل أهمية بالغة في أحداث القصة، ويشترك عبيد والقارئ في عدم فهم
مغزاه: «ومع ذلك فلقد حاولت فك طلاسم متواليات هذه الأحداث»(36)،
لأنه –إضافة إلى أسباب أخرى- يكون أحد أسباب فصل عبيد من عمله: "اقتحم
الكلب عين الكلب الغرفة للمرة الثانية... خاطبني بمودة "كأخ عزيز" قائلًا:
«كإخوة فإنك ارتكبت من الجرائم ما يستدعي رجمك: ادعيت أننا أخوة وكيف يكون
ذلك؟ أسأت إلى الصخرة وهي تؤدي واجبها المقدس. تبولت وتغيطت(37)
في وهج الظهيرة وعلى مرأى من العامة، وفي ذلك إساءة للأخلاق السفلى. لم
تنصت باهتمام لسعادة المدير وفي ذلك تعد على الأخلاق العليا. دخلت مبنى
الدائرة وبقع البراز على ثوبك وذلك ينم عن سخرية بالمباني العامة، وهو
عبارة عن إيماء خفي للعمال بالتمرد وهذا إخلال بالعقد الاجتماعي الذي بصمت
أنت وأجدادك عليه مختارًا غير مكره، أقمت علاقات خفية مع جثة المشبوه سلطان
الخروصي وفي ذلك إخلال بالوفاق الطبقي، وعلاقاتك مع الجثتين.»(38)
في هذه القصة التي انتهى أحمد
الزبيدي من كتابتها في 28 أبريل عام 1978م في مسقط يعود الميت سلطان
الخروصي إلى الحياة، ليعرب عن عدم رضاه عما آلت إليه أحوال البلاد، وفي
لحظة يتناقش فيها وعبيد والأجداد «وكما هو متوقع مط سلطان شفتيه وبصق على
الحصيرة وهو يردد:
- جحوش خ.. ر.. ا.. ى.
وآب إلى لحده منتصبًا كالسيف بقامته المديدة، وأنفه الأقني(39)، ووجهه الذي لوَّحته الشمس اللَّاهبة(40).
يحدث هذا عندما تنبه القطة عبيدًا على السيف المعلق على جدار الحائط دون
إيضاحات، ليبدأ استحضار التاريخ والأجداد ودلالات السيف. ويحدث هذا أيضًا
بعد أن يحكم على عبيد العُماني بالإعدام بسبب ممارسته "العادة السرية"!.
شخصية "الكلب" التي قرأت عليه سلسلة التهم الموجهة إليه –انظر المقطع
المقتبس آنفًا- توجه إليه التهمة مباشرة: "... وعلاقتك مع الجثتين، وتلك
العادة السرية.
- وماذا في الأخيرة؟
- طابعها السري.
- ولكنها مسألة تتعلق بحقوق الإنسان.
- هذه أيديولوجيا مستوردة.
- من أميركا.
- ولو!
- والآن؟
- من باب حقوق الإنسان اختر طريقة موتك.
- أفهم من هذا أنني محكوم عليّ؟
- بالإعدام"(41).
يبدو أن انتهاك حقوق عُبيد العُماني
"الإنسان" بهذه الصورة المهينة والحكم عليه بالإعدام يفتحان الباب
لاستحضار دلالات السيف عبر التاريخ العُماني والانتصارات المتحققة فيه،
وتتبع ذلك مقارنة بين الماضي والحاضر، بين الأجداد والأبناء: "ولا يسقط
السيف الرمز، والنسل أنتم جيل القمامة من مزابل المنامة حتى بالوعات
الدمام"(42). هنا توجه قصة (انتحار عبيد العُماني) إدانة شديدة
اللهجة إلى العُمانيين الذين ألمت بهم أوضاع بلادهم المزرية فشتتتهم في
بلدان الخليج، وبالذات في البحرين والسعودية والكويت، ليعملوا في ما
يعتبرها نص القصة ضمنيًّا أحطَّ المهن وأوضعها، ربما لأن "السيف" حال
تاريخيًّا دون الوقوع بين براثنها، إذ يقول عبيد العُماني عن السيف المعلق
على الحائط: "به صرع جدي الأول، الذي كان قائدًا في إحدى كتائب جيش الإمام
أحمد بن سعيد عشرين مستعمرًا برتغاليًّا في صحار. ومنذ ذلك الحين غط السيف
في جرابه على الحائط."(43) في قول عبيد هذا إشارة ضمنية إلى
خمود الوضع الحالي ومن يحكمه والاكتفاء بتعليق السيف وليس باستخدامه، مع
إدراك دلالته باعتباره رمزًا وليس لصلاحيته للاستخدام الآن حرفيًّا: "قال
جدي الثاني حمدون هذه صفاقة منه وما الذي سيفعل سيادته أمام "الإيفن"، وتلك
التي ترسل طيرًا أبابيل وحجارة من سجيل في سماء صافية.
- المهم هو مضمون ما يعنيه السيف"(44).
إن إدانة العُمانيين هنا تأتي في
سياق ليس غرضه انتقاد العمل بل الأوضاع التي أزرت بحال البلاد وأدت إلى
تشتيت المواطنين وتهجيرهم والحط من كرامتهم، وهذا في نهاية الأمر مرتبط
بسلطات غاشمة يدينها النص ضمنًا.
للوهلة الأولى قد يبدو مستغربًا
تمامًا استحضار "السيف" "والانتصار" و"التاريخ" وربطها باغتراب العُمانيين
وعملهم في موارد الرزق المرتبطة باحتقار الآخرين لها، ولكن خُطى الاستغراب
تنمحي نهائيًّا حين نربط "القصة" المكتوبة بظروفها الخارجية التي بالضرورة
تمثل إطارًا لها وإن لم تُستدعَ برمتها لحظة الكتابة، والأسباب عديدة أولها
أن عبيد العُماني الشخصية المحورية في القصة والمجموعة عمومًا يمثل
الإنسان العُماني العامل الكادح الواقع ضحية التغيرات السياسية والاقتصادية
المختلفة المارة بالبلاد، وثانيًا لأن عمل العُمانيين في بلدان الخليج
الأخرى بتلك الأشكال المعلنة في القصة مثل ظاهرة لا تزال أخبارها ماثلة في
أذهان العُمانيين والخليجيين على السواء. وثالثًا لأن الأمر بلغ –في نص
القصة وخارجه- حدَّ تحول مفردة "عُماني" إلى "شتيمة"!(46). وإن
كنا لا نزال داخل النص وبين ثناياه إلا أننا لن نستطيع إطلاقًا الفكاك من
دور الإطار الأوسع الذي يستوعب النص وشخصياته ويشرحها، بيد أننا سننطلق من
أعماق النص دائمًا ولن نسقط عليه إلا ما يوجهنا هو نحوه بقوة الرمز ودلالته
غير القابلة للتجاهل.
من هذا الأساس المبني بفعل القراءة
التلقائي يجبرنا حضور "الاستعمار البرتغالي" في قصة (انتحار عبيد العُماني)
على استحضار "الاستعمار الإنكليزي" القائم منذ ما قبل 1977م/ زمن جريان
أحداث القصة. وبتتالي القراءة يحضر "الانقلاب الإنكليزي" أمامنا لحظة
بلحظة، وبالتالي ندرك أن "السيف" الماضي بتر سيرة المستعمر "البرتغالي"
بينما سبَّب تعليق "السيف" الحاضر والرضوخ للاستعمار "الإنكليزي" تشريدًا
للشعب العُماني كي يعمل عند الآخرين، هذا إضافة إلى "الكلب" و"الصخرة"
وأمثالهما من رموز الدولة الفاسدة ومخبريها ونتائج الاستعمار الإنكليزي
المؤدية إلى إهانة الأجيال العُمانية الجديدة. وعلى الرَّغم من كل شيء،
ومثل آلاف العُمانيين الآخرين، وبحسِّ المنتمي إلى طبقة العمَّال المتفاخر
–بالرغم من كل شيء- بعمله، فإن عبيد العُماني "لم يكن يجد غضاضة في عمله،
فلقد صمت أذنيه من(47) "شتيمة عُماني" ولكنه يجادل نفسه
داخليًّا: لو امتنعت أنا وأمثالي عن العمل في المجاري وجمع القمامة، لو
فعلنا ما يسميه سلطان بالإضراب، ما الذي سيكون حال هذه المدن النتنة وكيف
سيدير السادة الأفاضل أمورهم؟"(48).
أمجاد القبيلة.. وجراثيم لندن
هذه الأسباب جميعًا أحدثت ازدواجًا ليس في معايير شخصية عبيد العُماني
فحسب، بل في معايير الشخصية العُمانية المتفاخرة بأمجاد النسب والقبيلة،
كسرت شوكتها وألقمتها حجرًا؛ يقول عبيد العُماني واصفًا السيف المعلق: "إنه
أمجاد قبيلتنا"(49). أضف إلى ذلك أن "السيد عبيد عمل نادلًا في قوَّة ساحل عُمان"(50)، وفي أيام صباه عمل "في قاعدة الجفير في البحرين"(51)،
وهو ما يستدعيه شروده وارتباط هذه الذكرى بخيط البراز، أي بقذارة مقامها.
وعبيد العُماني "بالرغم من أنه الآن "يقف على أرض مانعة في وطنه" والتعبير
للمرحوم سلطان الخروصي، ولم يعد يسمع تلك الشتيمة، "عماني"، وهذا ما يعطيه
إحساسًا فارغًا بالزهو –بالضبط كتأثير "المشروب الوطني"، والجملة الأخيرة
أيضًا للمرحوم السيد سلطان، إلا أنه لم يجد أية أعذار لصديقه سلطان
لاستخدام مثل هذه التعبيرات الجارحة اللهم سوى الكرب الناتج عن مطاردة
جثمانه الذي يقال إنه يحتوي على جراثيم أيديولوجية مستوردة ربما من هونج
كونج، وربما من "سكة الخيل في دبي"، ومن الممكن أن تكون من القرن الإفريقي،
أو من تل الزعتر، أو حتى من بحر البقر، فلقد كثر اللغط في هذا المجال،
ولكن لا يعقل أن تكون هذه الجراثيم من لندن."(52)
لا تخفى هنا دلالات الـ"جراثيم
الأيديولوجية المستوردة"، ودلالة ذكر أسماء بلدان على سبيل السخرية،
والإدانة الموجهة عبر السخرية إلى "لندن" التي يستحيل استيراد تلك الأفكار
منها كونها بلدًا يشكل نقمة على عُمان (الانقلاب الإنكليزي). وربما بسبب كل
هذا تنشأ شخصية عبيد العُماني في هذه القصة شخصية غير متأكدة من شيء،
متذبذبة، شاردة، لا تستطيع ترجيح كفة بعينها دون أخرى، لا تكترث كثيرًا،
ولا تعترض، وتكاد تتسم باللامبالاة، خاصة إذا ما تذكرنا أنها شخصية ترتبط
بشرب الكحول لأسباب قد لا تكون مرتبطة بالاستمتاع بقدر ما ترتبط برغبة
دفينة في الهروب من واقعها المخزي المذل، واصطناع الشجاعة، والبحث عن فسحة
لتفريغ الهمّ رفقة جثتين أخريين برغم موتهما تنادمانه في شؤون البلاد
المحزنة وشجونها المريبة!: "بالنسبة لعبيد فإن مثل هذه المناظرات لم تكن
تعنيه كثيرًا بالرغم من أنه كان يتظاهر بالإنصات، ويحك لحيته علامة على أنه
ينظر للأمر بجدية، وحين يحرج فيُسأل عن رأيه فإنه لا يزيد عن الإجابة
برصانة "يحتمل.." حتى السيف فإن علاقته معه لم تخرج عن نطاق العلاقة مع
"ببغاء لطيفة"، ومع ذلك فلقد كان يصر على ذكر اسمه مشفوعًا بقائمة طويلة من
الأجداد حتى الجد الأول. بل إنه يصل بنسبه حتى الأزد وأحيانًا لقصي وكلاب
وسليمان الحكيم".
إن شخصية عبيد العُماني هنا شخصية
سلبية تعاني من التناقضات الاجتماعية وآفاتها البغيضة، فهو برغم وضعه
المزري يصر على ذكر اسمه مشفوعًا بقائمة طويلة من الأجداد. هذا تعويض عن
انسحاق الشخصية داخليًّا وانهزامها وعدم فاعليتها. الفرد مهزوم لا يتحقق
إلا بالكثرة، بالجماعة ذات المحتد العظيم!. قائمة النسب هذه تمثل عزاءً
تختفي الهزيمة تحت إهابه. كي لا يعترف عبيد العُماني بنقائصه يستجير بنسبه،
ليقنع نفسه بامتلاكه ميزة تُعلي شأنه وتحتقر تردي أحوال حياته. ليس هذا
فقط بل إنه –وما زال هذا الوهم قائمًا في عُمان حتى اليوم- "يصل بنسبه حتى
الأزد وأحيانًا لقصي وكلاب وسليمان الحكيم"، وهذا يجعل عزاء عبيد أبلغ
أثرًا.
إذا أردنا إيجاد تعريف دقيق لشخصية
عبيد العُماني فسوف يسوؤنا انفصامه وسيرته نتيجة التناقضات الكثيرة التي
رأيناها فيه وحوله، وهو العامل البسيط الذي لا يستطيع فعل أي شيء تجاه
واقعه. عبيد العُماني شخصية معدمة تحاول أن تعيش يومها في ظروف يسودها
القمع وملاحقة المخبرين وهيمنة الماضي على أفكار الحاضر بعدة صور سلبية
وإيجابية تختلط ببعضها بعضًا وتتلاقح لتثقل على روح عبيد الحية في زمن
تملكه سلطة تضيق عليه الخناق بعد عودته إلى وطنه، سلطة تسيء إليه إلى أقصى
درجات الإهانة والإذلال، حتى إنه يبول ويتغوط على نفسه من شدة خوفه منها:
"لشد ما كان استياؤه يستعر وجبينه يندى من الخجل وهو يتساءل ربما للمرة
الأولى أمن العدل أن يبلغ به الذعر في وطنه إلى(53) الحد الذي يسبح فيه في بركة بوله ويتدثر بغائطه"؟(54)
أمام عجز عبيد العماني عن تغيير أي شيء، "وفي لحظة صفاء استلَّ سيف جده وبقر بطنه وانضم إلى رفاقه جثة ثالثة".
حسب جريان أحداث هذه القصة التي
تحفر أخاديد عميقة في أرواح الشخصيات وتثير أسئلة تتعلق بهوية الوطن، وحسب
مقتضيات قصص المجموعة، يتراوح حضور شخصية عبيد العُماني بين الشخصية
المقهورة المقموعة والشخصية اللامبالية الساقطة بين براثن ظروف أكبر منها
تعجز عن دفع ضررها، وهكذا بين قصة وأخرى من قصص (انتحار عبيد العُماني)
و(إعدام الفراشة). ويلح سياق التحليل والاقتباس والأحداث على ضرورة نقل
المعنى المعجمي لاسم "عبيد" والاستهداء بدلالاته المنعكسة هنا وهناك في
القصص؛ عُبَيْد تصغير عَبْد، وهو "الرقيق. و- الإنسان حُرًّا كان أو
رقيقًا."(55) والحادث في هذه القصص أن عبيد يكاد يكون اسمًا على
مسمًى، فهو إنسان بلا إرادة حُرَّة، حياته مرهونة بيد قوى تُوجِّه مسار
حياته وتُخضعه للرقابة الصارمة. إن التعريف هنا يحدث خللًا في معناه
المزدوج: الرقيق، الحر. إننا نفهم أن عبيد الإنسان الحر هو عبد الله بينما
عبيد الرقيق عبد لإنسان آخر، هذا الإنسان هنا هو السلطة؛ ما توحي به شخصية
عبيد العُماني هو أنه عبر العصور لم يكن سوى عبد لمختلف أشكال السلط. وسنرى
لاحقًا أن حريته لم تستغرق زمنًا طويلًا، وأن خضوعه وعبوديته أبديان.
عبيد العُماني عامل عاش زمنًا
مغتربًا في جفير بالبحرين وسكة الخيل بدبي، ثم عاد إلى وطنه فجوبه بترصد
خطواته وإهانته حتى أسلمه شعوره بالخزي إلى الانتحار، لكن ليس ليكون الموت
نهايته بل ليتواصل تردده وعدم يقينه وانفتاح أسئلته اللانهائي. بعد موت
عبيد العُماني منتحرًا ينضم إلى صديقيه الجثتين الأخريين ويتبادل وإياهما
الأنخاب!، ويخوضون في حديث عن "انتحار" عبيد: "وخاطب سلطان الخروصي السيد
عبيد:
- لعل القطة(56) قصدت أن تبقر بطن الكلب لا بطنك.
- يحتمل"(57).
مات عبيد العُماني إذن!، وعاد من الموت!، وقد يموت بعد قليل مرة أخرى!.
إذا كان جنرال غابرييل غارسيا
ماركيز يموت في خريف بَطْرَيَرْكِه ويحيا لينتقم ممَّن دبَّروا مؤامرات
اغتياله، وبالتالي يعيش مئات السنين باعتباره رمزًا للدكتاتوريين
المتناسلين في كولومبيا وأمريكا اللاتينية، فإن عبيد العُماني يموت ويحيا
ويموت ويحيى ويموت باعتباره رمزًا للعُماني المسحوق باسم المراحل ومختلف
أشكال الحكم الدكتاتورية القمعية وباسم الثورة والتغيير و"الانقلاب
الإنكليزي" وأمراض السماسرة و"الرجال الشقر" الذين هم المستعمرون الإنكليز
في سبعينيات القرن العشرين. في قصة "العُمانية في السكة" يظهر عبيد
العُماني ثانية. لا توحي بداية القصة بوجوده أصلاً، إذ يظهر في صفحتها
السادسة فقط، بعد ظهور صديقه سلطان الخروصي والسيدة راية بوقت. وبداية من
هذه القصة تتأكد الصداقة العتيدة بين عبيد العُماني وبين السيد سلطان
الخروصي والسيدة راية وتترسَّخ كما سيتبيَّن من قصص أخرى أيضًا. سلطان
الخروصي حسبما تقدمه هذه القصة "يبدو مولعًا بالأسئلة أكثر منه بالإجابات(58). السيد سلطان رجل مقابر يلفه الغموض"(59). أما السيدة راية فـ"مجرد داعرة في السكة تصطاد ذاكرتها وتصطاد الزبائن"(60). عندما يظهر عبيد العُماني في هذه القصة وهو يزدرد "كأسه "الوطني"(61) باشتهاء متواضع"(62)
نعلم أنه حاضر قبل ظهوره الفعلي، فقد كان ذهنه مشغولًا بتهويماتٍ تتعلق
بالوطن والبغايا والحريم والمحظيات والسادة الذين "يعزفون عن الحديث في
متعلقات الأمن الوطني إجلالًا منهم للمقامات.. ويبتعدون عن الحديث المباح
فيما يتعلق بالخصوصيات والمباغي، وهذا عائد ربما لنبل المُحْتَدِّ.. وربما
أيضًا لاتفاقات سرية لا علم لنا بها."(63) هذه المشاغل محور
القصة ومسار أحداثها الجارية في سكة الخيل في دبي. و"راية" عاهرة عُمانية
برغم نفور الزبائن منها "لاصفرار ملامحها وهزال عودها الذي أتت عليه ذات
الرئة. نفرٌ من أعيان وطنها كان يروق لهم حينًا بعد حين أن يتمتعوا
"بمضاجعة"(64) وإياها. يدور حديث بين عبيد العُماني وصديقه
سلطان الخروصي عن راية، وتوهمنا الأحداث بأن "السكة" هي المحور الأساس
فيها، ثم توهمنا بأن "راية" هي المحور، ويروي الراوي قصته مخفيًا رموزه عبر
"التورية"(65): "العمل شرف... أيتها الراية الخفاقة في
المدارات الغامضة.. ترى لِمَ لَمْ تحركك كل هذه التحولات..؟... ماذا يؤمل
من بغي؟ ... امرأة كأنها الوطن ... "البنديرة"(66) أعني هذه التي تدعونها "راية".. أقصد المواطنة."(67)
وبظهور عبيد قد يتوهم القارئ أنه محور القصة. ويتضح فيما بعد أن "سلطان"
هو المحور، لأن الشرطة تستميت في البحث عنه وترسل مخبرًا يترصَّده!. وبعد
تأزم أحداث القصة واقترابها من نهايتها يتبين أن "السكة" وما كان يجري فيها
هما المحور الذي اشتركت الشخصيات الثلاث في صنعه باعتبارها منتمية إلى وطن
واحد: عُمان. ودون أن تخبرنا الأحداث بالكثير نعلم أن الشرطة تريد –بإلحاح
شديد- إلقاء القبض على السيد سلطان الخروصي، وأن قدرته على مراوغتهم
وتضليلهم والإفلات من بين أيديهم لا يستهان بها، لكننا لا نعلم أبدًا أبعد
ممَّا تسرده لنا القصة، ويبقى سؤالنا عما يمكن أن يكون السيد سلطان قد فعل
ليكون على هذه الدرجة من الخطورة بلا إجابة، مجبرًا إيَّانا على عدم
الاقتناع بالأحداث الظاهرة، وكأن الراوي يتعمد التلميح من بعيد ويكاد
يعتبرنا في صف الشرطة! ومن ناحية أخرى كأن الراوي يريد القول إن هذا فقط ما
حدث ولا يوجد أيُّ سبب لأن تبحث الشرطة عن السيد سلطان ولا لأن ترسل
مخبريها يتقفون أثره!.
يصبح ظهور عبيد العُماني وراية
وسلطان الخروصي فيما بعد أمرًا مفروغًا منه، بحيث نتوقعهم جميعًا حالما
يظهر أحدهم. تسرد هذه القصة تعارف عبيد وراية أول مرة. كان هذا في سكة دبي.
معرفة سلطان براية أسبق، وهو من عَرَّفَ عبيدًا بها. إننا نريد هنا أن
نقتفي آثار عبيد العُماني لكن لا فكاك من اقتفاء آثار سلطان وراية أيضًا،
لأنهما رفيقا درب عبيد، قلَّما تفصلهما الأحداث عنه، ولأنهما هما الآخران
وجهان آخران من وجوه العُماني المسحوق في زمن "الانقلاب الإنكليزي". سيذهب
سلطان بعبيد إلى الحانة حيث تُمارس راية عملها. يعارض عبيد لكن مقاومته
تنهار أمام إغراء سلطان:
"- سنزورها الساعة..
- أنا لا أزور المباغي..
- أنت مبغى كبير.
- الدنيا نهار.
- أوف.
- والشرطة..؟
- أوف..
كعادته وجد السيد عبيد العُماني نفسه مُسايِرَة لمُحِبِّه سلطان"(68). هنا يُحْدِثُ "صوت المغني المنبعث من الجهاز العتيق ".. سرى الليل ماشي فايدة في المنام."(69) لبسًا في زمن الأحداث، ويساهم السرد في زيادة اللبس: "واقتنع عبيد العُماني أن لا فائدة حقًّا في النوم."(70)
فهل "الدنيا نهار" الآن كما يقول عبيد لإثناء سلطان عن زيارة راية أم هو
وقت "الليل"؟. لعل كفة النهار أكثر رجحانًا، لأن "الليل" في مقطع الأغنية
وحده لا خارجه، وقناعة عبيد بعدم فائدة النوم قد تعود إلى تأثير الكحول فقط
على الرغم من النهار.
لليل والنهار هنا علاقة بسلطان
المُطارَد أيضًا الذي أبطل إثناء عبيد بعدم اكتراثه بالموانع (النهار
والشرطة)، وهما أمران كافيان لتحويل الشخصيات الثلاث جثثًا من جديد! في
الحانة يقوم سلطان بتقديم عبيد إلى راية: "عبيد العُماني سر الأسرار..
وَلِيٌّ من أيام الصِّدِّيقين.. درويش مقطوع من شجرة.. صعلوك ما قام
بغارة.. ولا خرج في مظاهرة.. ومع ذلك فإنه في المحصلة الأخيرة أفضل ما في
حثالة البروليتاريا الوطنية."(71) هذا أول تعرُّف عبيد إلى راية. في حانة سكة دبي ستجمع شهوة الجنس بين الاثنين جمعًا لن يفصمه حتى الموتُ والشرطة!.
تعريف سلطان لعبيد المقدم إلى راية
يعني أنها تقاسمهما همومًا مشتركة تتعلق بالوطن وقضاياه، فالفحوى (صعلوك،
مظاهرة، بروليتاريا...) تتجاوز كون راية "عاهرة". للوهلة الأولى قد لا نأخذ
الكلمات التي وصف بها سلطان عبيدًا على محمل الجد، ومع ذلك سيُظهِر لنا
سياقُ جميع القصص التي يظهر فيها عبيد صِدْقَ تلك النعوت بحذافيرها.
"قيل..
- كان المخبر هناك..
- وفي يده جهاز.
- لا .. بل هي القوادة..
_ محال .. فليس من مصلحة القوادة جلب الفضائح إلى دارها .. إنما هو رجل من أبناء جلدته تعرف إلى سلطان من صوته.
- وكيف يكون ذلك وسلطان لم يره ولم يسمعه(72) أحد..؟
.. المهم أن الشرطة جاءت .. شهر
الشرطيون مسدساتهم.. استلوا مديهم .. طوقوا المنطقة .. اتخذوا أوضاعًا
حربية.. وبعد طول عناء اقتحموا الحانة البائسة"(73). حدث ما كان
يخشى منه عبيد حين تذرع لسلطان بأن "الدنيا نهار" محاولًا إثناءه عن زيارة
راية؛ أم كان مبعث خشيته ردة الفعل الأخلاقية تجاه دخولهما الحانة المبغى
وإمكان أن يراهما أحد هناك؟. ما دامت قاعدة العلاقة بين عبيد وسلطان تقوم
على كونهما صديقين فلا شك أن عبيدًا على دراية بما يمثله صديقه للشرطة
والمخبرين، وبالتالي استماتتهم في سبيل إلقاء القبض عليه، وكان انصياعه
بسبب تحريض سلطان نفسه صاحب الشأن أو المطلوب مع سبق الإصرار والترصد، لأن
عبيدًا نفسه لا يمثل أهمية للشرطة فهو مجرد "صعلوك"!. حسبما جرت الأحداث
يتبين أن سلطان الخروصي شخصية شديدة الخطر بالفعل –بالنسبة إلى الشرطة-
وإلا لما امتلك تلك الإمكانية الكبيرة في الاختفاء وتخريب مخطط الشرطة.
وبناءً على هذا فكل ما قاله سلطان لعبيد وكل ما فعله قاله وفعله بثقة وليس
بلا اكتراث حسبما أوحى به السياق إلينا، وهذا ما جعله يُخرِج "كبير
الشرطيين عن طوره": "كان أول الخارجين كبير الشرطيين.
- هيه.. وماذا قال؟
- قال للمخبر يا كلب.
- وماذا فعل..؟
- صفع القوادة وانتهرها بــ"لا يجوز المزاح معنا".
- وماذا وجد..؟
- جثتان.. أحدهما(74) لشخص يدعى عبيد العُماني وأخرى لبغيٍّ تدعى راية..
أغلق المخبر جهاز الهاتف وجلس سيِّدُه يندب حظه .. لاعنًا ..
- هذا الذي "يدعى سلطان..".
ومتحسِّرًا:
- أتكون نهاية جهودنا.. بغيّ وصعلوك؟"(75)
الفنتازيا.. قراءة مضمرة لعالم مترع بالجثث الحية
أشرنا إلى ما قاله عبيد في القصة السابقة الحاملة عنوان المجموعة "انتحار عبيد العًماني": "فنتازيا يا جماعة.. فنتازيا"(76)؛
قالها في غمرة ثمالته. إنها فنتازيا بالفعل ينتصر عليها عبيد بإطلاق "ضحكة
صافية" في القصة السابقة، وبالفنتازيا نفسها، وبقراءته الخاصة للأحداث
هناك وهنا في هذه القصة. إن الأمر يعنيه بالدرجة الأولى، وبرغم أنه لا يبدي
اعتراضًا ظاهرًا ولا يقوم بغارة ولا يخرج في مظاهرة –استنادًا إلى تعريف
سلطان له- إلا أن رفضه يتبدى في تهكمه اللاذع أحيانًا وفي إفساحه المجال
للعبث الواقع في حياته لأن يتجلَّى بحالات فنتازية طابعها الغرابة أساسًا
دون أن ينتابه شعورُ المرتابِ، وكأنه لا يولي اهتمامًا لأي شيء، ففي معمعة
الموت واشتداد الأحداث يتبنى عبيد قناعة مغايرة كمن يخرج حدثًا عن مساره
برغم انتهاء وقوع الحدث!: "ومع أن "المعلومات المتسربة من الشرطة" تفيد أن
الجثتين دفنتا معًا لتعذُّر فصلهما لطول عناقهما المشبوب بالحب الذي لا
يقاوم كما تقول شائعات المتنطعين.. أو لأمور أخرى هي قيد دراسة المختصين..
فإن السيد عبيد العُماني نفسه ما زال يعتقد أن موته لا يعدو أن يكون مجرد
"مزحة" لا بد أن تنجلي أو كما "أكد" له صديقه سلطان في المقبرة في جلسة
"أنس..":
- مجرد تمويه."(77)
في سرد أحمد الزبيدي تترصد
الفنتازيا القارئ في كل سطر، عند كل انعطافة أو شخصية أو حوار أو حدث، لذلك
تصبح التورية طابعًا عامًّا يسم كتابته، فما يحدث له معنى ظاهر مباشر
ومعنى أبعد غورًا قد تنبثق منه معانٍ أخرى تكون بمثابة تحليل أو تفسير مكثف
ينتهج الرمز بدوره ليشير إلى عدة طبقات من مستويات الخطاب. القارئ الكسول
لن يستطيع إكمال قراءة أعمال الزبيدي، لأنها -بالنسبة إليه- لن تعدو كونها
ضربًا من الهذيان واللامعقول، والقارئ المثابر وحده فقط سيتلذذ بالمهارة
العالية في كتابة من هذا النوع لا تمنح نفسها إلا بالتركيز والانتباه،
وتنجح في تحويل القضايا السياسية ومناخاتها وشخصياتها الجافة إلى رحابة
الإبداع ومتون النصوص وتخلق عالمًا من الشخصيات والأحداث باشتغال يتعمد
تضليل القارئ أحيانًا وينصب فخاخًا في طريقه لكنه يراهن على ذكائه
ومَراجِعه المعرفية ويشركه في فك شفرات الرموز وربط ما غمض ببعضه بعضًا
لفهم منطقه الخاص: "ولأن الشرطة "على ذهولها وحيرتها" ما زالت تعتقد كما
يعتقد السيد سلطان الخروصي نفسه بأن حادثة موت الجثتين لا يعدو أن يكون(78)
مجرد محاولة تمويه "خبيثة" فإن البحث ما زال على أشده عن السيد سلطان
الخروصي وصاحبته راية –التي يكتنف حقيقتَها غموضٌ شديدٌ- وصديقه عبيد
العُماني الذي يؤمن أن موته مجرد مزحة أو حالة من حالات إغفاءات المشروب
الوطني اللذيذ."(79) الفنتازيا تُفكِّك مفاصل السرد وأجزائه
ليتوضَّح حسب منطقها الموازي للواقع، وحين اعتماد قراءة مباشرة سيبدو
التناقض بلا رادع، فعلى سبيل المثال كيف تدفن الشرطة جثتي عبيد وراية
وتتحسر على عدم استطاعتها إلقاء القبض على سلطان، ثم تواصل البحث عن
الثلاثة؟!. هنا ستبني التكهنات تأويلات أخرى قد تفارق المتن وتحوم حوله دون
جدوى وفي النهاية ستلقي اللوم على النص وتتهمه بالقصور، بينما يفسح الرمزُ
المجالَ لقراءة أعمق تُولِّدها طبيعة الفنتازيا التي بواسطتها نفهم موت
عبيد العُماني وصديقه سلطان الخروصي الميِّت قبله أصلًا منذ أول قصص مجموعة
"انتحار عبيد العُماني"، وهكذا بالنسبة إلى راية أيضًا، ثم تتالي موتهم
وانبعاثهم، فهم –وأولهم عبيد- يرمزون إلى المسحوقين من الناس بشتى هيئاتهم
ومراجعهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المجتمعة على رفض الظلم والقمع
وإن كان ذلك صمتًا، لكن إحدى الأفكار الرئيسة في قصة "العُمانية في
السّكّة"- ولعلها فكرة تسترعي الانتباه في أغلب قصص الزبيدي (مثل: السيدة
صلالة، رضوان، الجثة، ربيع الماء الآتي، المواسم)، وحتى في روايته "أحوال
القبائل عشية الانقلاب الإنكليزي في صلالة"- هي فكرة الاستمرار، عدم
الاستسلام، النهوض من جديد، الانبعاث، الأمل، مواصلة التمرد والرفض والثورة
دائمًا.
تنتقل أحداث قصة "العُمانية في السّكّة" من دبي إلى مسقط الحاضرة من خلال "بار عامر"(80)
فقط بوصفها "مدينة مهزومة" وليس باسمها المباشر. "وعلى أية حال فإنه
بالرغم من كل هذه الإرباكات فلقد أغلقت السكة وزحفت ناطحات السحاب على
كبدها.. وسلخت المدينة برمتها جلدها البالي ولبست قناعها المعفر بطيوب
الإله النفطي وذكريات "الشركة المعظمة" وطفقت تغني متشردة في شوارع مدن بلا
قلب كمنبوذ لفظته قوانين القبائل الصحراوية الصارمة في حادثة عار."(81)
دلالة الموت والمقبرة تتناص أيضًا في أعمال الزبيدي، لذلك سنؤجل الكتابة
عنها، مكتفين بتحليلها كما وردت في سياق الرواية، علمًا بأن تحليل أيٍّ من
سياق الأعمال الثلاثة منفردًا ينير عتمات العملين المتبقيين ويشكل مفاتيح
لمغاليقها في أغلب الأحيان. انتقال الأحداث إلى المكان الجديد سبَّبه
انتقال الشخصيات الثلاث. بعد موت عبيد وراية واختفاء سلطان السَّرابيِّ
يلتقون في "المقبرة" (سلطان يلتقي بعبيد)، ثم في "بار عامر" (الثلاثة
معًا). الانتقال من الخارج إلى الداخل له دلالته أيضًا في مسار الأحداث
المقبلة التي ستتضح في قصص أخرى مقبلة يلتقي فيها عبيد العُماني بصديقيه
الحميميين، مع أن شخصياتهم تذهب مذاهب الثوري المثقف، والشعبي المعادي
للسلطة بالأفكار وليس بالسلاح، كما هو الحال بالنسبة إلى شخصيات قصة
"الجثة" –مثلًا- أو رواية "أحوال القبائل عشية الانقلاب الإنكليزي في
صلالة"، حيث أزيز الرصاص وقذائف المدافع وسيلان الدماء. لكن سرد الزبيدي
يراوغ إلى أبعد الحدود، ويختم قصة "العُمانية في السّكّة" بالأمل المعهود:
"كانت الشمس متقدة كتلك اليوم التي منحت فيه رأس الحسين أشياءها(82).
كانت البحار تمور.. الأرض تدور.. والعمارات المبثوثة كالبثور وَجِلَة من
ملامح البعث والنشور. وحدهم جلس الثلاثة يتنادمون بينما ارتفع صوت المغني
جليًّا واضحًا:
"الموت يبني الشجاعة
يخلق الشجعان
فكر بباكر ولا تبكي
على ما كان."(83)
هنا تنتهي قصة "العُمانية في
السّكة". يعلو صوت المغني ليعرف القارئ عبره رأي الراوي في ما سيأتي، أي في
المستقبل الذي ستكف القصة عن الخوض فيه، وسيبقى مُتخيَّلًا فقط في ذهن
القارئ المبالي أو القارئ المصغي إلى صدى الأغنية بعد نهاية القصة. سيستمر
النضال، نضال عبيد وسلطان وراية. الرفض طبيعةٌ في أعماقهم حتى الموت لا
يستطيع قتلها. اقتباس كلمات أغنية أو نشيد يرتبط بفضاء النص على نحو وثيق
قد يكون من شأنه إيجاز القول والتصريح ضمنًا بوجهة نظر، كما هو الحال في
نهاية قصة "العُمانية في السّكة". الأصدقاء الثلاثة يتنادمون في الحانة لكن
القارئ لا يسمع أصواتهم، يراهم فقط ويسمع صوت المغني جليًّا واضحًا يحرض
على التفكير وينهى عن الندم والحسرة ويبث الأمل: "فكّرْ بباكر ولا تبكي
على ما كان".
في قصة "ربيع الماء الآتي" يدور
حوار بين عبيد العُماني ومالك الحزين، كل منهما يسأل الآخر عن سبب تسميته
باسمه!. يسأل مالك الحزين عبيدًا: "وهل شاهدت الملكين هاروت وماروت؟ وهل
زرت الجنة؟ هل رأيت النار؟"(84)؛ أي أنه يسأله عمَّا يفترض
مشاهدته في آخر الحياة أو بعد الموت، لكن إجابة عبيد العُماني تأتي معاكسةً
تمامًا: "كل هذه الأمور خَبِرْتُها وشاهدتها في الأزقة قبل الموت.. أقصد
بعده"(85). يبدو أن التردد في إجابة عبيد العُماني ينتهي
مستدرِكًا نافيًا الرؤية قبل الموت، أي حاسمًا وقت رؤية هاروت وماروت ...
بأنها تمت بعد الموت، لكن، في هذه الحال، متى دار الحوار بين مالك الحزين
وعبيد العُماني إذا كان هذا الأخير ميِّتٌ أصلاً؟!. يتضح من خلال تردد
إجابة عبيد العُماني ("قبل الموت .. أقصد بعده") أن هناك موتين وليس موتًا
واحدًا؛ الموت الأول هو الحياة نفسها (قبل الموت)، والموت الثاني هو الموت
الحقيقي. ولا يمكن الجزم بهذا على نحو أكيد واثق، فقد يكون الموت الثاني تم
في الحياة أيضًا؛ وبهذا المعنى فإن ميتاتٍ متتالية يموتها عبيد العُماني
وهو حيٌّ، أي أن حياته عبارة عن موت متواصل ينقسم إلى مراحل!.
قصة "ربيع الماء الآتي" تنبني على
التداعي الحر في الأفكار، أي دعوة الأفكار بعضها بعضًا واستدعاء غيرها على
نحو حر يبدو غير منتظم في الوهلة الأولى. تتداعى الأفكار فكرة وراء فكرة
وراء أخرى وتُسلِم واحدتُها إلى الأخرى: النصر، ذبابة الجبل، مالك الحزين،
الوفد، الملك المغيث، العجوز الساحرة الشمطاء، بيت السحرة؛ كأنها تنبثق
أحادى فرادى من هنا وهناك، مُنهِكةً القارئ حتى يلتقط أنفاسه بعد حين
ويتمكن من الربط بينها ومتابعة السياق متبيِّنًا أنها أجزاء تُشكِّل كُلًّا
واحدًا مجتمعًا. هذه أول قصص مجموعة (إعدام الفراشة) وفيها يظهر عبيد
العُماني ساخرًا سخرية لاذعة: "ذبابة الجبل السوداء السمينة، والسؤدد
والمجد وطول اليد والذراع كل ذلك مفهوم... ولكن نصر إيه؟ وفتح إيه؟ (مصمص
عبيد العُماني شفتيه متسائلًا في سره)"(86). هذه المرة تنتقل
الأحداث بعبيد إلى جنوب عُمان، إلى ظفار، إلى الجبل وأسراب الطيور والهداهد
ومالك الحزين والوروار واللّقلق والسَّمَّان(87) والفراشات
(فراشة الغسق البسيطة، فراشات الزرد، الفراشة العربية الذهبية، الفراشة
الزرقاء المرقطة، الفراشة الوردية الصغيرة)، والشجيرات، والمياه،
والأقحوانات، والذئب، والذبابة أيضًا!.
على الرغم من أن تساؤل عبيد يدور في سِرِّه "بيد أن السيدة الشمس (والتي تعرف عبيد العماني حق المعرفة) تجاهلت تساؤلاته"(88).
في خضم حضور الجبل والطبيعة الخلابة يوحي سطوع الشمس بالنور والوضوح
والإشراق والأمل لكنه ليس كذلك بالنسبة إلى بداية أحداث هذه القصة، فالشمس
"تباطأت في سيرها بمكر وهي تنظر شذرًا(89) لهذه الجموع التي
تدافعت في شوارع المدينة تركض دونما اتجاه... "تنهق" دونما سبب، تصول وتجول
ثم تحط كذبابة الجبل السوداء السمينة على القدور ومؤخرات النسوة قبل أن
تهوي على أسرَّتها متعبة ... منهكة."(90) الشمس غاضبة من الناس
إذن! عبيد وأصحابه ليسوا كالناس المنعوتين هنا لأنهم مشردون في الشوارع بلا
طعام ولا نساء، يشيعون أخبارًا عن "وليمة الساحرة" ويدَّعون "ويصرون أنهم
شاهدوا "بأم أعينهم" ذبابة الجبل السمينة السوداء.. والكولونيل الأشقر..
والساحرة الشمطاء .. والملك المغيث يتبادلون الأنخاب في بيت "السحرة
الكبير"(91). الناس مشغولون بهمومهم اليومية عن هموم عبيد
وأصحابه. تدافُعُ الناس وسعيُهم على هذه الشاكلة يجعلاهم يشبهون الحمير،
حتى إن أصواتهم تبدو كذلك. سخرية الراوي واضحة هنا، فهو يذم الناس ويقف في
صف عبيد وأصحابه. الناس يشبهون "ذبابة الجبل" أيضًا، لأنهم ينشغلون بالطعام
وممارسة الجنس ("القدور ومؤخرات النساء").
لعل الجبل المقصود هنا هو جبل سمحان
في ظفار، أو أحد الجبال التي كان الثوار يحتمون بها ويشنون منها هجماتهم
على السلطة وحلفائها من جيوش المرتزقة. "الكولونيل الأشقر" هو أحد القادة
الإنكليز الذين قادوا الانقلاب. إن صح القول فإن جزءًا من أحداث هذه القصة
يتبنى نهج "كليلة ودمنة" في إسقاط واقع البشر وظروفهم السياسية على
الحيوانات والطيور باعتبار أن سلوكها يمنح حرية الذهاب إلى المقاصد
المحددة، وذلك تجنبًا لذكر تفاصيل سهلة الكشف إذا ما أسندت إلى شخصيات
بشرية!. لكن الكتابة على منوال "كليلة ودمنة" في قصة "ربيع الماء الآتي"
–وأجزاء أخرى متفرقة من أعمال الزبيدي الثلاثة- ليست خالصة تمامًا لروح
التخفي المطلق في أُهُب الحيوان وعوالمه، إذ يحكم "الملك المغيث" البشر
والحيوان والطير. ومع ذلك فمنطق القوي والضعيف والصالح والفاسد في هذه
القصة يرسم بعض الشخصيات الثانوية لأسباب تخدم السياق العام: "أشواق سرية
واتفاقات معلنة بين زعامات قبائل مالك الحزين وزعامات الهداهد والوروار
واللقلق والسمان وشجيرات الماء وأمم فراشة الغسق البسيطة واتفاقات سرية،
وأحوال، ومنازل، وأولياء، بمداد سري وشهادات عرش الماء المكين ... الشيخ
"مالك"(92).
يلقي الشيخ مالك الحزين خطابًا في
"جماعاته وأصحابه". هذا الخطاب يكاد يشكل فحوى القصة كاملة: "- أعرف أنها
كارثة ... فدخان المدافع أعمى عيوننا وقعقعة أسلحة الجنود سوَّدت حياتنا،
وهؤلاء السادة الجدد يقتلون ويقتلون... خلافًا لكل المواثيق والعهود"(93).
السادة الجدد هم الإنكليز مخططو الانقلاب. وباعتباره أحد أعضاء "الوفد"
يتحدث مالك الحزين ثانية في حضرة "الملك المغيث": "عسكر السلطان يا مولاي
ذبحوا قومي، ونتفوا ريشي، وهدموا عشي، والتهموا القلب والكبد والحشاشة
والمصران". كل هذه الأحداث تترتب بناءً على "الانقلاب الإنكليزي" والعمليات
الممهدة لتحقيقه.
لنعد إلى حوار مالك الحزين وعبيد
العُماني. يتسامر الاثنان، يسأل عبيدٌ مالكًا عن سبب تلقيبه بـ"مالك
الحزين"، ثم يسأله مالك الحزين:
"- وأنت لم يدعونك .. هكذا.. "عبيد"..؟
- كان اسمي "حرّ...".
- كوكو....
- ذبحوني مع الإمام عزان في جبروه(94).
- كو. كو...
- فبعثت...
- كوكو...
- كان لا بد من التخفي فسميت نفسي "عبد بن الحر".
- كوكو.
- اكتشفوني فاغتالوني في سمحان.
- كوكو....
- بعثت من جديد.
- كوكو...
- سميت نفسي هذه المرة "عبيد...".
- ولِمَ العماني إذن..؟
- ربما محض صدفة(95). وربما...
- وهل شاهدت الملكين هاروت وماروت؟ وهل زرت الجنة؟ هل رأيت النار؟
- كل هذه الأمور خبرتها وشاهدتها في الأزقة قبل الموت.. أقصد بعده"(96).
عبيد العماني كعادته ليس متأكدًا.
في القصة السابقة كان يرد برصانة بقوله "محتمل"، وهنا يفعل الشيء نفسه لكنْ
بكلمة أخرى تكرارها يفيد عدم اليقين ("ربما... وربما")، أي أنه هو نفسه لا
يعلم لم سمي بالعماني، لكنه هو من سمى نفسه بـ"عبيد" وقبلها سمى نفسه
"عبد"، ماحيًا اسمه الأصل "حرّ" حسب مقتضى اشتراكه في القتال والمعارك عبر
العصور العُمانية، أي أنه كان حرًّا حين اشترك في القتال ضد أعداء الوطن،
وأصبح عبدًا الآن لأنه مأسور الإرادة ومستعبد من قبل سلطات الانقلاب
الإنكليزي المتحكمة في حركاته وسكناته، كما لاحظنا في القصص السابقة، ولأنه
في هذه القصة لا يستطيع التعبير عن معارضته إلا بالعزلة والابتعاد والصمت
ومسامرة الطيور. في هذا السياق يتكشف لنا أمران اثنان:
1- عبيد العُماني: اسم على مسمى ترتب على "الانقلاب
الإنجليزي" وتداعياته المستمرة. ويرمز الاسم إلى انقلاب أحوال العُمانيين
أيضًا بسبب "الانقلاب الإنكليزي" ذاك وتحولهم من الحرية إلى العبودية حسبما
تبينه أحوال عبيد العُماني في قصص (انتحار عبيد العُماني) و(إعدام
الفراشة). وبكلمات أخرى: إن "الانقلاب الإنكليزي" جعل حرية الناس مرهونة
بيد السلطة التي تمتعض وتمارس دكتاتوريتها ضد الحرية كلما أبدى عبيد رفضًا
لما يجري، بل تتدخل –كما سنرى- حتى في ما تعرب عنه ملامحه من حزن دائم!.
2- انقلاب حال عبيد العُماني (باعتباره شخصية في قصص
الزبيدي وباعتباره يرمز إلى شعب) من القتال المسلح إلى المعارضة السلمية
المعبر عنها بالكلام والصمت أيضًا. يحدث هذا لعبيد في الوادي الكبير بمسقط
وفي البحرين ودبي وفي ثورة ظفار برغم "قصف المدافع العمياء"(97)،
أي أن تاريخ عبيد العُماني ابتداءً من هنا ينضوي تحت لواء المثقف والمواطن
والعامل الكادح الرافض بصمت، مقاطعًا تاريخه القديم ("ذبحوني مع الإمام
عزان")، وحتى تاريخه القريب جدًّا الذي لا تكاد تفصله عنه مسافة تُذكَر:
("كشفوني فاغتالوني في سمحان")!. وبناءً على هذا يكون عبيد العُماني حالة
موقوتة قد تنقلب على هيئتها من جديد وتستعيد تاريخها وتصبح فاعلة بذلك
المعنى القتالي المُتحسَّر عليه هنا حتى بتغيير الاسم. وهذا كله يعني أن
الإيهام إمكانية تستمدها أعمال الزبيدي من طبيعة القتال والمعركة والظروف
المحيطة، فما لا نفكر فيه قد نفاجأ بانبثاقه من بين السطور، كما هو الحال
هنا لتاريخ عبيد العُماني الذي تدل "مسامرته" طائر الماء في قصة "ربيع
الماء الآتي" على عدم قبوله أبدًا بالموت، وعلى انبعاثه المتتالي بوعي
يؤازر النضال القومي العربي والنضال مطلَقًا أينما كان ويستدعيه: "بيد أنني
رأيت في أحلام اليقظة شهداء بيروت وجموعًا من الأطفال الشهداء والجرحى
والمعذبين"(98).
مدينة الانقلاب الانجليزي .. طبيعة الشعب الحر
بتتبع صورة المدينة وأحوالها في
أعمال أحمد الزبيدي الثلاثة يجد القارئ تحقيرًا لها ومقتًا مقابل تمجيد
الطبيعة ورموزها: الجبل والماء والخضرة والطيور، خاصة حين يتعلق الأمر
بمدينة صلالة التي تعتبرها أعمال الزبيدي مكان تدبير الانقلاب الإنكليزي،
فهنا ينفتح باب الشتم والتحقير والسخرية –حسب مقتضيات الأحداث- على المدينة
ولا ينغلق. ومع ذلك ففي قصة "ربيع الماء الآتي" -هذه التي لا نزال نحاول
تحليل تحوُّلات شخصية عبيد العماني فيها ومن خلالها- "كانت المدينة تستلقي
على فراشها عارية وهي تحلم في سرها –مكسورة الخاطر- بـ"عبيد" الذي ذهب
بعيدًا.. فيما(99) هما –أي عبيد وصديقه- يتسامران على غدير
النبع الرقراق في السهوب المحاصرة بالساحرة الشمطاء... وذبابة الجبل
السوداء السمينة... وقصف المدافع العمياء."(100)
وعبيد العُماني "كان يسكن في جوار
الملك "نور الأرض". أي في المقبرة المجاورة بجوار المعتقل المجاور، فإنه
والحال هذه كان معتادًا على صيحات "نور الأرض" ونباح كلاب المقبرة وأنين
نزلاء المعتقل"(101). لا يخفى هنا التناقض بين "نور الأرض" وبين
الظلام الذي يعكسه على ما يجاوره ومن يجاوره ومنهم عبيد العُماني الذي
تنعكس عليه المفارقة كونه يعيش في مقبرة تجاور قصر الملك، وهو –أي عبيد
العُماني- الشَّاهد هنا على اختلاط الصيحات والنباح والأنين، الشاهد على
انتماء كل صوت إلى صاحبه: الصيحات إلى الملك، النباح إلى الكلاب، الأنين
إلى المعتقلين، وهؤلاء يسميهم الراوي في تهكمه الأسود "نزلاء المعتقل"،
و"النزيل" هو "الضيف. و –المشارك في المنزل أو الوطن."(102)
في هذه القصة يظهر رفيقا عُبيد
العُماني مرة أخرى (سلطان الخروصي، راية). رأينًا عبيدًا وحيدًا يستجير
بمالك الحزين والطبيعة من الناس واستبداد السلطة، وهنا نشهد عودة صديقيه
لمشاركته أحداث يومه وتفاصيل مرحلة أخرى من مراحل الوطن في بقعة أخرى من
بقاعه. "المواسم" هذه القصة الطويلة البالغ عدد صفحاتها 23 صفحة قلَّما
يظهر عبيد العُماني والسيد سلطان الخروصي وراية فيها، ويستغرق الراوي في
سرد "موسم الملوك" و"موسم السيد عبدالله" و"موسم المطر" و"موسم لبن السباع"
ومواسم أخرى، يسرد مواسم النفط والحروب وحلم الملك الذي يسرده لأمه. ما
زال عبيد وصديقاه يتجادلون لكننا سنكتفي بإشارات سريعة إلى شخصية عبيد فقط.
الأحوال الراهنة نفسها أحوال الانقلاب الإنكليزي، أي بالغة السوء حسب
طبيعة المرحلة الجديدة، لذلك يأتي ذكر "روح الأجداد" لكن كدلالة مرتبطة
بمعنى ثوري خانه الأحفاد أو تخلوا عنه وليست مرتبطة بالمعنى القبلي
المتفاخر به. كما أن حضور المطر وشهر يونيو يدل على استذكار ثورة ظفار
والترقب والأمل والخصب والاستمرار.
الطبيعة في هذه القصة –كما في سرد
الزبيدي عمومًا- تتأنسن وتشبه طباعها طباع البشر خيرًا وشرًّا، وقد تنطبق
عليها أحيانًا جميع الظواهر البشرية: خيانة، ثورة، في صف هذا أو في صف
العدو... إلخ. والمدينة في هذه القصة –كما في أعمال الزبيدي الثلاثة أيضًا-
قبيحة كريهة لكن عبيد العُماني أحبها برغم خذلانها أحيانًا، كما هو الحال
هنا بالنسبة إلى المطر الذي يجرجر عربات سحبه ولا يجود بقطرة: "امتعض عبيد
العُماني فهتف به:
- ما هكذا رجاؤنا أيها الصديق المطر.
واستهولت راية:
- من يحمل هدايا السيد عبدالله إذن؟
بيد أن السيد سلطان الخروصي ردهما بـ:
- الصديق المطر يطلب المزيد من التظاهرات..
عندئذ كان الأطفال قد انسربوا في شقوق كثيب البيوت بقلوب مكسورة وعيون قلقة ومشروع لسؤال كبير:
- لماذا أيها الصديق المطر؟
ووحدهم الكبار افترشوا دكة المقبرة في ديوان عبيد العُماني يتحدثون:
- للصديق المطر.. مواقيت وعلامات."(103)
المطر في هذه القصة أشبه بمعبود
يخضع له قوم بدائيون وينتظرون قدومه بصبر نافد. المطر رمز. إشارات كثيرة في
القصة إلى ثورة ظفارة وإلى الدعم المقبل من عدن، وإلى ما تستدعيه الثورة
من نضال يتسبب في حدوثها. في عام 2001م يعود عبيد العُماني إلى الحياة، أي
في بداية الألفية الجديدة، بعد أن اختفى منذ عام 1985م وبقي حبيس الكتاب
الوحيد الذي أصدره الزبيدي حتى ذلك الوقت؛ يعود عبيد العُماني إلى الحياة
بوعي آخر ليشهد تطورات مرحلة أخرى أحدث صارت إليها البلاد وصار إليها شارع
مدخل عاصمتها العاج "بمختلف أنواع الضفادع والسَّحالي والعناكب المصدرة من
اليابان –أو هكذا خيل للسيد عبيد العُماني- وتلك الأخرى المبعوثة فوق
العادة من أمريكا المتكبرة والتي كانت تتلوى كحيزبون وتعوي كذئب أو تبرق
نجمتها التي تذكر بتلك الخطوط المتقاطعة والمسنونة كخازوق بالخطوط العصبية
على قفا العلم الإسرائيلي الذي أخبره صديقه سلطان الخروصي بسخرية واضحة أنه
أضحى يرفرف"(104). حياة عبيد العُماني الجديدة هنا جديدة من
نواح عديدة، إذ إنها تأتي بعد ما لا يقل عن عقد ونصف من موته ("انتحار عبيد
العُماني)"، وبعد ثلاثة عقود على "الانقلاب الإنكليزي"، وما يراه عبيد هو
نتائج "الانقلاب الإنكليزي" من تحديثات وعلاقات وتطور.
وربما لأنه بعث في عصر جديد عليه
تمامًا هذه المرة بعث "غير منتبه –أي السيد عبيد- إلى الإعلان الرسمي
بتغيير مواعيد الفصول ومدارات الكواكب وأحوال الدهر.. ولا إلى الشرطيين
الرسميين بأذرعهم البيضاء التي أشارت للشرق والغرب والشمال والجنوب في آن
... بل وإلى جهة خامسة غير معلومة يقال إنها تؤدي بسالكها إلى اعتلاء صهوات
البراق والمجد والسفارات والمناصب وعاهرات المدن القحبة ومؤخرات الغلمان
المرد"(105). هكذا إذن يصبح وطن عبيد العُماني على علاقة
بإسرائيل، ويتحول من البدائية إلى حياة جديدة قائمة على السيارات والرفاهية
والعاهرات والغلمان المرد. لقد أصبح هذا الوطن غريبًا إلى درجة أن مواعيد
الفصول وأحوال الدهر تغيرت. هذا مفهوم تمامًا في سياق الأحداث المتعلقة
بشخصية عبيد العماني وصديقيه سلطان وراية. كان آخر ظهور لعبيد في أواخر
سبعينيات القرن الماضي، وإثر عدة ميتات ها هو يحيا على ما لا يمكن أن يخطر
بباله قطّ. في هذا الزمن خطت الأحداث والتغيرات خطوات حوَّلتِ الدهر فعلًا
إلى دهر آخر. إن أبرز التحولات –في سياق شخصية عبيد- إعلان بعض السياسات
التي كانت تمارس في الخفاء سابقًا، وتوجزها رفرفة العلم الإسرائيلي. آثار
الانقلاب الإنكليزي تتجلى الآن لعبيد العُماني في خضم أحداث وتحالفات
وتحوُّلات جمَّة، ففي واجهة السرد وخلفيته تحضر حرب الخليج، العراق،
أفغانستان، البوارج، حاملات الطائرات ... تغير كل شيء حتى المقبرة،
والمقبرة –كما رأينا وسنرى- ترمز إلى الوطن.
لا ريب أن قدرات الدولة القمعية
تغيَّرت أيضًا: "لم يكن السيد عبيد العُماني ميالًا للانتباه، ولا حتى
لاهتبال الفرصة من أجل اختبار حواسه التسع التي رهنها لدى سوبر ماركت
(النهضة المباركة) مقابل (بطحة عرق) بيعت له خلافًا للقوانين المتشددة التي
أعدتها مؤسسة (الكولونيل ب. ب.. آند شل لخدمات المجاري العامة وتوطين
البدو لبلاد ما وراء البحار). ففي خضم هذه الملابسات لم يكن السيد عبيد
العُماني ميالًا حقًّا لأي شيء .. لا ولا حتى لاستراق النظر لمعمعة
الشرطيين السريين الذين انشغلوا بزرع أجهزة التنصت الأنيقة في أدمغة وقلوب
(الإخوة المواطنين) وبتركيب آلات التشويش في أجهزة إرسال كل هذه السحالي
والعناكب والضفادع التي أزعجت (الإخوة المواطنين) بنقيق هؤلاء اللكاعيين من
كلاب مقابر الليبرالية."(106) لغة السرد تتصاعد متكاتفة
واستغراب عبيد العُماني من التحولات المنفلتة من كل عقال، التحولات التي في
نهاية المطاف ليست سوى نتيجة حتمية للانقلاب الإنكليزي.
تشكل شخصيات عبيد العُماني وصديقيه
السيد سلطان الخروصي وراية ظاهرة في قصص أحمد الزبيدي. على مستوى الشكل
والمضمون تبرز شخصية عبيد العُماني على وجه خاص مسار تجربة أحمد الزبيدي في
كتابة القصة القصيرة، وإن كان سلطان وراية أيضًا شخصيتين تعكسان شخصيات
العُمانيين في الواقع إلا أن عبيد العُماني، بكل حالاته، وأينما كان، صورة
حية لكل (العبيد) العُمانيين المضطهدين حتى الآن، في الشارع، في الوظيفة،
في الوطن بأكمله، بواسطة الانقلاب الإنكليزي الذي حقق أهدافه الإمبريالية
بضراوة. الشخصيات الثلاث تترافق وتنفصل عن بعضها بعضًا وتموت، وتعود إلى
الحياة من جديد، وتلتقي عبر أكثر من قصة وأكثر من كتاب، في ما يشبه متتالية
قصصية أو أجزاء من عمل غير مجموع. يمكن قراءة الشخصيات على هذا النحو لكن
دون إغفال كونها –كما هي الآن- تستمد أهميتها أساسًا من استمرارها عبر
الزمن، وقدرتها على الظهور والاختفاء والمفاجأة، كأنها تَحقُّقٌ مستمر
للمقاومة والرفض والتمرد وحفر طريق الأمل والثورة.
في (سنوات النار)، رواية أحمد
الزبيدي التي هي الآن قيد الصدور، يظهر عُبيد العُماني والسيد سلطان
الخروصي وراية مرة أخرى، ويقطعون طرقًا وعرة شاقة للاجتماع بعيدًا عن أنظار
سلطات القمع. دائمًا سيظلون رافضين ومتمردين وثائرين ضد الدكتاتورية
والقمع. عبيد العُماني هو "الحبيب" و"الرفيق" الذي يسأل في أعماقه بعد
عودته في الألفية الجديدة: "من قال أن ليس ثمة مجال للأمور الخارقة في
زمننا الأخرق هذا؟"(107) وهذا يعني الكثير حسب منطق سرد أحمد
الزبيدي. إن مقاومة عبيد وسلطان وراية ما زالت تقهر القمع بطريقتها. روح
النضال تتناسخ، والمواطنون، وإن بدا الواقع مؤقتًا خلاف ذلك، يرفضون الظلم
والقهر. إن الزمن لا يُقاسُ من فرط وطأته على المظلومين، لكن روح المقاومة
والرفض أشد وطأة على سلطات القمع وتجعل الزمن بدورها عجيبة من عجائب وطن
عبيد العُماني: "حتى الآن ما زالت السلطات الرسمية تتهامس بسرية ما أكدته
العامة في الأحاديث والمواويل و(الرزحات) من أنها –أي السلطات- شنقتهما –أي
عبيد وراية- فكركرا، وعدَّتهما متَّهمَين فضحكا، وأحرقتهما فنصبا النار
خيمة وتضاجعا، وحبستهما في ترسانة من الإسمنت فهربا تاركَين شجرة خضراء
يانعة على جدار الإسمنت البارد.
من ساعتها والسلطات تطارد الأشجار الخضر.
مضى على ذلك قرن .. قرنان .. برهة .. برهتان."(108)
من أعمال الكاتب أحمد الزبيدي
سعدية العمياء
(فصل من رواية "سنوات النار" قيد الصدور)
كانت
سعدية ذات الأصول الأفريقية من قدماء ساكني "الخرابات". عرفها الجميع
كامرأة عمياء. احترفت سعديّة منذ زمن طويل صنع "القشَّاط" وبيعه، وهو نوع
من الحلوى المحلية مكون من السكر ومسحوق جوز الهند. كانت تأتي كل صباح
يقودها ابنها ربيع، والسلال على رأسها ملأى بحلوى "القشّاط"، تفترش الأرض
في مكان قريب من المدرسة الابتدائية. وعند خروجنا من المدرسة كنا نندفع نحو
سعدية العمياء نشتري بما لدينا من "بيسات" قليلة بعضاً من حلوى "القشّاط"
الشهية.
كانت سعدية في غاية اللطف معنا، ومع
أنها كانت عمياء فقد كانت تتعرف إلينا بطريقة ما، وتنادينا بأسمائنا،
فيكبر حبها واحترامها في قلوبنا الصغيرة، صحيح أن الأمر لم يكن يخلو من
دعابات الأشقياء الصغار، إلا أن سحر شخصية سعدية وحبها للصغار كانا
يُسوِّيان كل شيء في إطار من المحبة والدعابة.
استطاعت سعدية بـ"البيسات" القليلة
التي جمعتها من بيع حلوى "القشّاط" أن تتدبر أمورها، وتقيم أودها، وتُربِّي
ابنها ربيع الذي نشأ قويّاً سليماً لفرط عنايتها به وحبها له.
كان ربيع الأسمر -وهذا هو اسمه- في
الصفوف الدنيا بالمدرسة الابتدائية غير مهتم بالدروس، ومع ذلك فقد كان
ينتقل من مرحلة لأخرى بعلامات الحد الأدنى. تحلى ربيع الأسمر بخلق رفيع
وتهذيب بالغ، ونشأ قوياً وسيماً مفتول العضلات، وبسمرة تنتسب لأصوله
العرقية المختلفة. في مراهقته أُغْرِم بفتيات "الخرابات" ذوات الأصول
الأفريقية، إذ إنه لم يهاجر شأن أقرانه نحو البلاد النفطية المجاورة، ظل
ربيع الأسمر ملتصقاً بأمه وشاهداً صامتاً على الأحداث والتحوُّلات.
بعد المدرسة الابتدائية لم يكن ثمة
مدرسة أعلى. كانت هي المدرسة اليتيمة في الخرابات، ولم يكن في عالم
الخرابات ثمة عمل -أيُّ عمل- ليقوم به ربيع الأسمر. ولم يكن ثمة اقتصاد أو
مهن، فلقد دمَّر الرجل الإنجليزي وتابعه السلطان كل شيء في الوقت الذي بخلت
فيه بريطانيا على الخرابات (بحبة) "الأسبرين"، بل ومنعت وصولها إليهم من
آخرين.
في ليلة من تلك الليالي السود تسلل
ربيع الأسمر وحبيبته قريبة والد سالم لواء الشرطة نحو الحدود الجنوبية حيث
التحق بالثورة، وعاش برفقة زوجته في مدينة حوف بالمحافظة اليمنية السادسة.
في نظر البعض، فإن هروب السيدة
"الشريفة" مع ربيع الأسمر لم يعد مجرد فضيحة، كان الأمر أكبر، فالأمر لم
يعد يتعلق بالالتحاق بالثورة أو مغادرتها، كان الأمر كله ينصب على سيدة
الحسب والنسب قريبة لواء الشرطة الذي لاكته الألسن ليس في العمرانية فقط بل
في مدينة صلالة بأسرها. قال البعض الآخر، لقد فعلها "العبد"، وإنها ضربة
"معلم"، ومن جهتهم أكد القوَّالون أن ربيع كان عضواً في جماعة "سرية"، وأن
ثلة من الثوار قد غطت هروبه، وقد كشفت المصادر المطلعة أن الجوهري في
المسألة ليس ربيعاً، وإنما هو امرأته، قريبة لواء الشرطة الذي أُسقط في يده
فاحتجَّ ودعا إلى اجتماع سري لمجلس السحرة المحلي.
المجلس المحلي للسحرة "حاص وباص"، وخلص إلى أن ربيعاً
سحر قريبة لواء الشرطة، "إذ لا يعقل أن تحب الشريفة الطاهرة عبداً ..."
هكذا قيَّم مجلس السحرة المحلي المسألة: "الله خلق الناس مراتب، مراتب في
العلا ومراتب في الطين." والله خلق الخلق .. وجعل لكل طائفة فضيلة، فالسادة
للحكم، والقبائل للقتال، والعبيد للخدمة والطاعة والعمل."
الرجل الإنجليزي خلص هو أيضاً إلى
أن المسألة أكبر من " كل شيء"، وأنه -وإن كان هناك من يرى في المسألة قضية
رأي عام- يرى أن هذه القضية من "متعلقات الأمن الداخلي والسلامة العامة".
أجهد الرجل الإنجليزي نفسه في شرح المسألة، وخلاصة القول إن هذا الرجل كان
يرى أن ربيعاً خرق التراتب الاجتماعي من جوانبه الطبيعية والعرقية
والثقافية كافة، ومسَّ كرامات الشرطة ومقاماتها، وهي كرامات ومقامات ذات
طابع سياسي، ولها علاقة بمكافحة الإرهاب والحفاظ على الأمن.
كانت زوجة ربيع الأسمر قريبة "سعيد"
"لواء الشرطة"، امرأة خارقة الجمال، ذات حسب ونسب، في صباها ردَّت يد
قريبها لواء الشرطة الذي طلبها للزواج، وفي شبابها أُغْرِمَتْ بربيع
الأسمر، وظلَّت وفيَّة لهذا الغرام حتى وفاتها. كان ربيع الأسمر يعمل في
وليمة عرس لهؤلاء الأشراف، ألقى تزاحم النساء بـ"عائشة" -وهذا هو اسمها- في
صدر ربيع الأسمر، ولم تكن غريبة عنه فقد لمحها في دروب "الخرابات"، وروت
له فتياتها الحكايات عن نبلها وظرفها وفتنتها، وها هي الآن أمامه خائفة
ومرتبكة، غرس عينيه في مقلتيها فتشظَّتْ شرارة الحب شرارات، همس في أذنها
مواعداً:
- نلتقي غداً على شاطئ البحر بعد العشاء.
رنت إليه ولم تقل شيئاً.
- ولكنها كانت هناك في ليل ذلك الموعد.
كان ذلك أمراً خارقاً للعادة في
حياة بلدة "الخرابات" الشديدة المحافظة. اثنان: رجل وامرأة، يفرقهما كل
شيء، الفوارق الطبقية، العرقية، والثقافية، وتجمعهما صبابة العشق والهوى
والمحبة. نامت "الخرابات" ولم تنم صبابة الحب وتوق الرجل والمرأة الطبيعي
لبعضهما بعضاً وحرقة الشوق والهوى؛ روائح عطرها الظفاري قادته إليها في
الظلمة، وفيض أنوارها الداخلي هداه إليها، حتى البحر هيّأ نفسه لهما فغدا
بساطاً أليفاً رائقاً.
قالت له:
- هل تحسُّ بالبحر؟.
ردَّد هامساً:
- إنه يحتفل بك.
فاض بها، وأدهشته، فتسمَّر وهو
يراها تخلع ثيابها ثم تلقي بنفسها في البحر عارية، ها هو يرى أمراً خارقاً
في حياته، امرأة من أرض "الخرابات"، أرض الحريم والمحظورات، تخوض عارية نحو
اللُّجَّة غير آبهة بسنن العادات والتقاليد التي جثمت على صدر هذه البلاد
مئات السنين، ذلك ما لم تقدم عليه في تاريخ هذا الوطن، إلا السيدة المبجلة
أمه، أم السّعد. صحيح أن أم السّعد تلاشت في الأفق بيد أن حفيدتها الثائرة
الجديدة عادت إلى الشاطئ وقطيرات الماء تلمع في الظلمة على جسدها البضِّ
الجميل.
سألته ضاحكة في غمرة اضطرابه واندهاشه:
- ما وراءك أيها الرفيق؟.
- الحب... (أجابها).
- في الحب مغانم ومغارم.
- أنا لها.
كان جوابه قاطعاً صادقاً... فعاودته:
- صحيح؟!.
- نعم.
- إذن نتعاهد.
ذهبا إلى البحر حيث تتلألأت مويجات
مَدِّه ... خاضا فيه وتعاهدا. شاهِدُهُمَا اليَمُّ، وعرَّابُهما جدَّتهما
أم السّعد، وأفراحهما موسيقى البحر الخالدة.
كانت الخرابات عشية ذلك اليوم الذي
سبحت فيه عائشة في البحر عارية، في أسوأ حالاتها: اشتعلت الحرب في الجبل،
زأر الجبل معلناً ثورته، فجاءت الجيوش تحتل البرَّ والبحر، لم يعد الشاطئ
ملاذاً آمنا للقاء العشاق، وضاقت الأرضُ بما رحبت، سُجنت الخرابات بالأسلاك
الشائكة، وتوالت الدوريات العسكرية، ولم يعد ثَمَّ حياة ... كان الدكتاتور
وحيداً في مقره يحيط به ضباطه الإنجليز الذين كانوا يتآمرون لسلب أمواله
والانقلاب عليه. لم تعد الخرابات تحتمل مثل هذا الحب، بل إن بلداً مهزوماً
ومحتلاً بالإرادة الأجنبية لم يكن ليقبل بمثل هذا الحب، الدكتاتور لن يقبل
به، والرجل الإنجليزي قد يرى فيه تمرداً ثوريّاً شديد الخطورة.
حسم ربيع الأسمر وعائشة أمرهما،
تسللا في الظلمة، اجتازا الدوريات العسكرية كي يهبطا على فنن "طيقة" في قلب
الجبل الثائر ككناريين للحب والحياة.
إنها ثورة الخرابات التي حاكت ثورة
الجبل ولكن على طريقتها الخاصة، فها هي الحياة تدبُّ في أرض أم السّعد بعد
طول سبات رافعة رايات التمرد والعصيان.
الرجل الإنجليزي وتابعه الدكتاتور
وأولياء الأمر ومجلس السحرة الأعلى أعلنوا الاستنفار، واتخذوا القرار: "إما
أن يعود ربيع الأسمر والسيدة الشريفة عائشة وإلا فستحرق أمه سعدية العمياء
التي تم احتجازها".
ربيع الأسمر لم يعد، بل أعلن زواجه
بالسيدة عائشة، في الموعد المحدد سيطر رجال الشرطة والأمن على مفاصل
الخرابات كافة، وأحضرت سعدية العمياء إلى ساحة القصر قرب السوق. وفي مشهد
احتفاليٍّ صَبَّ لواء الشرطة صفيحة البترول عليها، وأرسل ابن الوالي "بريق"
عود الثقاب، فاشتعلت النيران وتطاير اللهب وغدت سعدية العمياء حفنة من
رماد.
مرت الأيام وكرَّت الليالي، جاء
الانقلاب وغدت الخرابات، "العمرانية". تكالبت أموال البترول والخيانات
وجيوش السادة على الثورة، فترنَّحت ولفظت أنفاسها.
لواء الشرطة قتل في عراك مع مراهقين بحيِّ مانديلا، و"الرفيقة" السيدة عائشة قضت في منفاها، في حوف اليمنية، إثر مرض عضال.
الرجل الإنجليزي تقاعد في قصره
الفخم بلندن وانصرف إلى إدارة أعماله بعد أن أصبح مليارديراً، وظل يلهو مع
أقرانه المثليين مدعياً في أمر حرق سعدية العمياء بأنه كان ينفذ أوامر مجلس
السحرة الأعلى، وأن التماساته للعفو عن هذه المرأة المسكينة لم تجد أذناً
صاغية، كان ذلك كله مجرد لغو وصفاقة، وتسلية لرجل متقاعد على الطريقة
الإنجليزية.
ربيع الأسمر عاد من ملاذه الآمن في
حوف اليمنية إلى العمرانية، وانصرف إلى رعاية أبنائه الذين أطلق عليهم
أسماء أعضاء خلايا الروابط السرية (أحمد وسامر وحامد وفايل مبروك الزين
وحسناء)، والأخير كان الاسم الحركي لزوجته السيدة عائشة.
فصل من حوار لم يكتمل
(أجري
جزء من هذا الحوار في عام 2008، وجزء آخر في عام 2011، وعلى النحو المنشور
حاليًّا يعتبر الحوار فصلًا من حوار أطول لم يكتمل إذ بقي حبيس الأفكار،
ثم اتفق كاتب الدراسة والكاتب أحمد الزبيدي على صيغ أخرى تعوض عدم إكمال
الحوار).
· نشرتَ مجموعة قصصية واحدة ("انتحار عُبيد العُماني"،
دمشق، 1983)، ولم تنشر بعدها شيئًا، على الرغم من أنك كتبت مجموعتين
قصصيتين أخريين وثلاث روايات، لماذا؟.
** لقد جاء نشر مجموعة (انتحار عبيد العُماني) وساحتنا
الوطنية في أسوأ حالاتها. لقد تم محق الحريات محقًا شاملًا، فعلى الصعيد
العام تم دحر الثورة في ظفار، وامتلأت السجون بعناصر التيار القومي
اليساري، وأُخلِيت الساحة من الأصوات المطالبة بالحريات، وساد الخوف والهلع
كل زوايا الوطن. وعلى صعيد الثقافة لم يكن قد تشكَّل بعد صوتٌ ثقافي، ولم
تكن عملية التراكم على صعيد الثقافة قد أعطت نتائجها. وكان التعليم في
بداياته، ووُظِّفت عملية التنوير الهامَّة التي رعاها السلطان قابوس لمصلحة
الأمن وقمع الحريات.
لقد كان تهافت عناصر "الجبهة" إثر
انهزامهم المريع على النظام، وبحثهم بشكل فردي، وعلى الأغلب انتهازي، من
مواقع ومصالح فردية وقَبَلِيَّة في النظام قد أجَّج مشاعر الإحباط لدى
جماهير الشعب، وكانت مشاعر الشك والريبة واللايقين تمس القيم العليا للشعب
العماني، والتي تشكلت عبر مسيرة طويلة من نضال الشعب ضد الغزاة الأجانب وضد
الطغاة المحلِّيين. لم يعد المثقف هو الطليعة المقدام والزمرة المستنيرة
في صفوف الشعب، بل أصبح شاعر السلاطين ومدَّاحهم، وكان البعض منهم قد ارتمى
في أحضان أوكار القمع وفي أقبية الإمبرياليين الأجانب.
وفي الحقيقة فإن المحافظين
الإباضيين لم يكونوا خارج السِّرب، وكانت أصوات رموزهم تصب في مصلحة تيار
القمع. وكان هذا الأمر خطيرًا ويمس الروح النضالية للإباضية الحقة
وتقاليدهم العريقة المقدامة بوصفهم طلاب الحق. ولقد كان ذلك خروجًا على روح
الإمام الشهيد عزَّان بن قيس وفكره وعلى سائر الأئمة العظام الذين خاضوا
أروع النضالات ضد الغزاة الأجانب، وعملوا في أحلك الظروف وأصعبها على حماية
الثغور العُمانية والخليجية.
ربما كان ذلك موقفًا "تكتيكيًّا" من
بعض رموز التيار الإباضي. والحق إن الموقف العام برمته كان بائسًا، فقد
عمل الإنكليز خلال حكم السيد سعيد بن تيمور بشكل كامل وشامل على اجتثاث كل
القوى الحية في المجتمع العُماني، وشمل هذا التدمير الأسطولين التجاري
والحربي العُمانيين تحت ذرائع شتى. كما تم إلحاق الأذى بمؤسسة الرَّيِّ
العُمانية، واقتلعت القوى القبلية من جذورها وألقي بها في موجة هجرة وتهجير
بغيضة في منافي دول البترول وشرق أفريقيا عارية إلا من المرض والفقر والذل
والإهانة.
لقد نسب الإنكليز الأمر إلى سياسة
السيد سعيد بن تيمور، ولم يكن ذلك سوى النفاق عينه، فالسلطة الحقيقية كانت
سلطتهم ... سلطة الاستعمار القديم وسلطانه.
إن هذه الخلفيات ضرورية لفهم الظروف
الثقافية والسياسية وشروطها التي عاصرت ولادة العمل الثقافي والأدبي في
عُمان. وفي هذا الإطار كان صدور (انتحار عبيد العُماني) ضروريًّا كعمل
مستقل لكاتب من داخل عُمان نفسها، وضروريًّا لتدشين مرحلة جديدة من الكتابة
–المواجهة؛ هذه المواجهة التي أراها حاسمة لإنضاج الحياة الثقافية
والروحية للمجتمع، وهي مواجهة أقسى وأصعب من مواجهات المدافع أحيانًا.
بالنسبة إلى المجموعة كان أمر
الطباعة في حدِّ ذاته بالغ الصعوبة في ظروف الزمان والمكان. وبالنسبة إلى
الأحوال الشخصية المحيطة بي. وصَدَفَ في مطلع الثمانينيات أنْ كنتُ في
زيارة إلى دبي، وقابلت هناك الأخ والصديق جمعة اللَّامي الذي أخبرني بأنه
ذاهب في زيارة إلى سوريا، فأعطيته المجموعة كي يسلمها لعناية السيدة وزيرة
الثقافة في سوريا آنذاك، ولكن ظروف جمعة اللَّامي وبرنامج زيارته اكتنفتهما
ظروف أخرى، حيث أخبرني بأنه سلم المجموعة إلى الصديق المبدع يحيى يخلف
الذي غادر دمشق هو الآخر إثر خلافات في صفوف حركة "فتح". ولقد علمت بعد زمن
أنه أودع المجموعة دار نشر في بيروت، غير أن هذه الدار عُرِّضت للتدمير
إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان.
إن صعوبات الاتصال الهاتفي بدمشق
وبيروت من عُمان آنذاك، والوضع العربي والوطني المتسم بالقمع والإقصاء
والريبة والتهميش لكل صاحب رأي حر أخَّر إصدار هذه المجموعة سنوات. إن
تجربتي في مجال الطباعة والنشر آنذاك صعبة ومرة، وذلك أحد الأسباب التي
جعلتني أُحجِم عن النشر بعد ذلك، بيد أنني أؤكد أن الأمر الهام في هذه
المسألة إنما يعود إلى أن سياسة المنع والإقصاء التي قُوبِلتْ بها المجموعة
كان لها بالغ الأثر، كما أن سياسة الحفاظ على الذات وعلى أمور أخرى كانت
أهم من النشر في تلك الفترة.
· تكاد تكون الكاتب العُماني الوحيد المختفي كلية عن
الساحة الثقافية ومحافلها في عُمان، إذ إنك لا تنشر في الصحافة ولا تُشارك
في أي نشاط!. لماذا تتخذ هذا الموقف؟.
** أنا لم أكن
في حالة غياب، كما أن سياسة العزل والمواجهة فُرِضتْ عليَّ. إنه أمر بالغ
المرارة تذكُّر تلك المرحلة، حيث كانت الأوامر والنواهي وانتهاك الحقوق
والكرامة الإنسانية تصدر من الضباط الأجانب وكأنهم في "مبولة" وليس في وطن
له تاريخ عظيم من الكرامة والإباء. أما من حيث النشر في الصحافة المحلية
فقد كان ذلك مرهونًا بشروط في مقدمتها السماح بقيام تنظيم مهني أو نقابة
للكتاب والمبدعين، نقابة يضع هؤلاء دستورها وينتخبون قيادتها، وكنا نقول
للسلطات إن ذلك لن يكون "نهاية الدنيا ولا يوم قيامة العالم في كل حال"،
غير أن أولي الأمر كان لهم رأي آخر. وعلى امتداد ما يقرب من نصف قرن امتنعت
عن الكتابة في الصحافة المحلية، بل وعن حضور أي ملتقى أدبي والاشتراك فيه،
وحتى الآن فإن قدمي لم تطآ أي مؤسسة حكومية أو ثقافية ولو من بابا الفضول.
إن الوضع الطبيعي للمبدع أن يكون
جزءًا من نسيج أمته وشعبه وليس معزولًا في كوخ أو قصر من زجاج. لقد كانت
تلك الصالونات والملتقيات والمقار الباذخة المترفة التي قيل إنني معزول
عنها لا تفصح إلا عن الفراغ والعدم وأولئك الذين ارتضوا لأنفسهم تلك
المنزلة، منزلة خالد بن عوض الرِّيحة(109) وفقًا لأطماعهم الصغيرة وتقديرهم لذواتهم المدمرة.
· بالرغم من أن هناك مجايلين لك في عُمان ممن خاضوا أو
عاشوا الواقع السياسي قبل نشوء الدولة الحديثة إلا أنك الوحيد تقريبًا (إن
لم تكن هذه هي الحقيقة) الذي سلطت كتابته ضوءًا قويًّا على أحداث تلك
الفترة. لماذا يصمت الآخرون؟، ولماذا تشكل مواضيع ذلك التاريخ الثيمة
المركزية لقصصك ورواياتك؟.
** فليُسأل الآخرون عن صمتهم. أنا لست قاضيًا هنا،
والذي أستطيع قوله أن هذه الفترة التي تحدثت عنها هي من أخطر الفترات في
تاريخنا الحديث. لقد تم اقتسام الكعكة، وتم ترتيب أمور الدولة الحديثة لأمد
بعيد. لقد سرق اللصوص كل شيء، ولم يبق لأبناء الشعب سوى الفتات. هذا
يذكرني بقول الشاعر الشعبي "ديوان": "شجرة الهيلْ
مغروسة في قلبْ وادي
يوم ثمرتْ
خرفوها عيال الشياطين".
لقد كان ديوان أُمِّيًا لكنه بحسه
الشعري العميق كان أكثر صدقًا وقدرة وإبداعًا من كثير من القوَّالين
وأدعياء الثقافة الذين لا يتركون من زوبعة أقاويلهم سوى "ضرطة". إن الأحداث
التي شهدها وطننا خلال تلك الفترة التي تسأل عنها هي أحداث حاسمة على
الصعد الوطنية والقومية، ولذا يجري التعتيم على هذه المرحلة. إن أخطر ما
شهدته الساحة الثقافية في مرحلة إنشاء الدولة الحديثة هو اجتثاث الذاكرة
الشعبية لهذه المرحلة بغية إنشاء جيل بلا ذاكرة، أي جيل بلا ماض ولا حاضر،
جيل ضائع يلوك إبداعات الآخرين، ويكون مطية وهدفًا سهلًا لتحقيق أهدافهم
الشريرة. ولقد كانت أدوات تحقيق هذه الأهداف الشريرة زمرة من المثقفين، بغض
النظر عن النوايا الطيبة.
إنني أشعر بسعادة غامرة أن طليعة من
المثقفين التقدميين الشباب قد بدأت النضال الثقافي من أجل العودة إلى
الذاكرة الشعبية، ومن أجل قراءة "بعيون مفتوحة" وإبداع نقدي، وبحس جدلي
لتراث الشعب في مناحي الحياة المختلفة وليس على صعيد الإبداع الثقافي
والفني وحده. لقد قلتَ في سؤالك إنني الوحيد تقريبًا الذي سلطت كتابته
ضوءًا قويًّا على أحداث تلك الفترة –أي فترة إنشاء الدولة الحديثة. حسنًا،
إنني أقول مهما كانت قوة مخيلتك فإنك ستجد أن الأشياء والأحداث والأشخاص هم
في الواقع أقوى من أي مخيلة. إن الواقع أقوى وأعتى من أي مخيلة فردية. ومن
هنا فإن مساهمتي ليست سوى جهد متواضع ومحدود.
· في رأيك، من منظور إبداعي وتاريخي، مَنْ يُمثِّل ريادة القصة القصيرة القصيرة والرواية في عُمان؟.
** دع النقاد والدارسين المنصفين والمستقلين يقررون
ذلك، ولكن الكتابة التي تمولها السلطة والتي لها أغراض غير نقدية وإنما هي
جزء من سياسات الإقصاء والتهميش عملت على تجاهل أسماء وإبراز أسماء تبعًا
للمزاج السياسي والأمني المُتقلِّب، هذا المزاج الذي فرض سطوته على كامل
الحياة الثقافية ألحق أضرارًا بالغة بتطور هذه الحياة ونموها.
إن كَتَبَةً عُمانيين وآخرين غير
عُمانيين كثرًا –على شاكلة يوسف الشاروني- انصاعوا لرغبات موظفين معادين
للإبداع، وروَّجوا للأعمال الرديئة التي اتسمت بدعاية رخيصة للسلطات، أو
بهبوط مريع على المستوى الإبداعي، حتى الوزير عبدالله الطائي، وهو أحد
مؤسسي الدولة الحديثة ورجل دولة معروف، تعرض بعض أعماله للمنع والتجاهل
والإقصاء.
إن الروح الانتهازية وتلك الساعية
إلى تحقيق مصالح مادية أو الفوز بمقعد في ملكوت السلطة، وذلك السلوك المتسم
بالرعونة والذي لا تحكمه أية ضوابط أخلاقية أو مرجعيات فكرية، سمَّ بدن
الوطن وجعله سقيمًا عليلًا. عند الحديث عن الريادة فإنني أشير إلى أن هناك
من كتب ولم تُنشَر إبداعاتُه، ومن استُشهد وذهبت أوراقه مع الريح. وهناك من
لم يستطع النشر لظروف قاهرة. ولقد كانت ظروف الوطن قاهرة وعصيبة.
إن الريادة الحقيقية إنما تكون على
صعيد النص وقدراته الإبداعية واستجابته الخلَّاقة للعلاقة الإبداعية مع
المشتغلين عليه كافة من قراء ونقاد وحتى المبدع ذاته. إن أعمالًا إبداعية
كثيرة دشنت لمراحل جديدة في الأدب دون أن تسجل "ريادة في الزمان".
· إنك تتناول المواضيع الشديدة الحساسية، وتُسمِّي المصائب بمسمياتها دون لف أو دوران أو مطٍّ لحبال (الحذر!).
ألا تخاف؟
وهل على الكاتب أن يخاف؟
ومِنْ مَنْ؟
ولماذا؟
وإلى متى؟.
** كلنا نخاف، بل إن الخوف في حدوده
وشروطه أمر مقبول، وقد يرى البعض أنه مدخل للشجاعة. إن الفن يبدد هذا
الخوف بامتلاكه موضوع هذا الخوف والسيطرة عليه. وأنت تعلم أن أجدادنا
القدامى قد حاولوا السيطرة على مواضيع الخوف برسمها على جدران الكهوف بغية
فهمها وإعادة امتلاكها والسيطرة عليها.
إن مؤسسات الرعب، وليس الخوف،
امتلكت أدوات سيطرة وتدمير لا حدود لها في الدولة الحديثة، واستخدمت منجزات
التقدم العلمي في اختراع وسائل وأدوات لزرع الرعب والتدمير الفردي
والجماعي. إن أكبر المنتجين لهذه الوسائل والأدوات هي حكومات الولايات
المتحدة والدول الأوروبية.
إن بعض ما تسرب عن معتقلَي
"غوانتانامو" و"أبو غريب" يفضح أكاذيب هذه الدول بشأن الديمقراطية وحقوق
الإنسان. الولايات المتحدة وأوروبا تصدر هذه الوسائل والأدوات والخبراء إلى
دول العالم الثالث لتعذيب الشعوب وقهرها، وتجني من وراء ذلك أموالًا
طائلة. وهكذا تتكامل وسائل تكميم الأفواه، وأساليب الخداع والتضليل، وخبرات
الحروب النفسية، ومنجزات العلم والتقدم العلمي في ليِّ عنق الحقيقة، وفي
خدمة قوى الإمبريالية، وتغدو القيم الإنسانية السامية والمثل العليا
للشعوب، كاحترام الذاتية الثقافية والتعددية والديمقراطية والمساواة، مفرغة
من محتواها، وتتحول إلى أكاذيب تلوكها الطبقة السائدة وتوظفها لخدمة
أهدافها.
إن الخوف والرعب يبددهما الإيمان.
وفي سجل الشعوب الدليل الدامغ على ذلك، فلقد انتصرت الشعوب الإيرانية على
جهاز "السافاك" الرهيب، واستطاعت شعوب فيتنام ولاوس وكمبوديا إلحاق هزيمة
مذلة بالإمبريالية الأمريكية وأجهزتها الدولية وجيوشها الجرَّارة. إن
الشعوب المدركة لعدالة قضيتها تنتصر، فليس هناك من شيء أو قوة أو جنرال أو
رقيب أقوى من الإيمان بقضية عادلة.
· بعد قيام الثورات في كل من تونس ومصر وعموم الوطن
العربي هب العُمانيون في صحار وظفار وصور أول مرة بعد ثورة ظفار، مطالبين
بعزل الفاسدين ومحاكمتهم وإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية...
اختلف العُمانيون وغيرهم في تسمية ما حدث في عُمان ثورة، وهناك من يرى أن
هذه الكلمة أكبر من أن توصف بها تلك الأحداث على الرغم من سقوط شهداء وجرحى
واعتقالات ومحاكمات...
** ليس ثمة ثورة فيما حدث، فالثورة –أي ثورة- لها شروطها:
1- فلا بد من برنامج سياسي يهدف إلى إسقاط نظامٍ ما وإحلال نظام آخر بديلٍ له.
2- ولا بد من طليعةٍ ما تقود هذه الثورة وتعبر عن عقيدتها
السياسية ومشروعها للتغيير، وقد يكون ذلك عبر حزب ثوري كـ"حزب البلاشفة"،
أو جبهة وطنية كـجبهة التحرير الـﭬيتنامية، وتحوز هذه الجبهة تأييد غالبية
الشعب.
3- تتخذ الثورة أشكالًا عدة: كالكفاح المسلح، والعصيان
المدني، وحرب الغُوَّار، وحرب المدن. وقد يُزاوِج الثُّوَّار بين هذه
الأشكال أو بعضها. وقد تستخدم الاحتجاجات والمظاهرات لدعم الثورة وترويجها.
إن المخيلة الجماعية للشعب تستطيع
إنتاج أشكال متعددة لتحقيق الحلم الثوري. لقد قاد حزب ماو الثوري الفلاحين
في المسيرة الكبرى الشهيرة ببرنامج ثوري حاسم، وبقيادة تاريخية والتفاف
شعبي كاسح. وتمكن الفلاحون العراة من تحرير الصين وهزيمة الأعداء وتحقيق
أعظم المنجزات بالقيادة التاريخية للحزب الشيوعي الصيني، وبتحالف العُمَّال
والفلاحين المُعدَمين.
وللأسف فإن بلادنا العربية لم
تتوافر لها قيادة طليعة ثورية إقليمية أو قومية، وإنما سادت قيادة حركة
التحرر الوطني العربية برامج وأفكار وقيادة البرجوازية الصغيرة المبتذلة
والمترددة والانتهازية التي تعشش في أذهانها قيم الماضي الرجعية
واللاهوتية. لقد كانت هناك تجربة محدودة ولكنها ثرية وهامة في اليمن
الجنوبي، ولكن هذه التجربة النبيلة لم تسلم من القَبَلِيَّة والتناحرات
اللاعقلانية والسلوك البرجوازي الصغير أحيانًا، مما أودى بهذه التجربة
المتميزة في تاريخ حركة التحرر الوطني العربي.
والآن فإن أحدًا لا يترحَّم على
الجمهوريات الوراثية الفاسدة التي شبعت موتًا وفسادًا، ولكن استخدام
الاحتجاجات الشعبية لتحقيق مطامع القُوى الإمبريالية في عالم رأسمالي
تتسابق القُوى الطامعة فيه حتى على (عظمة) من جسد هذا الوطن العربي أمرٌ
يجب الوقوف عنده. وإننا نلاحظ أن القُوى المُنظِّمة المتصدرة للساحات إنما
هم جماعة حزب الإصلاح (الإخوان المسلمين) في اليمن، وجماعة حزب الإخوان
المسلمين في مصر، والجماعات الإسلامية الجهادية في ليبيا، وحزمة من
الجماعات الإسلامية الغامضة في سوريا.
إلى جانب ذلك فإن علينا أن نتمعن في
ما جرى في العراق عند الغزو الأمريكي-الإيراني للعراق، فلأسباب عدة شكلت
المرجعيتان الإسلاميتان الشيعية والسنية (الإخوان المسلمين) الغطاء السياسي
للغزو الأمريكي للعراق، وهو ما أعاد البلاد إلى القرون الوسطى، وقتل من
يزيدون على خمسة ملايين عراقي، بل إن هاتين المرجعيتين الدينيتين أعاقتا
انتصار المقاومة العراقية انتصارًا كلاملًا، وكانتا خير معين للغزاة
الأمريكان في كل حال.
لن تُسفِر هذه الاحتجاجات عن شيء مهم لصالح حركة التحرر الوطني العربي.
إن علينا أن نتذكر الثورات
الأمريكية البرتقالية في أوروبا الشرقية، والضجة الإعلامية المهولة التي
رافقتها، والتي أسفرت عن تدمير كل منجزات هذه الشعوب في المرحلة الاشتراكية
وأحالتها إلى جثة هامدة تسرح فيها عصابات الجريمة والاتجار بالبشر
والدعارة والفساد بكل أشكاله وأنواعه.
إن الوطن العربي، بل وشعوب الشرق
قاطبة، إما أن تنهض وتتحمل طليعتُها الثورية مسؤولياتها، وإما أن تتردى في
هوة سحيقة من الإذلال والنهب الإمبريالي. إن مصر المحروسة وجماهيرها
المليونية العظيمة التي نزلت في الساحات رجَّحت كفة الثورة. لو أن هذه
الجماهير كانت مؤطرة بحزب ثوري وطليعة ثورية وبرنامج سياسي. إنها فرصة
ثورية تضيع من فرص عديدة ضاعت بسبب الخلل في بنية الثقافة الثورية المصرية،
وبسبب عوامل أخرى كثيرة.
لقد أوضحت في روايتي "أحوال القبائل عشية الانقلاب الإنكليزي في صلالة":
- كنا نتآمر وكان عوض الريحة ينصب فخاخه (خالد/ عوض الريحة).
- كنا نناضل وكنتَ تتآمر (رحمة).
- الفيل الأجرب. الثورة مؤامرة (التقط أنفاسه).
- الثورة تيَّار (قاطعته رحمة).
لقد تحدث لينين وماو وهوشي منّه عن
التكتيك، التكتيك الذي يخدم الاستراتيجية والهدف المأمول، فليس في الثورة
مكان للسُّذَّج والمغفلين أو المعصوبي الأعين. لقد تم بتر جزء من النظام في
مصر كما يبتر الجراح الجزء المصاب، ولكن النظام ظل كما هو بجيشه وأمنه
وقُواه الأخرى المحتشدة حوله حليفًا موثوقًا للقُوى المعادية لشعب مصر
وأمنه ومستقبله.
· ماذا تُسمِّي ما حدث في عُمان في ظل الثورات التي لا تزال مشتعلة في الوطن العربي؟.
** والآن ماذا عن الوطن الصغير ... عن عُمان؟
في البدء دعنا نُذكِّر أن التاريخ
العُماني يختزن صورًا مضيئة لكفاح متواصل من أجل العدالة والكرامة. كيف لا
وهؤلاء الإباضيون هم "طالبو الحق" بأكفانهم البيضاء وعمائمهم الطاهرة التي
تشير لطهرية اجتماعية وسياسية وثقافية؟! لقد تصدَّى هؤلاء العامة للملوك
الجبابرة وأسقطوهم، وكانت لهم جولات وانتفاضات وثورات ضد الأئمة الفاسدين
والطغاة والمقصرين، وكان المواطن البسيط يسحب "بيعته" إذا رأى أنها لإمامة
لم تعد ذات جدوى. وكان ذلك يتم عبر قنوات ومرجعيات بسيطة ومؤثِّرة، أي أن
المواطن كان شريكًا ورقيبًا، ولم يكن رقمًا مجَّانيًّا في المعادلة.
إن تاريخ عُمان هو تاريخ الأئمة
الإباضيين "الأطهار" بأكفانهم (جلابيبهم) البيضاء، يقتعدون الأرض في
مجالسهم وحولهم أهل الحل والعقد يفصلون في المظالم ويردون الحق إلى أهله،
فالإمام طالب حق كأي عُماني إباضي آخر.
لن أطيل الحديث بشأن ذلك الإمام
العظيم الذي حاصرت السيول سجناءه، فحين همَّ بالسباحة لإنقاذهم أبلغه
مساعدوه باستحالة ذلك، ولكنه أصر على المحاولة، وعلى أداء واجبه في ظروف
صعبة، فهؤلاء السجناء أمانة في عنق "الإمام". سبح الإمام فجرفته السيول
شهيدًا على درب التجربة التاريخية للإمامة العُمانية. إن هذا النموذج في
أداء الواجب، وفي دور القائد، لا مثيل له ويندر على صعيد قومي وأُممي أن
نجد من أمثاله الكثير.
والآن هل لكم أن تتخيلوا حاكمًا
عربيًّا أو زعيمًا عربيًّا يتصدَّى للسيول الجارفة في حالة موت محقق كي
يقوم بواجبه ويُنقِذ سجناءه المحاصرين؟. طبعًا محال ذلك ... محال.
لقد جاء انقلاب 1970، وفي أعقابه
مشروع السلطان قابوس للإصلاح، بمكاسب على صعيد بناء الدولة الحديثة
والتعليم والصحة، ولكن الانغلاق السياسي، والتدخلات الإمبريالية الأجنبية،
والنهب، واستشراء الفساد، وتحكم فئة قليلة في الثروة الوطنية، وتضخم
الأجهزة الأمنية التي افتقدت "المهنية" والحسَّ السياسي ونمتْ داخلها
غيلانُ الفساد، في هذه الظروف كان الحل الأمني هو أسهل الحلول، فانتشر
الخوف والهلع، وسادت قيم المحسوبية والنفاق، فبدلًا من مشروع السلطان قابوس
للإصلاح، والذي كان يقتضي بناء عقد اجتماعي بديل وتسوية تاريخية سياسية
تحفظ توازنًا صحيًّا للقُوى الاجتماعية، فإن كل ذلك غُيِّب لمصلحة الحلول
الأمنية المُتسرِّعة، فأُدخِلتْ جماعات اليسار الوطني والقومي السجون، ثم
بعد ذلك بسنين حُشِرَت جماعات الإخوان المسلمين أو الإسلام السني في
المعتقلات، وهم في الأصل من أطراف النظام، ثم أعقبهم اعتقال جماعات إباضية
كان مشروعها الحقيقي إعادة بعث مؤسسة الإمامة الإباضية وتطويرها. وكان هذا
كله يشير إلى أن ثلاث قُوًى رئيسة في المجتمع قد تمت تصفيتها وإلحاق الأذى
بها خارج كل حوار.
لقد أشرت في روايتي "سنوات النار"
إلى أن هناك داخل النظام من يضع العِصِيَّ في دواليب مشروع السلطان قابوس
للإصلاح، وأن روح الإصلاح قد أصبحت رهينة قُوى فسادٍ لا ترحم. بدا واضحًا
في أثناء الاحتفالات الصاخبة بالعيد الأربعين للانقلاب أن مسار الأزمة
الداخلية قد وصل إلى طريق مسدود، وأن وراء الأكمة ما وراءها.
إن ذلك كله ضروري لفهم اندلاع ظاهرة
الاحتجاجات، فقبل هذا الوقت بقليل أُعلِن باقتضاب الكشف عن شبكة تجسس
هدفها الانقلاب على نظام الحكم، ولاكت الألسنة حكايات عن اعتقالات في أوساط
المكتب السلطاني، ولم يخل بيتٌ في عُمان إلا و(تحدث) عن هذه (الحكاية)
الغامضة، وعن هؤلاء (الرجال) في المكتب السلطاني الذين تسلَّطوا على رقاب
الشعب ونهبوا الثروات ودمروا الأفراد والجماعات وكل الذين لم ينصاعوا لهم
ولم يسجدوا في محرابهم، تحت ذرائع شتى، وبدواعي الأمن الذي اتضح أنهم
يتآمرون عليه (لدى الخارج). وبدا أن الصراع على السلطة يتصاعد، وأن هذه
(الزمرة الأمنية) تتطلع إلى (انقلاب) بحكم ثقافتها الآتية من قاع
البرجوازية الصغيرة المغرمة بالانقلابات والمؤامرات ومنطق العصابات.
لقد جاءت الاحتجاجات والاعتصامات
وكأنها فرصة ذهبية (للشرعية الراهنة) لإسقاط هؤلاء (المتآمرين) وزعزعتهم في
أوكارهم تحت ضغط الاحتجاجات والاعتصامات الشعبية، في وقت خلت الساحات من
القُوى السياسية والقومية والوطنية. لقد تخلى الشعب المتسم بالريبة والخوف
عن هذه الاحتجاجات، وبدت واضحة تحركات بعض المثقفين المرتبطين بالأجهزة
الأمنية، وبعض الجماعات الدينية الغامضة.
ولكن الإيجابي في المسألة أن قطاعات
من الشباب كانت في صميم الاحتجاجات، هؤلاء الذين عملت السلطات على تدمير
ذاكرتهم وعزلهم عن منابعهم الصافية، وجعلهم أسرى الخوف والترويع والرعب،
يكتشفون في الممارسة حيواتهم، ويمتلكون ذاكرتهم الشعبية التي هي خير معين
في كفاحهم من أجل الكرامة والحرية. والأهم في المسألة كذلك أن حاجز الخوف
قد سقط، وأن العجلة تدور، وأن عقارب الساعة تمضي دومًا إلى الأمام، وكما
السيول الجارفة في الطبيعة العُمانية تمضي قُدُمًا، حيث مستقرها الأخير في
حضن البحر الكبير.
· هناك من يرى أن الأحداث ستتأزم سياسيًّا في البلاد بعد فترة لن تطول كثيرًا.
** إن الكثير من الأمور المستقبلية تتوقف على وضع
مشروع السلطان قابوس للإصلاح، هل يمضي قُدُمًا في بناء برلمان ديمقراطي،
وتثبيت دعائم ملكية دستورية بكامل مؤسساتها وآليات عملها، واحترام الحقوق
الإنسانية، ومزيد من خطوات إصلاح القضاء والإصلاح المالي، أم ينكمش المشروع
الإصلاحي، ويرتد على أعقابه، مفسحًا الدرب لمخاطر لا حدود لها؟.
لقد خرج بعض رموز الفساد الذين تمت
إقالتهم كما "الجمل بما حمل"، أي بثرواتهم غير المحدودة وبنوكهم وضِياعهم
ونفوذهم الداخلي وعلاقاتهم بالقُوى الدولية الطامعة. كانت مطالب المحتجين
تقضي بمحاكمة هؤلاء، وإعادة الأموال والثروات إلى الدولة، وقطع رؤوس
الفساد، وإعادة الاعتبار إلى ضحايا هؤلاء من سجناء الرأي الذين تم احتجازهم
وإلحاق الأذى بهم من جرَّاء مكائد لا أساس لها.
· ما رأيك في موقف المثقفين العُمانيين خلال تلك الأحداث
وبعدها؟ هناك من يعتقد أن زيفهم ظهر بلا حجب، وأنهم لم يكونوا أكثر من
طالبي ظهور يركبون الموجة ويميلون حيث تميل الريح.
** في الوقت الرَّاهن لم يعد هناك
في عُمان مثقفون يمثلون طليعة مقدامة لشعبهم، بعد أن باع أغلبهم كامل المثل
العُليا والمواقف الوطنية بأرخص الأثمان، وأصبحوا يصطفون في طابور طويل
أمام الدواوين "متسوِّلين" العطايا والهبات. يتساءل المرء: أيُّ سوسة نخرت
ضمائر هؤلاء؟! بل يغدو السؤال حقيقةً إن كان هؤلاء يحملون ضمائر ويُمثِّلون
قيمة إنسانية حقيقية. إن الشعوب تفرز طليعتها دومًا، ويظل هؤلاء كما نقطة
سوداء في كتاب نضال الشعب الذي تُضيء شعلتُه بدماء الشهداء وتضحيات
المبدعين الحقيقيين.
مَسْرَدٌ يوجز بعض محطات حياة الكاتب أحمد الزبيدي وإبداعه
- درس المرحلة الابتدائية بالمدرسة السعيدية بصلالة وتخرَّج فيها عام 1960م.
- أواخر عام 1962م غادر مدينة صلالة إلى العاصمة مسقط، ومنها إلى المهجر.
- أقام بضعة أشهر في قطر، ورحل منها إلى القاهرة حيث التحق بمدرسة بعثة عُمان بالزمالك.
- درس المرحلة الثانوية بمدرسة أحمد لطفي السَّيِّد بالجيزة، وحصل على شهادة الثانوية العامة في العام الدراسي 1965/1966م.
- التحق بجامعة دمشق، كلية الحقوق، في العام الدراسي 1967/1968م.
- ناشط سياسي ونقابي كرَّس شبابه في
سبيل وحدة الحركة الطلابية العُمانية. وأصبح رئيسًا لرابطة الطلاب
العُمانية بدمشق، ورئيسًا للجنة التحضيرية لاتحاد الطلاب العُمانيين منذ
تأسيسها عام 1968م، وحتى انعقاد المؤتمر التأسيسي للاتحاد الوطني للطلاب
العُمانيين ببغداد عام 1973م.
- عاد إلى وطنه عام 1971م إثر انقلاب
1970م الذي دعا العُمانيين كافَّة إلى العودة تحت شعار عفا الله عمَّا سلف.
لكنه اعتقل إثر وصوله في مسقط، وأُطلِق سراحُه بعد وفاة والده في دمشق
أواخر عام 1971م.
- في 15 يونيو 1978م تزوَّج مريم صالح ناصر الحشَّار العريمية الجنيبية.
- عمل فترة في وزارة الأشغال
العامَّة. نقل بعده إلى وزارة التربية والتعليم حيث قضى عمره الوظيفي "في
غرفة مظلمة"، "مُجمَّدًا"، ودون مسمًّى وظيفي أو عمل.
- عاش مرارة الطغيان في وطنه، وتجرَّع كؤوس الظلم والعدوان واستباحة الحقوق.
- له من السيدة مريم الحشَّار خمسة أبناء هم: عبير، الأحنف، عمر، آمنة، وروان.
- 30 مايو 2009م يُستدعى
للتحقيق ثلاثة أيام بمعدل 10 ساعات يوميًّا في القسم الخاص بشرطة عُمان
السلطانية، وموضوع الاستجواب روايته ومجموعتاه القصصيتان!. ثم يحتجز الأمن
جواز سفره عدَّة أشهر.
- 28 مايو 2011م يرقد الزبيدي في غرفة الإنعاش بالمستشفى السلطاني في مسقط بعد خضوعه لعملية استئصال ورم سرطان الرئة.
- شاعر وروائي وقاص، له كتب منشورة هي:
1- انتحار عُبيد العُماني، قصص، دار الحقائق للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 1985م، الطبعة الثانية: دار كنعان، دمشق، 2008م.
2- إعدام الفراشة، قصص، دار الفرقد، دمشق، 2008م.
3- أحوال القبائل عشية الانقلاب الإنكليزي في صلالة، دار الفارابي، بيروت، 2008م.
قيد الصدور:
1- سنوات النار، رواية.
2- تيث من ظفول (امرأة من ظفار)، رواية.
3- مسار مختلف، سيرة ذاتية.
الهوامش
(1) انتحار عبيد العماني، ص 11.
(2) انظر الرحلة التي قطعها نشرُ (انتحار عبيد العُماني) كما يرويها الزبيدي في الحوار المنشور في هذا الكتاب.
(3) خطأ شائع. الصحيح استخدام "بينما": "بينما: كلمة مركبة من بَيْنَ ظرف زمان وما الاسميَّة الدَّالَّة على وقتٍ حُذِفَ وعُوِّضَ عنه بـما: بينما كنتُ جالسًا...." (المنجد في اللغة العربية المعاصرة).
(4) إعدام الفراشة، ص 33.
(5) إعدام الفراشة، ص 93.
(6) انظر إعدام الفراشة، ص 143، 144.
(7) أحوال القبائل عشية الانقلاب الإنكليزي في صلالة، ص 12.
(8) نفسه، ص 13.
(9) نفسه، نفسه.
(10) خطأ. الصحيح: ولم يكن شحوبها وضجرها هذان تعبيرًا...
(11) انتحار عبيد العُماني، قصة: العُمانية في السّكّة، ص 35.
(12) إعدام الفراشة، ص 44.
(13) نفسه.
(14) نفسه، ص 47.
(15) نفسه، ص 61.
(16) انتحار عبيد العُماني، قصة: العُمانية في السّكّة، ص 36.
(17) نفسه، ص 38.
(18) إعدام الفراشة، قصة زهران المسكري والمستر تابو-صلالة الغربية 1980، ص 106.
(19) أحوال القبائل عشية الانقلاب الإنكليزي في صلالة، ص 79.
(20) أحوال القبائل عشية الانقلاب الإنكليزي في صلالة، ص 11، 12.
(21) انتحار عبيد العُماني، قصة: السيدة صلالة، ص 18.
(22) نفسه.
(23) تهرع إليه. كلمة ساقطة من النص المنشور.
(24) انتحار عبيد العُماني، ص 19.
(25) نفسه، ص 20.
(26) نفسه، ص 22.
(27) نفسه، ص 23.
(28) نفسه، ص 24.
(29) نفسه، ص 25.
(30) نفسه، ص 26.
(31) تنعت
نصوص الزبيدي الخونة والمخبرين بنعوت شتى وتحول شخصياتهم حيوانًا وجمادًا:
"دلف كلب ضخم من الكلاب التي تحوم حول المقابر عادة، اتجه فورًا صوب حساء
اللبن وولغ فيه. حاولت الاعتراض فتساءل ساخرًا مِنو إنْتَ؟ غضبت لكرامتي
المهدورة، فشددت من أزري كيما أقف، فإذا جبال من الصخر في حجم عقبة ريام أو
تزيد تقبع على صدري.
... وانصرف الكلب متبخترًا نحو المقبرة القريبة" (انتحار عبيد العُماني، ص 7، 8).
(32) انتحار عبيد العُماني، ص 7.
(33) نفسه، ص 5.
(34) نفسه ص 8.
(35) نفسه، ص 9.
(36) نفسه.
(37) خطأ مطبعي. المقصود: وتغوَّطتَ.
(38) انتحار عبيد العُماني، ص 10، 11.
(39) هكذا في الأصل.
(40) نفسه، ص 12.
(41) نفسه، ص 11.
(42) نفسه، ص 12.
(43) نفسه، ص 11.
(44) نفسه.
(45) في قصة "زهران المسكري والمستر تابو- صلالة الغربية 1980"
المنشورة في مجموعة (إعدام الفراشة) يقول الراوي: العيون الأجنبية كانت
تسأل صباح مساء، من أنت؟ الشوارع والأرصفة كانت تصرخ فيه: لم أنت هنا؟
والكثير الكثير من الناس إن أرادوا شتمه لم يجدوا أقذع ولا أحط من
"العماني"، وذلك الذي يقبل بالأعمال "الوضيعة" ويدفع بالهجرات الموجة تلو
الأخرى كأنها بحر من التعاسة اضطرب قراره وطفا على سطحه زبد وقاحات العصر
كله" (إعدام الفراشة، ص 121).
(46) هل
المقصود: صمَّتَ أذنيه عن "شتيمة عماني" أم أصمَّ أذنيه عن "شتيمة عماني"
أم صمَّتْ أذناه عن "شتيمة عماني"، أم الاستخدام هنا بالدارجة معناه: ضاق
ذرعًا بـ"شتيمة عُماني" إلى درجة أنه أُصيب بالصمم وما عاد يسمعها؟.
(47) نفسه، ص 12.
(48) نفسه، ص 11.
(49) نفسه.
(50) نفسه.
(51) نفسه.
(52) نفسه.
(53) "إلى" هنا زائدة لا لزوم لها، فالفعل "يبلغ" لا يحتاج إلى حرف جر يتعدى به.
(54) نفسه.
(55) المعجم الوسيط.
(56) شخصية
اعتاد عبيد العُماني على تنبيهها إياه وتلميحها إلى بعض ما لم يلتفت إليه
لكنها لا تقدم له توضيحًا، وهي التي نبهته على السيف المعلق. حضورها مسالم
باعتبارها قطة، وحسب مقتضيات السياق أيضًا قد تبادله الحديث وتتحول إنسانًا
غير واضح الملامح!.
(57) انتحار عبيد العُماني، ص 14.
(58) نفسه، ص 36.
(59) نفسه، ص 37.
(60) نفسه، نفسه.
(61) الصحيح "الوطنية": "الكأس: القدح ما دام فيه الخمر، وهي مؤنثة. و –الخمر نفسها. ج أكْؤُس، وكُؤُوس...." (المعجم الوسيط).
(62) نفسه، ص 40.
(63) نفسه.
(64) نفسه، ص 39.
(65) "التَّوْرِيةُ: مصـ. -:
تغطية القَصْد بإِظهار غيره؛ يميل في كلامه إلى الغمز والتورية. -: في علم
البديع هي إِيراد لفظ له معنيان، قريب وبعيد وإِرادة البعيد منهما، كقوله
تعالى وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأيْدٍ أي بقوّة، وهو المعنى الثاني
البعيد وأما القريب فهو جمع يدٍ". (المحيط). والتورية في سرد الزبيدي لا تأتي من المفردات والجمل فقط بل تتخذ مساحة أوسع وتشكل روحُها إحدى سمات سرده.
(66) في أكثر من منطقة في عُمان تعني "البنديرة" بالدارجة العَلَم أو الراية.
(67) نفسه، ص 38، 39، 40.
(68) نفسه، ص 40.
(69) نفسه.
(70) نفسه، ص 41.
(71) نفسه.
(72) الضمير هنا يعود على المخبر: لم يسمع سلطانُ ولا عبيدٌ ولا رايةُ ولا القوادةُ صوتَ المخبر.
(73) انتحار عبيد العُماني، ص 42.
(74) الصحيح: "جثتين.. إحداهما...".
(75) انتحار عبيد العُماني، ص 42.
(76) نفسه، ص 7.
(77) نفسه، ص 43.
(78) الصحيح: حادث موت الجثتين لا يعدو أن يكون... أو حادثة موت الجثتين لا تعدو أن تكون...
(79) انتحار عبيد العُماني، ص 43.
(80) حانة في مسقط القديمة اشتهرت كثيرًا قبل الانقلاب الإنكليزي.
(81) انتحار عبيد العُماني، ص 43.
(82) جملة غير واضح المقصود منها، هل هو:
كذلك اليوم الذي منحت فيه –أي الشمس- رأس الحسين أشياءها؟ أم: كذلك اليوم
الذي منح فيه رأس الحسين أشياءه؟ أم...؟.
(83) انتحار عُبيد العُماني، ص 44.
(84) إعدام الفراشة، ص 43.
(85) نفسه.
(86) نفسه، ص 40.
(87) "السَّمَّان" في المعجم
هو"بائع السمن. و – أصباغ يزخرف بها". ولعل المقصود هنا حسب المعجم هو
"السُّمانى: ضرب من الطير. واحدته: سُماناةٌ". وفي معنى "السَّلوى" نقرأ:
"كلُّ ما سلَّاك. و– السُّمانى: وهو طائر صغير من رتبة الدجاجيات، جسمه
منضغط ممتلئ، وهو من القواطع التي تهاجر شتاءً إلى الحبشة والسودان،
ويستوطن أوربة وحوض البحر المتوسط. واحدته: سَلواة" (المعجم الوسيط).
(88) إعدام الفراشة، ص 41.
(89) خطأ مطبعي. المراد: شَزَرًا: "شَزَرَ إليه: نظر إليه بمؤخِّر عينه، وأكثر ما يكون في حال الإعراض أو الغضب" (المعجم الوسيط).
(90) يعاني استخدام علامات الترقيم من
عدم وضوح وارتباك في الأعمال الثلاثة، ويكثر استخدام النقاط الثلاث الدالة
–حسب المتعارف عليه- على كلام محذوف، وهذا أمر يفهم تمامًا في سياق الأعمال
الثلاثة بعكس الخلل في علامات الترقيم الأخرى، وخاصة الفاصلة (،) والنقطة
(.).
(91) إعدام الفراشة، ص 42.
(92) نفسه، ص 38.
(93) نفسه.
(94) اسم تجمع سكاني في مسقط.
(95) خطأ شائع لم يعتمده مجمع اللغة
العربية ولم يورده في المعجم الوسيط على الرغم من أن معاجم أخرى حديثة غير
معتمدة أوردته. الأصح: مصادفة.
(96) نفسه، ص 42، 43.
(97) نفسه، ص 44.
(98) نفسه.
(99) خطأ شائع. لا يجوز استخدام حر الجر
(في) والاسم الموصول (ما) استخدام الظرف، والصحيح: بينما: بين زيدت عليها
ما فصارت بينما: ظرف زمان بمعنى المفاجأة.
(100) إعدام الفراشة، ص 44.
(101) نفسه، قصة "المواسم"، ص 55.
(102) المعجم الوسيط.
(103) إعدام الفراشة، ص 57.
(104) نفسه، ص 143.
(105) نفسه، ص 144.
(106) نفسه، ص 145.
(107) نفسه، ص 150.
(108) نفسه، ص 153.
(109) شخصية المثقف الانتهازي في رواية الزبيدي "أحوال القبائل عشية الانقلاب الإنكليزي في صلالة".
المادة
المنشورة مستلة من كتاب (الثورة والانقلاب الإنكليزي.. دراسة في شخصيات
أحمد الزبيدي وفضاءاته السردية)، الذي سيصدر عن دار الفارابي في بيروت خلال
الأيام المقبلة.
|